في الحلقة الثانية من سلسلة مقالاته يواصل باسل رمسيس الحكي عن تجارب نساء اقترب منهنّ. بعد حكاية منال في الحلقة الأولى؛ يأخذنا باسل إلى منطقة أكثر خصوصية يحكي فيها عن والدته، أو كيف أصبحت ابنة القمص زوجة شيوعي ومعتقَل ومطارَد من قبل نظام جمال عبد الناصر.
لا أحد يعلم كل الأشياء عن أمه. لا أحد يعلم كل الأشياء عن أي شخص آخر، أو حتى عن نفسه. مع الاعتذار للمخرج الإسباني بدرو ألمودوفار الذي سمى فيلمه الأشهر بـ "كل شيء عن أمي"، ولم يحك شيئا عن أمه.
هي "أستر فيلبس بطرس"، ولدت في 15 أبريل من العام 1942. أمي هي أصغر الأبناء السبعة لأبيها القمص في كنيسة المرقصية بشارع النبي دانيال بالإسكندرية. ولدت وعاشت في بيت الكهنة الذي له بابان، باب على الشارع وباب على الكنيسة مباشرة. ولأنها الأصغر كانت مدللة في الكنيسة، وفي المنزل بين هذه العائلة الكبيرة التي تضم الكثير من الكهنة. ولأنها المدللة، ولأن جدي القمص فيلبس لم يكن متزمتا، وكان يترك لجدتي مهمة إدارة هذه العائلة -ربما لأنها الشخصية الأقوي، أو لأنه كان مترفعا عن هذه الإدارة، أو كان مشغولا بمهامه كقمص- لم تجد أمي نفسها مجبرة يوما على ممارسة أية طقوس دينية، من أبسطها لأكبرها.
وفقا للحواديت التي كانت تحب هي وأبي أن يحكوها لنا عشرات المرات، أن أبي بدأ في التردد على بيتهم حين إلتحق بكلية الحقوق بجامعة الإسكندرية، وزامل أحد إخوتها الذكور، "خالي منير". لكن رمسيس لبيب الذي بدأ يهتم بالسياسة، وبدأ في الاقتراب من التنظيمات الشيوعية السرية، بعد أن تعرف على بعض الشيوعيين من الجامعة في معسكر التطوع خلال حرب 1956، كان لا يزال مترددا بين السياسة وبين الأدب الذي كان قد بدأ كتابته في مرحلة الثانوي. وبسبب هذا الاهتمام بالأدب والشعر توطدت صداقته أكثر بالأخ الأكبر لأمي، "خالي فرح"، الذي كان يكتب بعض الشعر.
أبي كان واضحا في مشاعره وأراءه، ولدرجة الحسم في أحيان كثيرة. وفي المشاعر كان من المستحيل أن ينجح في تخبئة مشاعره تجاه الآخرين. ففي أحد المرات، وهو لم يزل في كلية الحقوق، صرّح لخالي فرح بحبه لأستر، وباعتقاده بأنها هي أيضا تحبه.
أستر لم تكن وقتها سوي مراهقة، تنتظر حضوره المتكرر لبيتهم و"تتلكك" كي تراه وتحادثه. وخالي فرح لم يتردد في الحسم، فهو الأخ الأكبر، وليس في حاجة لرأي أستر أو رأي العائلة. فأجاب أبي باستحالة إقتران بنت القمص به. فهو معرض للاعتقال في أي وقت كونه مجرد "صايع" شيوعي، كما كان يصفه هو وخالتي "هنية" فيما بعد بتحبب حتى وفاتهما. وأن الخيار الوحيد المتاح أمامه إن كان يرغب حقيقة في الاقتران بأستر، هو أن يعده بقطع علاقته تمامًا بالعمل السياسي والشيوعية، أو على الأقل تخفيف هذا الارتباط. ولأن أبي كان يتفوق على خالي فرح في الحسم؛ فقال له هذه الجملة التي حكاها لنا كثيرًا "اعتبر أني ماكلمتكش في أي حاجة". وانقطع تمامًا عن بيت القمص.
يقولون عن جدتي زوجة القمص، التي لم أرها، أنها كانت شديدة الذكاء وقوية الشخصية. كانت قد انتبهت لحب ابنتها لرمسيس، الذي كانت تفضّله من بين أصدقاء أبناءها وبناتها السبعة، ولاحظت إنقطاعه عن زيارتهم، فاستدعته بحضور القمص وسألته مباشرة عن سبب إنقطاعه عن منزلهم. ولأنها بذكائها كانت تعرف أبي جيدًا لم يفاجئها بصراحته ووضوحه، أخبرها بحواره مع خالي فرح، وعن هذا التخيير الذي يرفضه ما بين أستر والتزامه بالنضال السياسي.
رمسيس لم يفاجئ جداي. جدتي هي من كانت قد أعدت له المفاجآة، قائلة بثقة "أنا والقمص هانديك أستر".
معندناش أحسن منهم
تزوج أبواي، وبعد شهور قليلة من هذا الزواج، وأثناء حمل أمي في أختي الكبرى إيمان، تم اعتقال أبي في نهايات 1962. لكن أبي لم يعتقل بمفرده، بل تم اعتقال أستر معه، فقد كانت تشاركه بالفعل العمل التنظيمي السري، وطبع البيانات على طابعة يدوية في غرفة نومهما. ودائما ما كانت تحكي عن هذه الليلة، وعن التعب الذي لم تكتمل نتيجته. كيف أنها كانت تنهي طباعة المجموعة الأخيرة من بيان ما، خرج أبي لشراء السجائر، إستعدادا لليلة طويلة ستشهد توزيع البيان عند مداخل البيوت. فتم اعتقاله من الشارع، صعدوا به للمنزل، صادروا الكتب والمطبعة والبيان، وأعتقلوهما سويا. أمي لم تقض في الحجز أكثر من ليلة أو ليلتين على الأكثر. يقال أن البابا كيرلس، صديق عبد الناصر، تدخل للإفراج عن ابنة القمص الحبلى.
قضي أبي سنتين في السجن، خرج مفصولا من عمله، وممنوعًا من العمل المستقر، لأنه كان ممن رفضوا قرار حل الأحزاب الشيوعية، حتى عاد إلى عمله بعدها بسنوات بقرار من المحكمة. خلال فترة قطع العيش، حدثت المفارقة الثانية التي أعلمها عن جدتي، وهي أنها أعطت ابنة أخري لها، لم تكن قد تزوجت بعد، رغم أنها كانت أكبر من أستر، لأحد الشيوعيين من زملاء أبي في السجن، وبالصدفة كان أسمه أيضا "رمسيس" قائلة "أنا والقمص معندناش أحسن من الشيوعيين نديهم بناتنا".
هل قالتها فعلا، أم هي الأساطير العائلية؟
هل صليت اليوم؟
موقف القمص وزوجته لا يعني أن عائلة أستر الأوسع كانت مرحبة باقتران الشيوعيين ببناتها. لكن أستر ورمسيس أدارا المسألة بحكمة طيلة مايقارب الخمسين عاما. كانت العائلة تعلم جيدًا أن رمسيس لا يصلي، ولا توجد أية علاقة تربطه بأية طقوس دينية، فيما عدا ذهابه ليلة العيد إلى قداس الكنيسة مصطحبا أطفاله، كي لا نشعر بأننا مختلفون عن العائلات المكتملة التي تحتل الكنيسة ليلتها. يقف قليلا في آخر الصفوف، ثم يختفي، وانقطع تماما عن هذا الطقس حين كبرنا قليلا.
رمسيس كان يدافع عن فكرة ذهاب أبناءه الصغار للكنيسة لاعتقاده بأنها ستمنحهم مجموعة من القيم والأخلاقيات التي يحرص على تدعيمها في وجدانهم، وهي أخلاقيات إنسانية عامة وليست دينية. أما أستر، فحتى أبنائها لا يعلمون حتى اليوم موقفها من الدين، سوي أنها كانت تمتنع عن طبخ اللحوم خلال أسبوع الآلام السابق لعيد القيامة. ترتدي الملابس السوداء يوم الجمعة الحزينة. وتقضي بعض الوقت في القداس الطويل بالكنيسة القريبة.
ربما كان ذهاب أمي لقداس الجمعة الحزينة وبكائها هناك حدادًا على أمواتها وأحبابها الراحلين، لطبيعة هذا اليوم تحديدا. لكنها انقطعت عن هذا الطقس مع بداية حدادها الحقيقي: رحيل رمسيس.
رجوعا لموقف العائلة الأوسع والمليء بالكهنة من إنعدام تديننا، تجنبت أستر الدخول في أي حوارات حول الدين أو الإيمان مع الجميع حتى مع أبنائها. لكنها كانت حريصة على الاحتفاظ بعلاقات حميمة هي ورمسيس مع جميع العائلة، من أكثرهم إنفتاحا، إلى أكثرهم إنغلاقا، مع صرامة مقابلة في عدم السماح لهذه العائلة الواسعة بأي تدخل في معتقداتها هي وأبي، أو في معتقدات أبنائهما، وتورط أغلبنا اللاحق في السياسة. ولأنهما كانا بالبلدي "أصحاب واجب"، وكان أبي يجيد الاستماع إلى مشاكلهم جميعا دون أي تعال أو نفور، تم ترسيخ كود القبول الاجتماعي من العائلة، المبني على الاحترام وعدم التدخل.
ربما كانت اللحظة الوحيدة التي تم كسر هذا الكود خلالها، هي عند صلاة الجنازة على أبي في نفس الكنيسة التي تزوج فيها أستر، وهي نفس كنيسة جدي، المرقصية بالإسكندرية. حين تحدث القسيس الشاب قليلا عمن لا يؤمنون بالرب، وكيف أنهم خاطئون. هذا القسيس هو قريب بعيد لأمي، لم يعرفها جيدا، ولم يعرف أبي يوما. وحماقته تنتمي لزمن مختلف عن زمن جدي القمص الذي زوج بناته للشيوعيين.
المكسب ليّ والخسارة بالنُص
أبي الذي كان قبل السجن يبتعد تدريجيا عن الأدب لصالح العمل السياسي المباشر، لم يستطع الالتزام بنفس الخيار بعد النصف الأول من الستينات وخروجه من السجن. فالتنظيمات الشيوعية كانت قد حُلّت، والتنظيمات الجديدة تأخرت في التكوين وكانت متعثرة، وكان يري ضرورة إبداع منهج جديد في العمل الشيوعي السري، ويعترف بأنهم لا يمتلكون هذا المنهج بعد. فاستعاد طاقته للكتابة، مع إحتفاظه بهويته كمناضل شيوعي، وبصداقة وقرب من أغلب التنظيمات الشيوعية السرية، ودفع التبرعات القليلة لها أحيانا، مقتطعا من المال القليل الذي يربي هو وأستر أولادهما به.
ولكن الكتابة تحتاج للنشر، وأبواب النشر مغلقة أمامه، ربما لأنه ليس اجتماعيًا، ربما بسبب مواقفه السياسية، ورفضه الاقتراب من دوائر الدولة للنشر، وربما بسبب هوسه باستقلاليته الفكرية والسياسية، أو خوفه من تأثير محتمل للراحة المادية إن وصلت إلى بيتنا وتعلقنا بها، وربما بسبب الترفع أو الكسل، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة. فيتخذ في منتصف السبعينات هو وسعيد حماد زميله في السجن وأقرب أصدقائه، وصاحب مطبعة الثقافة الجديدة بالإسكندرية، قرارهما بالطباعة المشتركة على حسابهما للمجموعات القصصية والروايات التي يكتبها أبي. عم سعيد قال لأبي "المكسب ليا والخسارة نقسمها". وكان واعيًا بأن الخسارة حتمية، وأنهما لن يعرفا مكسبًا، وهو ما تحقق بالفعل. لكن صموده وصمود أستر ورمسيس لم يتوقف، وأصروا خلال سنين طويلة على طباعة الكتب ومراكمة الخسائر.
رمسيس كان كائنا بيتيًا، لم يحب الخروج كثيرًا، إلا لو كان مضطرًا، أو لارتباط هذا الخروج بالالتزام السياسي. حين أحاول تذكر بكائي الطفولي الأول أصل إلى سرير صغير، وأختي الكبري تحتضنني وتغني لي أغنية فيروز "شادي" كي تهدأني –أسمت أبنها الأول شادي بعدها بسنوات- وكان البكاء بسبب غياب أمي وأبي. وعيت فيما بعد بأن هذا الغياب كان بسبب مواظبتهما كل يوم سبت على الذهاب إلى نادي السينما القائم وقتها.
ولولا أستر، فقد كان رمسيس سينعزل في المنزل، ويستجيب مبكرًا وتمامًا لاكتئابه، هذا الاكتئاب الذي إجتاحه دوريا بعد هزيمة انتفاضة 18 و19 يناير 1977.
هي تحب مقابلة الناس، وهي من جعلت بيتنا مفتوحا لكل الناس ممن يشبهونها ويشبهون أبي، من أجيال مختلفة ومن مهن وأجواء متباينة. بداية من أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام، وصولا للشيخ رضوان، الإخواني النوبي الذي تعرف على أبي في السجن، وتزاملا في محل العمل بعدها، وكان يسأل أبي في كل مرة يأتي فيها إلى بيتنا عن إتجاه القبلة، ويسأل أستر عن الملاءة المعتادة البيضاء والنظيفة التي تضعها له كي يصلي.
كنت دبحتها
أمي الاجتماعية الضحوكة صاحبة البيت المفتوح، لم تفتقد للصرامة وقت الضرورة. في عام 1986 وبسبب إحتجاجات الجامعة بسبب عدد من الأحداث السياسية، يتم اعتقال أختي الكبري إيمان مع عدد من زملائها وزميلاتها في كلية الهندسة بجامعة عين شمس. إيمان التي ولدت أثناء اعتقال أبي، تخرج من السجن بعد ثمانية أيام. يتجمع أصدقاء أستر ورمسيس في بيتنا للاحتفال بخروجها، وأستر تقدم الحلويات التي تجيد صنعها، والتي يطلبها ضيوفها عادة. طالت السهرة فدخلنا للنوم أختي أمل وأنا وبقيت إيمان. لنستيقظ بعد وقت قليل على جو متوتر، أحد أصدقاء وزملاء أبي في العمل أتي هو وزوجته من ضمن المحتفلين بالإفراج عن إيمان. وقال عبارته التي من المستحيل أن تقبل بها أستر أو يقبل بها رمسيس. قال مشيرًا لأختي الكبري المفرج عنها، والتي كانت محل فخر أبي وأمي "لو كانت بنتي كنت دبحتها". وبحسم تطرده أستر من البيت. لم يعودا لمنزلنا إلا بعد شهور، وبعد اعتذار واضح لإيمان ولنا. لكن أستر لا تنسى أو على الأقل كانت أيامها لا تنسى برغم قدرتها على التسامح. قبلت الاعتذار لكن هذه الصداقة كانت قد انتهت.
لا أتبين تفاصيل المشهد جيدا، إلا أنه كان صيف 1982، عادت أستر إلى المنزل تبكي قليلا من الألم، لكنه بكاء غريب مختلط بابتسامات ودعابات بينها وبين أبي، عادت بملابس لا يمكن وصفها بالمهندمة، وظلت تشتكي من الألم في رأسها وواحدة من أذنيها لأيام. فقد كانت تشارك في وسط البلد في مظاهرة نسائية للتضامن مع الفلسطينيين واللبنانيين المحاصرين في بيروت وقتها، والعسكري الغشيم ضربها بالعصا على رأسها فأصاب أذنها.
المظاهرة الأخيرة للمحرقة
في حقبة الألفين لم أري أمي في المظاهرات إلا قليلا، بسبب زياراتي المتفرقة والقليلة لمصر. لكنني شاهدت صورا لها مع أبي مشاركين دائمين في التظاهرات الأولي لحركة كفاية وحتى وفاة أبي عام 2007. واحدة من هذه الصور هو مقطع فيديو صنعته أسماء يحي الطاهر عبد الله، للواقفين بالشموع ليلا في ميدان طلعت حرب، وأبي وأمي بينهم يبكيان على الراحلين في محرقة مسرح بني سويف 2005. كان أبي يبكي متعبًا، وقد تراكم عليه الاكتئاب والحزن والوجع والإخفاقات. وأمي وراءه قليلا تبكي أيضا، وكعادتها بصمت، تتطلع إلى أبي وهي تعلم بوجعه، أو ربما تعلم أن رحيله قد اقترب.
اقرأ أيضًا لبيتر هيسلر عن المدينة والثورة بعين صحفي أمريكي: القاهرة.. شيء يشبه قصة الحب
في فجر يوم1 فبراير 2011 وصلت من جديد للقاهرة بعد مغادرتها بعشرة أيام، كي أشارك في الثورة. وصلت فجرًا، ولم أجد الفراخ المسماة بـ "البانيه"، التي تحضرّها دائما من أجلي ليلة وصولي، لنسيانها الدائم بأنني لا أحبها. وضعت أمامي بضعة خيارات وجبن وبيض وبقايا خبز، حاكية لي كيف يقومون بتجويع الناس وعقابهم على ثورتهم. وكلها حماس لمرور الساعات ونزولنا مع أختي أمجاد وأبنائها إلى التحرير للمشاركة في المليونية الأولي.
دخلنا الميدان الساعة الثامنة صباحا، ولم تغب عنه في أي يوم حتى سقوط مبارك، واحتفالها القصير مع الناس، وعودتها للمنزل. ولم يفوتها، هي وصديقتها "ليلى" أيا من الاحتجاجات أو المواجهات خلال عامين ونصف، وصولا ليوم 3 يوليو 2013.
عجوزتان في الميدان
صديقتها ليلى معروفة لدينا بـ "طنط ليلى حسين" لتفريقها عن صديقة أخرى "ليلى نور". ليلى هي زوجة الراحل الشيوعي حسين عبد الستار. واحدة من أقرب الصديقات إلى أمي منذ أعوام المعتقل بداية الستينات. كانت في علاقة حب مع حسين عبد الستار، الذي لم يتمكن من خطبتها قبل أن يسجن، وبالتالي حرمت من حقها في زيارته. تعرفت على أستر على أبواب المعتقل، أصبحتا صديقتين مثلما صادق أبي حسين على الجانب الآخر من الأسوار، أمي تدخل مع أيمان الصغيرة لرؤية أبي، وتبلغه بالرسائل التي ترسلها ليلى لحسين.
توفي عم حسين مبكرا، تاركا لليلى ابنتين، وتاركا إياها بثياب سوداء أصبحت زيها الدائم، لكن في حالة من النشاط والدأب الذي لا يتراجع. مشاركة في كل الاحتجاجات وأغلب الندوات والمناسبات والعروض السينمائية. بعد الثورة تتزامل هي وأمي في الميادين والشوارع. يجلسان حول صينية الميدان بملابسهما السوداء وشعرهما الأبيض، لينبهان علي وعلى أصدقائي بالحذر قبل التوغل في الصفوف الأمامية للمواجهات. لكنهما لا يغادران الشارع رغم الغاز والرصاص والعمر الذي تقدم كثيرا.
لكن مشاركة أمي في أحداث 30 يونيو/3 يوليو كانت فاترة. غاب عنها حماس الأيام الأولي للثورة، ومعارك السنتين. أستر لم تقرأ غالبا كتبا "عميقة" في السياسة أو في التاريخ. لكنها بوعيها الذي إكتسبته من قراءة الأدب، وخبراتها الشخصية، وحسها الاجتماعي، ورفقتها لرمسيس طيلة 50 سنة، لا يمكن أن تثق في العسكريين أو في أجهزة الأمن. أدركت منذ اللحظة الأولي بإحساسها المرهف أن القادم أياما سوداء، وإن صفق الكثيرون للجنرال.
بعد وفاة أبي في نوفمبر 2007 دخلت أمي في حزن عميق لا ينتهي، يتواصل ويثقل أكثر وأكثر بالوحدة وبصور أبي المحيطة بها، والتي تحب أن تريها لزوار بيتنا. أيام الثورة كانت كثيرا ما تشهر حسرتها لأن أبي قد رحل قبل أن يشهد تحقق حلمه الذي عاش كل حياته من أجله.
ربما كان إلتزامها مع طنط ليلى بالميدان وبشوارع وسط البلد وقت المواجهات، إستعادة لمشهد الوقوف في الشمس لساعات طويلة أمام بوابات السجن وتحدي السلطة بدايات الستينات. ربما يكون هو نفس مشهد الانتظار القديم، أو محاولة لمشاركة الراحلين في هذا المشهد الجديد، مشهد تحقق الحلم واحتشاد الجموع الغاضبة في الشوارع وعراكها لبناء عالم جديد، مشاركة الراحلين عبرهما، عبر حبيبتيهما.
حسرة أمي على عدم مشاهدة أبي للثورة، تحولت بعد 3 يوليو إلى جملة "الحمد لله أن أبوك مات وماشافش الأيام السودا دي، كان هايحزن".