يقوم عمي بنصب طاولة التلفزيون الملون على عتبة المنزل، يضع خزانته أولًا على الطاولة، ثم التلفزيون الملون الذي أتى به جدي من السعودية بعد رحلة الحج الأولى.
عادة ما كانت خزانة هذا التلفزيون مغلقة عليه، ويا ويل من تمتد يديه عليه دون معرفة جدي، لكن في ذلك اليوم عام 1986حيث كأس العالم، بدا الأمر مختلفا.
كنت في الرابعة والنصف، عامي الأول في روضة الأطفال، كما ابنتي اليوم، لا أفهم ما الذي يحدث، ولا كيف وافق ذلك الجد الجبار الذي كنت أخشى أن أصدر صوتًا في حضرته، والممنوع عليَّ تمامًا أن أدخل حجرته في غيابه، أن يوضع جهازه الأقرب إلى قلبه في الشارع، هذا الجهاز الذي يخصصه فقط لمشاهدة حديث الروح ونشرة التاسعة قبل أن يغلق عليه خزانته إلى اليوم التالي، بينما تكتفي بقية الأسرة بالفرجة على التلفزيونين الصغيرين غير الملونين.
يتحلق سكان شارعنا حول التلفزيون، أحاول مقاومة النعاس، لكني أفشل تماما، فتحملني جدتي للداخل كي أنام.
يتكرر ذلك المشهد يوميا بعد الإفطار، وأفشل كل مرة في السهر لذلك الوقت، مع كل محاولات جدتي كي آخذ قيلولة، لم أستطع مشاهدة ولا مباراة واحدة (لم أنجح أبدا في النوم في منتصف النهار، كي أربي سهرة، كما كان يقال في ذلك الوقت).
أسمع الأطفال في الأيام التالية يغنون للـ"ماكرونا"، لم أفهم في البداية هذه التي يغنون لها، لكنني أحبها أنا الآخر فأنطلق في الغناء معهم، لا أتذكر من تلك الأغنية سوى"إدي إدي له، دخل الجون بإيده". كيف أدخلت المكرونة الهدف بيدها؟ سؤال أخر أضيف لقائمة أسئلتي الطويلة في طفولتي.
بعد أربع سنوات كنت في الحج مع أبي، يسلم على كثير من الأفارقة بحماس وفرحة، وهم يردون بنفس الحماس، فهمت بعد ذلك أن مصر والكاميرون تأهلتا لكأس العالم عن أفريقيا، شاهدنا مباراة الكاميرون ورقص ميلا بعد الهدف، تلك الرقصة هي أولى ذكرياتي الحقيقية مع كأس العالم، وكذلك إدراكي للمرة الأولى بأننا أفارقة.
مع كأس العالم 1994 تزامنت مراهقتي، وأيضا بداية اهتمامي بمشاهدة كرة القدم، أتممت عامي الثاني عشر وأنا أشاهد لأول مرة بتركيز واهتمام المباريات التي كانت تذاع على القنوات الأرضية، اشتريت (للمرة الأولى والأخيرة) المجلات الرياضية، تابعت باهتمام كل برامج التلفزيون والراديو، تعرفت على روماريو وبيبتو، جورجي هاجي، روبرتو باجيو، ماتياس زامر، يورجين كلينسمان الخ.
في تلك الفترة من التسعينات، كانت أغلب المباريات والبطولات القارية والعالمية تذاع تلفزيونيًا، أتذكر في عامي الأول في امتحانات الثانوية العامة، كنا نشاهد مباريات كوبا أمريكا 1999 قبل أن نذهب للامتحان، كانت دفعتنا هي الدفعة التي لم تعرف ما هو النظام التعليمي الذي يطبق عليها، بعد أن ألغي التحسين (نظام تعليمي حجري، أتاح للبعض أن يحصد 105% وأكثر في المجموع الكلي) ولم تعرف وزارة التربية والتعليم ماذا تفعل بعد ذلك، أتعود بنا للنظام القديم أم تخترع نظامًا جديدًا أم تتركنا لمشيئة الله؟
بنهاية التسعينات، انتهى العصر الذهبي للبث المباشر المجاني للرياضة، وبزغ نجم ART الاحتكاري، وأفل، ومن بعده جاء الوحش، المسمى بالجزيرة الرياضية (beIN sports حاليا). في تلك الفترة، أصبح الذهاب للمقهى إلزاميا كي تشاهد المباراة، لم أتمكن من إقناع عائلتي بأني يشتركوا خصيصا في قنوات مشفرة لأشاهد مباريات كرة قدم، جربت في تلك الفترة كل الطرق، نجح بعضها مثل شراء كارت مقلد للرسيرفر أو الاشتراك في وصلات مع آخرين الخ، لكن كل تلك الحلول كانت مؤقتة، حيث كانت القنوات تغير شفراتها بشكل دوري، أو تقوم شرطة المصنفات بمصادرة الأجهزة.
مع الوقت، زهدت مشاهدة الرياضة، يمكن إرجاع جزء من ذلك إلى السياسة، وكوني "زملكاوي"، لكن الجزء الأكبر كان كرهي للمقاهي، التي أضطر لمشاهدة المباريات عليها.
مرت السنوات، قمنا بالثورة، فشلت الثورة، خرج علينا السيسي، ولم تعد الحياة كما كانت من قبل، عدت إلى اهتماماتي الصغيرة، تذكرت أغنية المكرونة، التي أدرك الآن أنها كانت عن أعظم لاعب وطأت قدمه أرضية الملعب دييجو أرماندو مارادونا، وعدت أحاول أن أشاهد المباريات.
لم يطاوعني قلبي أبدا أن أدفع أموالا في اشتراك لقناة، وأصبحت أعيش في منطقة لا تتوافر فيها وصلات دش، أصبحت أتابع المباريات على مواقع البث المباشر، والتي من أجلها قمت بتنصيب العديد من موانع الإعلانات والتتبع والتعدين، وفصلت الإنترنت عن كل الأجهزة عدا اللابتوب، أتنقل بين المواقع، أصل إلى موقع برازيلي، أتابعه إلى أن يزداد عدد زائريه فتصبح المشاهدة مستحيلة، أغادره إلى آخر أوكراني، ومن ثم روسي، إلى أن عرفت بالصدفة عن الـ IPTV.
أربعة حروف تختصر Internet Protocol TV، وهو بروتوكول بدأ عام 1995 على يد جويث إيسترن وبيل كاريكو لتطوير تطبيقات نقل بث الفيديو عن طريق معرف النطاق (IP)، وهو ينقل الآن بث القنوات ويستخدم لمشاهداتها عددًا من مشغلات الفيديو، أو برامج مخصصة لذلك، بعضها مفتوح المصدر والأخر مغلق.
مر ذلك البرتوكول بعديد من التطورات منذ ذلك العام، فقد تبنته شركة كينجستون للاتصالات لنقل البث التلفزيوني، باشتراك شهري مع باقات الانترنت التي تقدمها للمستخدمين في بريطانيا بداية من عام 1999، وبعد ذلك، تبنى العديد من مزودي خدمة الانترنت ذلك البروتوكول في كل من كندا واستراليا مرورا بالهند والصين وانتهاءً بكوريا الشمالية.
في البداية اعتبرته مجرد بروتوكول مثل كل البروتوكولات، كان بديهيًا بالنسبة إليَّ أنه ينبغي أن أكون خارج مصر لأستفيد من هذه الخدمة، حتى سمعت عن "كودي"، ثم عرفت أن VLC يقوم بمهمة مشابهة، تتيح للمستخدمين أن يشاهدوا بث أي قناة فضائية عبر أجهزة الكومبيوتر المتصلة بإنترنت سريع، وهنا تغيّر كل شيء، وأصبحت الخيارات أوسع من القنوات المشفّرة أو المقاهي الصاخبة، ولكن هذا حديث آخر.
لقراء الجزء الثاني من المقال اضغط هنا.