"النظام الأردني ينهار"، "الأردن يشهد بداية جديدة للربيع العربي"، "صفقة القرن ستكون على حساب الهاشميين"، "إنها الثورة المدنية في الأردن"، "كيف يمكن للقوى اليسارية أن تبني تحالفاتها في ظل الاحتجاجات؟"، "تنازع الطبقات الوسطى والفقيرة في الحراك الأردني"؛ انتشرت هذه المقولات المتسارعة وكأن مُطلقيها قد كشفوا الغطاء الدفين عن احتجاجات الأردن، بل ومآلاته المستقبلية، ولكننا هنا سنطرح فرضية مُختلفة تمامًا عن كل هذا.
سنبدأ من الماضي غير البعيد، شهد الأردن في ثمانينيات القرن الماضي أزمة اقتصادية طاحنة، أعادها الملك حسين آنذاك إلى الضغوط الأمريكية على الأردن بهدف تمرير بعض السياسات التي تصب في صالح السلام مع إسرائيل، نجا الأردن من هذه الأزمة بفضل تحالفه مع نظام صدام حسين الذي سارع إلى احتضان الأردن، إلى حد جنوح الملك حسين نحو تأييد العراق في حرب الخليج الثانية، ومع هزيمة العراق؛ خمن ماذا حدث؟ وقّع الملك حسين معاهدة وادي عربة مع إسرائيل في 1994، وكان المبرر هو الحفاظ على استقرار الأردن.
اعتماد الأردن على الخارج يعد خاصية هيكيلة في اقتصادها، وعادة لا يجد الهاشميون صعوبة في جذب الأموال من الخارج، وشهدت فترة الربيع العربي (وهي أزمة بدورها أكبر من الحراك الأخير) زيادة هائلة في حجم المساعدات، حيث قفزت من 733.31 مليون دولار في مطلع 2011 إلى 3.0514 مليار دولار في مطلع 2012، ثم 2.667 مليار دولار في 2015، وأتت هذه الزيادة بالأساس من دول مجلس التعاون الخليجي والولايات المتحدة الأمريكية.
ومع خفوت الحراك الاحتجاجي في الأردن، وتغيير الإدارة الأمريكية، واتجاه الأجندة الإماراتية والسعودية نحو السلام مع إسرائيل، بدا أن الأردن لم يعد على قمة أولويات صناع القرار في الخليج، تراجع الدعم السخي في ظل استقرار الأردن النسبي وانصراف السعودية عن خطة الإطاحة ببشار الأسد، فكان الأردن من أبرز معاوني السعودية في العمليات العسكرية في سوريا.
إلا أن هذا الانصراف لا يعني أن السعوديين يتوجهون نحو التخلي عن الهاشميين كما يروج البعض، فبديل الهاشميين يظل هو الإخوان المسلمين، وهو خيار كارثي بالنسبة للسعودية، صحيح أن هناك بعض الاستياء الأردني من التقارب السعودي الإسرائيلي، لكنه لم يتطور لدرجة خسارة العلاقات مع السعودية.
وبالنسبة لإسرائيل لا يعد الوضع مختلفًا كثيرًا، فيقتضي تمرير صفقة القرن أن يكون الأردن في حالة مستقرة، والإسرائيليون من الذكاء بما يكفي لجعلهم لا يقامرون بخسارة حليف قديم نسبيا مثل الأردن في مقابل تحالف جديد غير معروف مستقبله مثل السعودية، كما أن هناك خطر سيطرة فلسطيني الأردن على الحُكم في حال سقوط الهاشميين، وهذا بدوره خيار غير مقبول، ووصل الأمر في السبعينيات إلى تلويح إسرائيل بالتدخل العسكري لحماية النظام الهاشمي، وذلك في أحداث "أيلول الأسود".
إذن؛ ثمة مخاطر هائلة في حال سقوط الهاشميين بالنسبة للسعودية وإسرائيل، وهو ما يدركه صانع القرار الأردني، ويعرف أن تراجع المساعدات هو محض ضغوط تكتيكية لإجباره على خفض نفوذه فيما يتعلق القضية الفلسطينية لصالح دور سعودي مُنتظر، ومع تراجع المساعدات، كان المشهد يقود ناحية إعادة لفت الانتباه لخطر سقوط الهاشميين.
من وراء الاحتجاجات في الأردن؟
وفقًا لتوصيات صندوق النقد الدولي، ينفذ الأردن برنامجًا إصلاحيًا منذ ثلاث سنوات، فشل في وضع حد لأزمة الاقتصاد في الأردن، ووصلت نسبة البطالة في عام 2017 إلى 18.5% وهو معدل غير مسبوق، وارتفعت المديونية إلى نسبة تخطت الـ 95% من الناتج المحلي، وازداد الأمر سوءًا مع انخفاض المساعدات السعودية للأردن من 474.3 مليون دولار في 2015 إلى 165 مليون دولار فقط في 2017، كما انخفض حجم المنح الخارجية بنسبة 45% خلال التسعة شهور الأولى من 2017 مقارنة بنفس الفترة في عام 2016، ويجد الإشارة إلى أن الأردن قد حصل على دعم خليجي (السعودية-الإمارات-الكويت) في الفترة من 2011 إلى 2015 وصل إلى حوالي 4 مليار دولار، وكان هذا الدعم من أبرز أسباب عودة الاستقرار الداخلي إلى الأردن بعد الربيع العربي
أدى هذا الوضع المزري إلى تكثيف "الإصلاحات الاقتصادية" بغية خفض نسبة عجز الموازنة وزيادة الإيرادات الحكومية، فأقدمت الحكومة على خفض الدعم على الخبز، و زيادة الضرائب على السلع والخدمات بشكل مطرد، ما أفضى إلى تزايد الضغوط على كاهل الأردنيين، وخرجت احتجاجات متفرقة في الأردن منذ مطلع العام، إلا إن أكبرها عددًا لم يتخط بضع المئات.
جاءت الخطوة التالية على قانون ضريبة الدخل، وهو القانون الذي يفرض ضريبة تصاعدية على إعفاءات الأفراد والأسر، ووفق للقانون فإن كل من يتجاوز دخله 8 الأف دينار للفرد (الدينار الأردني = 1.41 دولار أمريكي) و16ألف دينار للأسرة سيخضع لضريبة تصاعدية تبدأ من 5% وتصل إلى 25% عن كل 5 ألاف دينار زيادة عن الإعفاءات، وذلك في ظل مشهد اقتصادي لا تلوح فيه أي بارقة أمل في حال استمرار غياب الدعم الخارجي.
دعت النقابات المهنية أعضائها إلى تنظيم إضراب في 30 مايو/ أيار لحث الحكومة على سحب مشروع القانون الجديد، وينبغي هنا أن نتوقف قليلًا لإلقاء نظرة على خريطة النقابات المهنية في الأردن، يبلغ عدد منتسبي النقابات المهنية حوالي 500 ألف، بينهما أكثر من 340 ألف في نقابتي المهندسين والمُعلمين، سيطر الإخوان المسلمون على الأولى منذ 26 سنة وعلى الثانية منذ تأسيسها في عام 2011، إلا أن هذه السيطرة انتهت مؤخرًا، وخسرت جماعة الإخوان انتخابات نقابة المهندسين في مطلع مايو 2018، وكانت هذه الهزيمة بمثابة مفاجأة مدوية لأعضاء الجماعة أنفسهم واتهموا أجهزة الدولة بالعمل لإسقاط أعضاء الجماعة.
وسبق وأن فقدت الجماعة سيطرتها المطلقة على نقابة المُعلمين في انتخابات 2016، حيث تراجعت نسبة تمثيلها إلى 33% فقط، وليس من بينهما مقعدي النقيب ونائب النقيب، وفي مايو 2017 خسرت الجماعة أيضًا انتخابات نقابة المحامين لصالح قوائم علمانية حظيت بقبول أجهزة الدولة في الأردن، كما يجدر الإشارة إلى أن علي عبوس -رئيس مجلس اتحاد النقابات المهنية- كان طبيب في الجهاز الطبي العسكري التابع للجيش الأردني وبرتبة لواء.
ما نريد التأكيد عليه أيضا هو إنه لا يمكن التعاطي مع الوضع النقابي في الأردن بشكل مختلف عن الأوضاع النقابية في مجمل المنطقة العربية، ومن الخطأ التحليلي افتراض أن هذه النقابات تتمتع باستقلالية وحرية بعيدة عن توجهات الدولة، خاصة في ظل تصاعد المواجهة بين النظام الأردني وجماعة الإخوان، الأكثر أن دعوة الإضراب قد لاقت قبولًا واسعًا من أغلب التنظيمات المهنية والنقابية في الأردن، وتحركت بعضها للمرة الأولى، فهل تم هذا في توجهات مُخالفة لصانع القرار الأردني؟! تصبح الإجابة أكثر وضوحا إذا تتبعنا إدارة الحكومة للأزمة.
الإدارة الرسمية لـ " أزمة" الاحتجاجات
بدلًا من لجوء الحكومة إلى التفاوض مع الجهات الداعية لإضراب 30 مايو، أو على الأقل التعهد بإعادة النظر في مشروع القانون بعد نجاح الإضراب نسبيًا، لجأت حكومة هاني الملقى إلى التصريح بعدم عدولها عن تمرير القانون المرفوض شعبيًا، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، عمدت الحكومة إلى تمرير قرار رفع أسعار المحروقات والكهرباء بعد يوم واحد من الإضراب، وهي الزيادة الخامسة خلال نفس العام، فماذا كان يمكن أن يُشعل الاحتجاجات في الأردن أكثر من هذا؟!
أثمر الإضراب سريعًا، وفي مساء يوم 30 مايو كان السفير السعودي في الأردن يعلن عن حزمة إجراءات اقتصادية لدعم الأردن خلال الأسابيع القادمة، بينما أدى قرار حكومي جديد إلى اتساع رقعة الاحتجاج في الأردن لتشمل بعض المناطق النائية التي تتكرر فيها الاحتجاجات مثل منطقة معان، وكذلك لتصل إلى مبني رئاسة الوزراء بمنطقة الدوار الرابع في عمّان، وهنا يظهر دور الملك عبد الله الثاني بعد قرار الحكومة بالتراجع عن قرار زيادة المحروقات "بإيعاز من الملك"، وفي المقابل تفشل وساطة عاطف الطراونة رئيس مجلس النواب بين رئيس الحكومة ورئيس النقابات المهنية، والأخير يمثل الغطاء السياسي للعملية الاحتجاجية.
خلال لقاءه ببعض الإعلاميين، تظهر المساعدات الخارجية في واجهة الخطاب الأول للملك اثناء الأزمة الأردنيين، علاوة على دور الأوضاع الإقليمية في تراجع الاقتصاد الوطني، ويعلن أن هناك "تقصيرًا من العالم" تجاه الأردن، الملك يُحمّل "الخارج" مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في الأردن، وفي المساء كان ولي العهد الأمير الحسين بن عبدالله يقوم بزيارة ميدانية إلى بؤرة الاحتجاجات في الدوّار الرابع، فهل كان يشعر النظام الهاشمي بأي تهديد كما روج البعض، أم كان يدير بالأزمة ويحاول توظيفها في جذب مساعدات خارجية لإنعاش الاقتصاد المختنق؟
اختفت الاحتجاجات في الأردن بعد إقالة الحكومة، وإعلان الحكومة الجديدة سحبها لمشروع قانون ضريبة الدخل، وللمفارقة فإن رئيس الحكومة الجديدة لم يكن من الإسلاميين أو اليساريين، بل جاء من الحكومة المُقالة، ويعد محسوبًا على النخبة الليبرالية القريبة من توجهات البنك الدولي وصندوق النقد، وهذه دلالة واضحة على أن الاحتجاجات لم تجعل النظام الهاشمي يشعر بضرورة تغيير المسار السياسي والاقتصادي حفاظًا على بقاءه، أو أن هناك ثمة تغييرًا جذريّا يحدث في الأردن أيا كان اتجاهه.
أسفرت الاحتجاجات عن عودة الأردن لتصدر المشهد في وسائل الإعلام، كما دعت السعودية لاجتماع يضم الكويت والإمارات لتقديم الدعم للاقتصاد الأردني، وبرهن الأردن على كونه دولة مركزية في تفاعلات الشرق الأوسط ولا يمكن الاستغناء عنه، وللحق فإن الهاشميين قد دأبوا على استخدام هذه الطريقة، وفي كل مرة بدت نهاية حكمهم قريبة، كانوا يؤكدون مركزية وجودهم، وفي هذه المرة لم يتطلب الأمر أكثر من حراك احتجاجي جرت هندسته من أجل لفت الانتباه.