نشرت الصحف المصرية أمس وثيقتين أوليتين صادرتين عن المجلس الأعلى للإعلام، الأولى حوت مشروع مدوّنة المعايير الإعلامية وأكواد التغطية المتخصصة، والوثيقة الثانية تحوي مشروع لائحة الجزاءات المقرر فرضها على المخالفين لتلك المعايير في جميع وسائل الإعلام.
المواد المنشورة في المشروعين، تختلف كثيرًا في مضمونها عن المتعارف عليه في طريقة وضع أكواد التغطية من قِبَل هيئات تنظيم الاتصالات حول العالم. فالأكواد التنظيمية التي تضعها الهيئات الأجنبية لإعلامها المحلي تهتم بمعايير الملكية والإدارة وضمان حرية التعبير والنشر، عبر وضع إجراءات عملية ومحددة دون تدخل في سير المحتوى؛ إلا بقواعد حماية الأطفال وضمان ألا تصل حرية التعبير حد التحريض على أشخاص أو مجموعات، وذلك على العكس من المدونة التنظيمية المصرية التي تضع أكوادًا قد تصل عند تطبيقها للحد من حرية الوصول للمعلومات والتدخل في السياسات التحريرية وتُقصي مصادر معلوماتية وتجعل اللجوء إليها مُجرّمًا.
على سبيل المثال، يرد في مشروع المدونة في أكثر من موضع أهمية عدم استخدام ألفاظ بذيئة أو جمل سوقيّة عبر وسائل الإعلام، دون تحديد ماهية الألفاظ المسيئة أو السوقية. في المقابل، فإن هيئات تنظيم الاتصالات في العادة تورد قائمة محددة من الجُمل والألفاظ التي يُمنع استخدامها في وسائل الإعلام، كالسبع كلمات البذيئة التي تمنع هيئة الاتصالات الفيدرالية تداولها عبر وسائل البث المرئي والمسموع الأمريكي، من السادسة صباحًا وحتى العاشرة مساءً بالتوقيت المحلي.
تنظم هذه الهيئات أيضًا الأوقات التي يُسمح خلالها بعرض محتوى لا يناسب الأطفال، وكيفية التعامل مع المحتوى الذي يمثّل عنفًا أو يحوي استخدامًا للمخدرات والسجائر أو محتوى جنسيًا، خلال الأوقات التي عادة ما يشاهد أو يستمع فيها الأطفال إلى المحتوى الإعلامي. أما الكود الإعلامي المختص بالأطفال في المشروع المصري فيأتي بصياغة عامة بخصوص نوعية المحتوى المقدّم للطفل، وأخرى تحض على مراعاة المستويات اللغوية للطفل والحرص على الموازنة بين المحتوى الخيالي والواقعي.
بعيدًا عن الوثائق.. بعيدًا عن الواقع
يأتي هذا المشروع بعد عام كامل من تأسيس المجلس في الحادي عشر من إبريل/ نيسان 2017، تعاملت خلاله الهيئة المسؤولة عن تنظيم الوسائل الإعلامية في مصر في أكثر من موقف بطريقة أثارت الجدل حينًا، وسخط البعض وغضبهم أحيانًا أخرى. فالمجلس الذي يعرِّف نفسه على موقعه فقير التصميم، بأنه "السلطة المختصّة بحماية الرأي والفكر والتعبير، وضمان استقلال الإعلام طبقًا لنصوص الدستور والقانون"، أتى في موضع متقدم في قائمة أكبر منتهكي حريات الإعلام الواردة في تقرير مؤسسة حرية الفكر والتعبير عن حريات الصحافة والإعلام عن الربع الأول من العام 2018. إذ ارتكب المجلس 13 انتهاكًا.
الانتقادات طالت المجلس حتى من عمرو أديب الذي قال خلال برنامجه المذاع على قناة ON E إن هناك عقوبات تُفرض على من يقول رأيه متسائلاً "ومين بيعاقبه؟! المجلس الأعلى للإعلام".
تهتم دول العالم بتأسيس هيئات تنظم الاتصالات بشكل عام، بما فيها تنظيم ملكية المؤسسات الإعلامية وبثها، وتراقب وتصنّف المحتوى المعروض وتضع له قواعد لتنظيمه؛ وفي نفس الوقت تكون وجهة يستطيع المواطنون من خلالها تقديم شكاواهم بخصوص أي إيذاء تعرّضوا جرّاء عرض محتوى ما. وهو ما يتشابه مع الأهداف المعلنة كغرض لتأسيس المجلس الأعلى للإعلام.
لكن، بمقارنة أداء المجلس لما يزيد عن العام في مقابل آداء هيئات شبيهة في الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وغيرها، يتّضح أن هناك فرق كبير بين ما يحدث فعلا، وبين ما يجب أن يحدث.
تقوم هيئات كلجنة الاتصالات الفيدرالية FCC في الولايات المتّحدة، ومكتب الاتصالات Ofcom في المملكة المتحدة، وهيئة تنظيم البث المرئي والمسموع CRTC في كندا بالمراقبة على وسائل البث المرئي والمسموع، وتنظيم الملكية ومنح تراخيص البث. كما أنها مسؤولة عن مراقبة تنفيذ وعدم خرق ترسانة القوانين الخاصة بتنظيم وسائل الإعلام. لكن هذه العملية محدّدة بقواعد واضحة ومعلنة، وتخضع لمراقبة جهات أخرى لضمان حيادية هذه الهيئات.
على المواقع الإلكترونية للهيئات الأجنبية الثلاثة، تتوفر مواد توضّح اختصاصات المجالس بالتحديد والقوانين التي تم الاستناد إليها في تحديد هذه الاختصاصات، والمعايير التي يتم العمل بها، وأهداف الكيان وأولوياته، وأكواد التغطية التي يعترفون بها، والاختبارات التي تخضع لها المواد الإعلامية لتحديد مدى تجاوزها للقواعد، وكذلك العقوبات الخاصة بالمخالفين وتقارير تقيّم الأداءات الإعلامية وتقارير أخرى عن حرية الرأي والتعبير في بلدانهم. توضّح المواقع الإلكترونية لهذه الهيئات أيضًا الطريقة التي يتم اختيار اللجنة بها، والقواعد التي تحدد عملها وتضمن حيدتها، والهيكل التنظيمي الخاص بها، وقناة محددة لشكاوي المواطنين.
أغلب هذه الهيئات، بحسب مواقعها الإلكترونية، تضع نصب أعينها هدف حماية المنافسة وتنظيم قطاع الاتصال بشكل عام، ويأتي دورها في مراقبة المحتوى من منطلق حماية حق المستهلكين لخدمات هذا القطاع بكل روافده، ومنها الراديو والتلفاز. وهو ما يجعل تحركاتها إزاء أي خرق للمعايير التي تضعها للتغطيات؛ تنطلق من شكاوى وملاحظات تصلها من الجمهور المتلقّي للمحتوى. إضافة إلى التقارير والأبحاث التي تنشرها فيما يتعلّق بهذا المجال. ومن هنا يتضح الفارق الكبير بين هذه الهيئات والمجلس الأعلى للإعلام الذي أعلن عن إنشائه ليقوم بنفس أهدافها.
الأعلى للرقابة على الإعلام
أول الفروق بين عمل هذه الهيئات وعمل المجلس الأعلى للإعلام هو اختصاصها، إذ تختص الهيئات التنظيمية في بريطانيا وأمريكا وكندا بالبث المسموع والمرئي فقط دون الصحف، وهو تخصص له وجاهته بحسب أستاذة علوم الإعلام في الجامعة البريطانية والمديرة السابقة للبرامج في BBC، نجلاء العمري "الصحافة المكتوبة دائمًا ما تخضع لما يسمّى بالتنظيم الذاتي تبعًا لطبيعة العملية التحريرية وأنماط الملكية المحتلفة عن البث المرئي والمسموع"، تضيف "إحنا طلعنا بصيغة جمعنا بها الحاجات ديه مع بعض". لا تظن العمري أن هذا الجمع في صالح أداء المجلس وكفاءة عمله.
قد يظهر من واجهة موقع الأعلى للإعلام تشابهًا مع مواقع الهيئات الأجنبية التي تماثله في الاختصاصات؛ إلا أن التجوّل في أقسامه يبيّن فروقًا متعددة، منها تصدير مقالات لأعضاء المجلس على الصفحة الرئيسيّة واهتمام بأخبار أعضائه، وتوضيحات مختصرة وعامة عن المجلس ومهامه واختصاصاته.
ومن اللافت أنه لا يوجد سوى علامة "قريبًا" على كثير من أقسام المجلس المهمّة كقوانين المجلس والهيكل التنظيمي، رغم مرور أكثر من عام على بدء عمل المجلس وممارسة مهامه.
في باب المعايير، لاتتوفّر مواد يمكن الوصول إليها لأكواد تغطية خاصة بأحداث مهمّة مرّت على البلاد، كانتخابات الرئاسة، بالمقارنة مع هيئات عربية كـ"الهايكا" التونسية، التي راقبت العمري عملها خلال انتخابات البلدية التي أقيمت مؤخرًا في تونس.
تقول العمري"الهيئة وضعت قواعد واضحة فيما يتعلّق بكيفية تقسيم أوقات البث في الإذاعات والتليفزيونات على الأحزاب والقوى السياسية المختلفة". الهيئة -بحسب ما نشرته وسائل الإعلام التونسية- وضعت قواعد مختلفة للتغطية وقت انتخابات البلدية، كمنع الضيوف الذين يتم استضافتهم في البرامج السياسة من استخدام العلم أو النشيد الوطنيين، وعدم استضافة العاملين والنشطين المرشحين في الانتخابات بصفة متواترة خلال فترة الانتخابات، وعدم تدخل المرشحين في الإعداد لمضامين البرامج، كما وقعّت قرارًا مشتركًا مع هيئة الانتخابات التونسية بخصوص التغطية، يتضح في فصوله المنشورة؛ القوانين التي تم الاستناد إليها في وضع قواعد التغطية الإعلامية.
في المقابل فإن الأعلى للإعلام اكتفى قبيل الانتخابات الرئاسية بوضع معايير عامة أقرب للنصائح، والتأكيد على أهمية التوازن والحيادية في منح مساحة متساوية للمرشحين لعرض وجهتي نظرهما، كـما جاء في تصريحات لحاتم زكريا رئيس لجنة المعايير بالمجلس.
الصحفي عامر الوكيل، واحد من أفراد اللجنة الوطنية للتشريعات الصحفية والإعلامية التي كتبت مسودة قانون موحّد للإعلام، ويرى أن عدم وجود معايير واضحة لعمل المجلس يجعل منه أداة قد تقيّد حرية المؤسسات الإعلامية "المتعارف عليه أن هناك لجان لفحص شكاوى المواطنين بخصوص المحتوى الإعلامي، لكننا أقررنا مادة تعطي المجلس حق التحرك إزاء خرق معايير العمل الإعلامي دون شكاوى. [هذه المادة] يتم استغلالها حاليًا بشكل خاطئ".
يضيف الوكيل في حديث هاتفي مع المنصة "في حالة وجود انتهاك، من المفترض أن يتعامل المجلس مع المؤسسة، وليس الصحفي"، في إشارة إلى قيام المجلس الأعلى للإعلام بتحويل صحفيين للتحقيق النقابي.
هيئات تنظيم الاتصالات حول العالم، هي هيئات تنظيمية في المقام الأول، إلا أن الأعلى للإعلام في مصر يعطي الأولوية للدور الرّقابي قبل الدور التنظيمي، كما يرى الوكيل، الذي يقول "المجلس لايقوم بالدور المنوط به وبدلاً منه يركز على دور رقابي"، يقول الوكيل إن حتى قيام المجلس بهذا الدّور يشوبه التحيّز.
يدلل الوكيل على هذا التحيّز بالإشارة إلى تَلفُّظ رئيس المجلس، مكرم محمد أحمد بلفظ بذيء خلال ندوة الهيئة الوطنية للصحافة لبحث ترتيبات التغطية الخاصة بالانتخابات الرئاسية في مارس/آذار الماضي. وهو ما مرّ دون تحقيق معلن.
تتفق نجلاء العمري مع الوكيل فيما يخص ممارسة المجلس لدور رقابي. وترى أن الأزمة لها علاقة بأولويات المجلس "تنظيم الملكية، ثم وضع قواعد واضحة للتغطية في الأوقات المهمّة كالانتخابات، ثم تلقّي الشكاوى من المواطنين. هي االملفات الأساسية التي يجب على هذه الهيئات الاهتمام بها". لكن المجلس بحسب العمري يهتم بإطار مختلف يرتبط بالأخلاقيات "وحتى ديه المجلس بيتحرك لوحده فيها بدون شكوى على عكس السائد".
ما تلاحظه العمري وكذلك الوكيل على أداء المجلس، يُعتبر حقيقة أقر بها رئيسه مكرم محمد أحمد في بداية حواره خلال برنامج بلاقيود على BBC، والذي قال فيه صراحة إن المجلس الأعلى للإعلام "معني بالقيم، ومعني أن تعود الحرفية والمهنيّة، ومعني بأخلاقيات المهنة والتزاماتها". لم يذكر أحمد في حديثه وتعريفه لاختصاصات المجلس الذي يرأسه شيئًا عن حماية المنافسة أو الحفاظ على التنوّع أو حماية الحريات، وكلها أمور ينص عليها الدستور المصري، وعادة ما تنشأ من أجلها الهيئات المماثلة للمجلس.
لا حدود للرقابة
ممارسة دور رقابي على المحتوى الذي تقدمه وسائل الإعلام ليس بأمر غريب، فهيئات تنظيم الاتصالات حول العالم تقوم بمراقبة المحتوى وتقييمه وفرض عقوبات على المؤسسات المخالفة، لكن لهذا الدور شروط لا تتوفر فيما يقوم به الأعلى للإعلام. أهمها؛ وجود تحقيقات في الشكاوى مبنية على قواعد محددة ومعلنة ويمكن الإطلاع عليها، وهو ما يجعل تدخّل تلك الهيئات محدودًا، وله علاقة بالإطار الذي يتم فيه استخدام كلمات توضف بالبذاءة أو ارتكاب مؤسسة فعلاً قد يوصف بأنه غير مهني. واحد من الأمثة الواضحة هو تعامل هيئة FCC مع تغطية وسائل الإعلام لتلفّظ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بكلمة بذيئة خلال اجتماعه بالمشرّعين حول ملف الهجرة.
قال المتحدّث باسم الهيئة لمجلّة فارايتي الأمريكية إن شكاوى وصلتهم ضد قنوات CNN وNBC لاستخدامهم الكلمة البذيئة أثناء تغطيتهم للحدث، وهو أمر كان محل جدل واختلاف بين وسائل الإعلام الأمريكية بعضها البعض، لكنهم لم يحددوا، أي الهيئة، إذا كانوا سيأخذون إجراءً ضد هذه القنوات أم لا، ذلك أن واحدًا من المعايير التي تضعها اللجنة في الاعتبار هو الإطار الذي حدث فيه الانتهاك، أي ما إذا كانت الكلمة جزءً من الخبر أم لا. لم تواجه القناتان حتى الآن أية عقوبات بشأن استخدمهما اللفظ في التغطية.
يقول عامر الوكيل إن قانون الإعلام االموحّد، الذي أُشرِف وآخرون من الصحفيين والإعلاميين على كتابة مسودته، كان يتضمّن موادًا محددة لكل أكواد التغطية ومعايير العمل الإعلامي. إلا أن القانون الذي تم إصداره تحت اسم التنظيم المؤسسي للصحافة والإعلام، صدر ناقصًا "في 2016، عند إصدار القانون، قيل أنه سيتم إصدار قانون لاحق به هذه المواد المحددة، وهو ما لم يحدث حتى الآن".