أسعدني الأمر جدًا لعدة أسباب، أحدها الدور التوثيقي للبرنامج، إذ أتوقع حلقات ستتحول بعد عقود إلى نوستالجيا، بحيث تصلح لأن أمررها إلى أولادي، قائلًا: هذا عمر طاهر في شبابه، عندما حاور عمكم الكاتب فلان، أو الأستاذ علان.
قد لا أعجب ببعض كتابات طاهر، لكن أراه- بلا شك، متعدد المواهب، شديد الجرأة في تغيير وجهته من حين لآخر، كما أحسبه فردًا جميلًا على المستوى الإنساني قياسًا للقبول الواسع الذي يحوزه الرجل داخل الوسط الأدبي سواء كباره أو شبابه، مما جعلني أتوقع استضافة برنامجه لقامات عديدة ممن لا يحبون الظهور الإعلامي في العادة، وقد كان..
استضافت الحلقة الأولى صنع الله إبراهيم، وترقبت ظهور المزيد من الكتاب أول بأول متابعًا الحلقات على يوتيوب، بما أنني كففت عن متابعة التلفاز منذ زمن طويل، وتضاعف حماسي عند ظهور رابط يشير أن ضيف الحلقة الجديدة هو أحمد خالد توفيق.
في أحد الامتحانات الشفوية لكلية الطب، طرح الأساتذة سؤالًا تعجيزيًا، غير أن الطالب فاجأ ممتحنيه عندما أجاب ببساطة: يعنى المصطلح: عمى الأنهار، وهو مرض يسببه كذا، وينتشر في دول كذا، اكتشفه فلان، و.. رد الأساتذة: وكيف عرفت ذلك؟، قال الطالب: من سلسلة روايات تدعى سفاري كان بطلها طبيب.
تكرر نفس الموقف عندما دخل البعض فيلم رابطة السادة المهذبين الاستثنائيين- LXG، وشاهدوا شخصية دوريان جراي، فعرفوا خلفية قصتها نظرًا للترجمة المختصرة التي قرأوا عنها سلفًا، ضمن سلسلة روايات عالمية للجيب. وصلت هذه المواقف إلى أحمد خالد توفيق، فعلق عندما حل ضيفًا على شاشة برنامج عمر طاهر، بما معناه: حاجات تخليني لو مت دلوقتي، هحس إني مبسوط.
بعد إذاعة الحلقة بعدة أيام، بلغنا خبر وفاة أحمد.
مغادرة أي شخص طيب لعالمنا خبر جدير بالحزن، حتى لو لم تعرفه عن قرب، لو كان بقالًا على ناصية شارعك، أو نادل الكافتيريا التي ترتادها. فماذا لو بلغنا نبأ رحيل شخصية عامة، لها تأثيرها الواسع منذ نشأتنا، إلى جوار اشتهارها بسيرة إنسانية آسرة؟
كلنا نملك تجارب مع الأخبار المفبركة، التي تعلن وفاة أحد المشاهير، قبل أن يتضح زيفها فيما بعد.
أضف إلى هذا أن التقويم كان يشير إلى تاريخ 2 أبريل، مما جعل انطباعي الأول يميل إلى أنها خدعة من كائن سمج ظن أن رحيل الكاتب يصلح ككذبة مبتكرة للشهر.
استمتُ في إقناع نفسي بذلك، غير أني وجدت التايم لاين يحفل بأسماء ذات مصداقية، بدأت تؤكد صحة ما قيل.
شباب وشابات فرقاء من مختلف التيارات السياسية، لم تجمعهم أرضية مشتركة منذ الـ 18 يوم الأوائل في ميدان التحرير، عادوا للالتقاء مرة أخرى في جنازته، كيف؟ لماذا؟ ربما لأنه أحد القلة الذين لم يلوثوا في ظل سباق السقوط الذي طال العديد من رموز الفن والأدب والسياسة.
شاء القدر أن يعلّمنا الكاتب درسًا أثناء رحيله، مثلما علمنا في حياته، لعل أفضل تعليق على مشهد الجنازة، ما قاله الزميل أحمد الملواني: يجدر بنا أن نفرح له، لا أن نحزن عليه.
أتفق مع الرأي جدًا، فلو أن الله عز وجل جعل له نصيب مقداره 1 على ألف من ابتهالات محبيه الصادقة، ودعواتهم له بالرحمة، أتخيل أنه في مكان ومكانة أفضل كثيرًا الآن.
المقارنة بينهم لا تصح أبدًا، إذ يرسم أصحاب الفئة الأولى لوحًا فنية بالكلمات، ولهم كل الاحترام على هذا الدور، أما الفئة الثانية فرأس مالهم الروح الشفافة التي تشبه المرآة، بوسعك أن تبدي رأيًا موضوعيًا في لوحة فنية، لكن هل توقف أحد يومًا ليقيم مرآته، مدى سمكها، خامة الصنع، إلخ؟
من النادر أن تجد بيننا- كعموم القراء، من يستطيع التجرد، فينزع نفسه من المحبة الروحية لهذه الحالة التوفيقية التي لطالما عكست ذواتنا، كي يشغل نفسه بإجابة مثل هذه الأسئلة.
فليحتفظ مثقفي وسط البلد بمعاييرهم، ويتركوا لنا من أثار شغفنا بعيدًا عن أي تنظير أو خطاب استعلائي. أظنها ستكون قسمة مرضية للطرفين.
في الليلة الأخير من حياة الروائي ألكسندر دوماس، وجدته زوجته يقرأ الفرسان الثلاثة، الرواية التي قام هو بتأليفها، علق:
ذكر أحمد خالد توفيق القصة، أثناء وجوده في ضيافة عمر طاهر في لقاء الوداع.
بشكل ما، استوقفني حال الذين لم يقرأوا لأحمد خالد توفيق من قبل، فاستقبلوا مشهد جنازته بحيرة، متسائلين من يكون؟.
هذه الفئة توجه جزء منها بالآلاف-خلال الأيام التالية، إلى المكتبات لاستكشاف طبيعة كتابات الراحل، كمحاولة لفهم سر كل هذا الرثاء من محبيه، وكأنهم إزاء أب، وليس كاتبًا.
أعتقد أنها ستكون بداية لغوص بعضهم في عالم ما وراء الطبيعة وسافاري وفانتازيا، قبل أن يعشقوه ويعشقوها مثلنا، أحسد أمثال هؤلاء، لأنهم تلقوا خبر الوفاة بمشاعر محايدة أولًا، ثم عرفوا لاحقًا ماهية إرث هذا الرجل.
يمتازوا بأنهم لن يختبروا تجربة جيل الثمانينيات والتسعينيات الذين عاصروا صدور سلاسل أحمد خالد توفيق عددًا فعددًا، مما جعلهم يتلقوا صدمة الرحيل، في مؤلف صار- تدريجيًا، أكثر من أب وصديق، بيننا وبينه عشرة طويلة.
لعله الكاتب الأول وربما الأخير الذي نتبادل التعازي فيه، وكأن لنا جميعًا فيه، مثل ما لأسرته.