الساعة الثامنة مساء.. كوب الشاي بالنعناع.. اتكئ على الكنبة وأفتح اللابتوب لمواصلة عملي الجاف حتى منتصف الليل.
"د. احمد خالد توفيق في ذمة الله.. البقاء لله".
لا أصدق للوهلة الأولى ، أتمنى ان تكون شائعة، بعد عدة دقائق يتأكد الخبر.
شعور بالاحباط لتلقي خبر حزين آخر و فساد الأمسية ، قليلة أصبحت تلك الأيام بدون ذلك الأزيز المستمر بالحزن ، بعد ذلك محاولات لهضم الخبر كوفاة عادية لأحد الكتاب الذين لا تربطهم بي علاقة شخصية، ثم استمر في العمل.
شيء غريب يحدث، حزن عميق يتولد في القلب، شعور بالحسرة و اللوعة، شعور بالوحدة، شعور عميق بالوحدة، ذلك شعور الغربة يعود مرة أخرى مع فقد من آلفهم وأحبهم واحدا وراء الآخر، بعض الدموع تحاول الخروج لكنها لا تستطيع.
دقائق ثم يحدث ذلك الشعور بالضعف والذوبان، شعور بالرغبة في لاستمتاع بالبكاء، أسارع واغلق باب الحمام على نفسي، أجلس على الأرض وتنهمر الدموع.
يتكرر المشهد بضع مرات خلال الليلة.
الحقيقة ان سر هذا الحزن و هذا الحب بالنسبة لي لم يكن لأنك علمتني القراءة أو لإعجابي المبكر بسلاسل ما وراء الطبيعة.
الموضوع أكبر و أعقد.
جاءت سنين الثورة، اللحظة التي لم تعد الحياة كما كانت قبلها، وجاء فشلها مع سنين عبور الثلاثينات في وقت واحد، مع كل يوم يغزو الشعر الأبيض رأسي، ومع كل شعيرات بيضاء جديدة تزداد تلك المفاجآت بحقائق ما يحدث، أحداث الثورة "جابت لنا الحياة على بلاطة"، الحق لا ينتصر، أبدا، ما كل هذه الدماء؟ ما كل هذه القسوة؟ من أين ينبع كل هذا الانحطاط؟ السيرك ده اتنصب امتى؟
الإيمان لم يعد من المسلمات كالسابق، ومعه ذهب الدعم و السند المرجو، حتى الرغبة في الخير، شحت مثل كل شيء، وفوق كل ذلك، الطامة الكبرى، من هؤلاء الذين أشارك معهم نفس الأرض و نفس الماء و الهواء، مين دووول؟ مع كل شعرة بيضاء، ينكمش المشترك بيني و بينهم، ويزداد ذلك الشعور المقض، الوحدة، او بالأدق الغربة، غريب في بلاد غريبة على رأي كايروكي.
مع كل ذلك اتت مقالاتك و تعليقاتك، توثق و تؤكد، والأجمل أنها لا تشرح، لأنك حائر مثلنا، وحيد مثلنا، غريب مثلنا، فقط هي تصف ما يحدث بتلك الكلمات القصيرة الوديعة، مع شبح تلك الابتسامة التي اتخيلها دائما، تنطلق نحو القلب مباشرة، تنطبق تماما على كل ما أراه وأكتشفه!
كنت أنت كمن عبر هذه الأهوال من قبل، ودائما يطمئننا مع تلك النظرة الأبوية الحانية بأن "هو ده العادي"، وأن الاكتئاب و الوحدة والضعف والغربة هي أمور لا تخجل منها ولا يجب أن تهرب منها، هي ركن من أركان الحياة و اكتشافاتها.
الشبه متطابق مع خبر وفاة عمار الشريعي، واضح أن العامل المشترك هو الصدق وعدم الخجل من الضعف، لا عجب أني أكتب هذه الكلمات وأنا أسمع "الموووووت و الاستشهاااااد...عشانها ميلاد...."، فوق كل ذلك يظل مدى حبكما للثورة وللشباب وقتها، يبدو أن الثورة مثل رحلة جميلة أيام الجامعة، لا ننساها، سنظل لا إراديا نحب من أحببناهم وقتها، حتى إن أحبطنا أو نقمنا أو نسينا ، لكن من أحببناهم أو كرهناهم محفورين داخلنا، حتى نحن لا نعلم أنهم هناك، بداخلنا، إلى أن نسمع خبرًا كالذي سمعناه، فنفاجأ بوجودهم في أعماقنا، و يحدث ما حدث.
الحقيقة أني اشكرك يا د. أحمد ، ما يقال عنك بعد مماتك و بئر الحب المتفجر أجمل شيء شعرت به منذ ظهيرة 25 يناير، نفس المفاجأة بأني مش لوحدي، وأننا كتير، نفس الشعور بذلك الصدق والإخلاص المخيم على الأحداث و الكلمات.
لكني أكثر نضجا الآن، مع الشعيرات البيضاء تدرك ان الموت ركن من أركان الحياة، مثله مثل الجوع، مثل الجنس، لا يهم هو عادل أو ظالم، أو انه دائما ينتقي الافضل والأنبل و الأشجع، هو موجود، سأستمر في الحياة بنفس الروح الصماء التي اكتسبتها خلال السنين الماضية، لن أنساك ولكن لن أحزن أكثر من ذلك، فقط سأستمر في ترتيبات السفر للبلاد الغريبة، حيث يكون الشعور بالغربة والوحدة متوقعا ومنطقيا.