في 14 فبراير من عام 1945، وعلى متن السفينة الأمريكية "يو إس إس كوينسي"، اتفق الملك السعودي المؤسس عبد العزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت أن تضمن الولايات المتحدة السيادة والأمن السعوديين في مقابل استمرار تدفق النفط والدعم السعودي إلى واشنطن ومصالحها في المنطقة.
حينئذ كان النفط السعودي هو مركز القوى الاقتصادية السعودية، الذي مكّنها من تعزيز دورها الإقليمي ومكانتها وعلاقاتها العالمية. صحيح أن الولايات المتحدة كانت الضامن الأساسي للأمن السعودي، خاصة في مواجهة النفوذ المصري في عهد جمال عبد الناصر، إلا أن هذا لم يمنع المملكة من اتخاذ مواقف مناوئة للسياسة الأمريكية في المنطقة، ناهيك عن أن هذا التحالف لم يستطع تغيير خريطة الحكم داخل القصر السعودي على مدار هذه العقود الممتدة. ولكن يبدو أن الوضع تغير في عهد أحفاد آل سعود.
يحتفي الساسة السعوديون وحلفاؤهم –وكذلك الخبراء والمحللون- بأن السمة الأساسية للسياسة الخارجية السعودية منذ دخول الملك سلمان القصر السعودي، وجلوس ابنه المُفضَّل على العرش، هي الحزم، وذلك من حيث مواجهة آثار ثورات الربيع العربي والتطرف المذهبي والتغول الإيراني والحلم العثماني، فتحولت المملكة من سياسة التجاوز والتسامح وغض الطرف إلى سياسة العزم والحزم ووضع الأمور في نصابها ووقف العبث الإقليمي لبعض القوى المهووسة بالتوسع.
فهل كان "الحزم" حقاً هو سمة تلك "العاصفة" التي أثارها الملك سلمان وابنه في وجه التغيرات التي لاحقت المنطقة العربية؟
ابن سلمان ليس الملك المؤسس
وصل الملك سلمان بن العزيز إلى العرش في يناير 2015، بعد وفاة أخيه الملك عبدالله، ومنذ اليوم الأول، شعر الكثيرون أن هناك رياحًا جديدة تهب من القصر السعودي، فالملك يعاني من أزمات صحية تمنعه من ممارسة مهامه بسلالة، خاصة في ظل المرحلة الدقيقة والتحديات الجسيمة التي تمر بها المملكة والمنطقة، وابنه المُفضل (وليس الأكبر) محمد، هو شاب بلغ بالكاد التاسعة والعشرين من عمره. فلا يعرف أحد ميوله أو توجهاته السياسية، ناهيك عن أن خبرته السياسية العملية قد بدأت لتوها.
سرعان ما اتضحت الصورة أكثر فأكثر، فهذا الشاب الصاعد الطموح، استطاع أسر إرادة أبيه، والشروع في تنفيذ أحلامه (التي باتت مُخططات فيما بعد)، من حيث السيطرة على كافة منافذ القوة السياسية في البلاد بحيث تنتقل إليه السلطة الفعلية للحكم قبل أن تنتقل إليه رسميًا من ناحية، ومن ناحية ثانية فرض الأجندة السعودية على المنطقة العربية، والتخلص من مراكز القوة الإقليمية التي قد تنافس المملكة على الزعامة.
وخلافاً لما كان عليه المشهد قبل 68 سنةً، فالمملكة تمر بنقطة تحول في تاريخها، حيث قوّض انخفاض أسعار النفط جزءًا كبيرًا من القوة الاقتصادية للبلاد، التي يعتمد 87% من عائدات موازنتها على إنتاج وبيع النفط، مما دفعها إلى تبني برامج للتقشف، مع تحميل المواطنين المزيد من الأعباء المالية والضرائب. وهو ما يؤثر فعلياً على نجاعة الأداة الاقتصادية في السياسة الخارجية السعودية، كما أنه يجعل المشهد الداخلي مرشح لعدم الاستقرار في أي وقت.
وعلى جانب آخر، يبدو أن محمد بن سلمان قد نجح –إلى الآن- في مخططاته الداخلية. فبعد ثلاث سنوات فقط داخل القصر السعودي، بات هو الرجل الأول في المملكة؛ فإلى جانب كونه وليًا للعهد، يتولى أيضًا منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس هيئتين رئيسيتين لصنع القرار في السعودية هما "مجلس الشؤون السياسية والأمنية" و"مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية"، وهو بأمر الواقع حاكم المملكة العربية السعودية. ولكن ما زالت هناك جيوب للمقاومة داخل القصر، قد تحول دون استقرار الأوضاع لبن سلمان، أبرزها أسلوب التحول في نمط الحكم الذي أسّس له ابن سلمان ومنح نفسه كافة السلطات المركزية، إلى جانب ولاء الحرس الوطني السعودي الذي قد ينقلب على ابن سلمان في أي وقت، ناهيك عن نفوذ أسرة نايف سواء داخل السعودية أو خارجها.
وعلى ذلك باتت تحالفات ابن سلمان الخارجية هي موطن قوته الحقيقية، سواء في تنظيم الداخل، أو إدارة ملفات الخارج.
هل ترامب حليف موثوق؟
بدأ ابن سلمان مغامراته في القصر السعودي سريعًا، عندما قاد حملته العسكرية في اليمن في مارس 2015، وبدا حينها أن السعودية تخالف قواعد اللعبة التي تعامل وفقها الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، حيث تم فتح قنوات حوار مع الإخوان، وتغير نسق التعامل مع الحوثيين في اليمن، وتم الالتفات للحليف التركي في مقابل الحليف المصري. كل هذا أدى إلى توتر وريبة إماراتية تجاه ابن سلمان وسياسات الجديدة، إضافة إلى التوتر الموجود أصلاً –حينئذ- بين الرياض وإدارة أوباما.
حينها أدرك ابن سلمان أن طموحاته وأهدافه السياسية (الداخلية والخارجية) لن تتحقق إلا من خلال دائرة تحالفات وثيقة، تمنحه الشرعية على المستوى الدولي، وتؤيد خطواته على المستوى الداخلي.
وكان الأمير محمد بن زايد في انتظار هذه اللحظة، حيث تلقف طموحات الشاب ابن سلمان، وبات ظهيره السياسي على المستوى الدولي، ومن المحتمل أنه كان عقله المُدبر في خطواته داخل القصر. ثم استعاد ابن سلمان –بمساعدة ابن زايد- الحليف المصري عن طريق البوابة الاقتصادية.
وأخيراً، جاء الرئيس الأمريكي –بعد انتخابه في نوفمبر 2016- ليكمل دائرة العقد. ويصبح الحليف الأقوى القادر على مساندة ودعم طموحات ابن سلمان الواسعة. وقد نجح ابن زايد –بفعل نفوذه داخل الولايات المتحدة ولدى رجالات ترامب- في تعزيز مكانة ابن سلمان داخل البيت الأبيض.
ففي مارس 2017، كان اجتماع ابن سلمان بترامب، والذي وصفه الأول بأنه "نقطة تحول تاريخية"، وبات يؤكد أن ترامب هو "صديقٌ" للعرب. وذكر المحلل الأمريكي "سيمون هيندرسون" حينئذ أن ترامب وإدارته أوكلت للسعودية دوراً مفتاحياً في الشرق الأوسط، وأكّد أن محمد بن سلمان يرغب باستغلال ذلك.
وتشير التحليلات أن ابن سلمان حرص خلال ذلك اللقاء على الحصول على دعم واشنطن لتوليه ولاية العهد في المملكة، خاصة أن الأمير محمد بن نايف كان يُعرف بصلاته الوثيقة مع مؤسسات الأمن والاستخبارات في الولايات المتحدة، لاسيما في إطار مكافحة الإرهاب، ويبدو أم ترامب –حينها- قد غيّر وجهته نحو ابن سلمان.
وبدا أن ابن سلمان قد حرص على الحصول على دعم ترامب وموافقته قبل اتخاذ أي خطوات سياسية جريئة، سواء فيما يتعلق بحصار قطر، أو ما سُميت بـ "حملة التطهير لمحاربة الفساد"، التي تم على إثرها اعتقال 11 أمير و38 وزير.
وفي إطار حديثه عن السياسة الخارجية لبن سلمان، أكّد الكاتب الإيرلندي "باتريك كوكبيرن": "قد يتصور ولي العهد ومستشاريه أنه لا يهم ما يعتقده اليمنيين أو القطريين أو اللبنانيين لأن الرئيس دونالد ترامب وجاريد كوشنر، صهره والمستشار الرئيسي للشرق الأوسط، يدعمونه".
وكان ترامب قد كتب على "تويتر" تعليقاً على حملة اعتقال الأمراء ورجال الأعمال السعوديين: "لدي ثقة كبيرة في الملك سلمان وولي عهد المملكة، وهم يعرفون بالضبط ما يفعلونه".
وذكر كوكبيرن أن "السعودية تدرك أن دعم البيت الأبيض في هذه الأيام يجلب مزايا أقل مما كان عليه في الماضي. فإن موافقة ترامب لا تعني بالضرورة موافقة أجزاء أخرى من الحكومة الأمريكية. وعلى الرغم من تغريداته الإيجابية، فإن الولايات المتحدة لم تدعم رسميا المواجهة السعودية مع قطر أو محاولة إجبار رئيس وزراء لبنان على الاستقالة".
إضافة إلى ذلك، فإن دعم ترامب لبن سلمان هو دعم مشروط، بتقديم المزيد من المنح والمزايا الاقتصادية السعودية لواشنطن كل يوم، فها هي أكبر صفقة عسكرية في تاريخ البلدين تُعقد في مايو 2017، بقيمة تصل إلى 110 مليار دولار. وبعد أن كانت موازنة الدفاع السعودية تبلغ حوالي 10% من إجمالي الميزانية، وصلت إلى حوالي 21% عام 2018. ومازال ترامب يتطلع إلى المزيد، حينما طلب من ابن سلمان أن يتم طرح جزء من أسهم شركة "أرامكو" في بورصة نيويورك.
وبعيداً عن العوامل الاقتصادية، فقد بدا أمام واشنطن أن الأدوات الدبلوماسية السعودية عاجزة عن إخضاع القوى الإقليمية في المنطقة، وإنفاذ إرادة ترامب، وهو ما تجلى في عدم تمكن الرياض من إقناع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بالموافقة على خطة السلام التي ترعاها الولايات المتحدة، والتي من شأنها تعظيم المكاسب الإسرائيلية. إضافة إلى عدم تمكن الرياض من جذب دول شمال أفريقيا إلى معسكرها، خاصة خلال الأزمة القطرية.
القوى الإقليمية في عيون ابن سلمان
احتلت إيران مكانة مركزية في رؤية محمد بن سلمان للمنطقة، وارتبطت بمخططاته للمكانة التي يرغب أن تكون عليها المملكة في قادم السنوات، فكانت مواجهة القوى الإقليمية الأبرز في المنطقة هي هاجسه الأول، حتى قبل وصول ترامب للحكم، ومساعدته في هذا المسعى.
وينبع ذلك، من جهة لإحساسه الشديد بتهديد إيران للأمن القومي السعودي، بدعم الحوثيين وهي على حدود المملكة، ومن جهة أخرى، بدا أن لديه هوسًا بالقوة العسكرية والسياسية التي باتت تمتلكها إيران، ومكّنتها من تعظيم نفوذها في أركان النظام العربي إلى حدٍ بعيد. وقد تجلى ذلك من خلال تحليل جزء من حوار الأمير الشاب مع شبكة تلفزيون "CBS" الأمريكية، والذي أذُيع يوم 18 مارس 2018، حيث ذكر نصًا أن "إيران ليست منافساً للسعودية... فجيشها ليس ضمن أقوى 5 جيوش في العالم الإسلامي... والاقتصاد السعودي أكبر من الاقتصاد الإيراني... وإيران بعيدة عن المقارنة بالسعودية".
رغم أن السؤال كان حول ماهية المعركة بين السعودية وإيران، وإذا ما كانت مرتبطة بالإسلام أم لا.
وهو ما يُفسّر سلوك ابن سلمان تجاه اليمن، وسعيه إلى دحر الحوثيين والنفوذ الإيراني هناك. وكذلك الأمر في لبنان، حيث سعى لتشكيل تحالفات داخلية لتحجيم نفوذ حزب الله. وهو ما دفعه أيضاً لاستعادة علاقات المملكة بالعراق، في محاولة لضرب مكمن النفوذ الإيراني في بغداد.
أمّا في سوريا، فالأمر مختلف، فرغم التورط الإيراني الواضح هناك، إلا أن ابن سلمان لم يستطع التعامل بنفس المنطق مع هذا الملف، واتسم تعامله بعدم الوضوح أحيانًا والتذبذب أحايين أخرى.
فرغم استمرار الدعم العلني السعودي للمعارضة السورية، إلا أن الدعم الفعلي قد تراجع إلى أدنى مستوياته، وهناك من يدعي أن الرياض باتت تتلاعب بالمعارضة السورية.
وذكرت تقارير أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب طلب من الملك سلمان في ديسمبر/كانون الثاني 2017 مبلغ 4 مليارات دولار، للمساهمة في إعادة إعمار سوريا. وقبلها، وتحديدًا في سبتمبر/أيلول 2017 ظهرت عدة تقارير تؤكد أن موقف المملكة قد تغير بشأن الملف السوري، وأنها باتت لا تُمانع في بقاء الأسد.
ويعود اختلاط أوراق الملف السوري لدى محمد بن سلمان إلى عدة أسباب:
- تورط أطراف دولية في الملف السوري، في ظل رغبة من ابن سلمان في أن يكون أي تحرك له تحت غطاء دولي، أو على أقل تقدير، لا يكون مخالفًا لقناعات الأطراف الدولية المعنية.
- عدم الرغبة في إغضاب روسيا، بعد أن باتت تتمتع بعلاقات جيدة مع المملكة.
- عدم وضوح وتذبذب رؤية ترامب تجاه الملف السوري، وهو الأمر الذي انتقل إلى الرياض بالتبعية.
- انشغال ابن سلمان في التعامل مع الملفات الأخرى في اليمن ولبنان وقطر.
أمّا تركيا، ورغم اقتناع ابن سلمان أنها ستكون عقبة –على المدى البعيد- أمام هيمنة السعودية على المنطقة، إلا أنه يُدرك أن مناصبة العداء لأنقرة قد يصب في غير صالحه، فليس هناك خلافات سياسية جوهرية مباشرة بين البلدين، باستثناء ملف دعم الإخوان المسلمين فيما سبق، ودعم قطر مؤخرًا. وبالنظر إلى أن تركيا ليست حليفًا وثيقًا لإيران، وترغب دائمًا في تأمين "عمقها السني"، فقد يكون لها دور بجانب السعودية في دحر النفوذ الإيراني من المنطقة.
وفيما يتعلق بإسرائيل ومصر، فتبدو الأمور أكثر وضوحًا، فقد بات كل من الطرفين حليفًا وثيقًا للرياض، الطرف الأول بحكم الروابط الأمريكية التي تجمع مصالحهما، والطرف الثاني، بحكم الدعم السعودي له منذ 3 يوليو/تموز 2013. ولا يرى ولي العهد في البلدين أي تهديد على مكانة المملكة، بحكم عدم انتماء إسرائيل للمنطقة العربية (سياسيًا)، ونظراً لعدم قدرة مصر على استعادة مكانتها الإقليمية القديمة في ظل تراجع قوتها السياسية والاقتصادية.
اليمن وقطر ولبنان: سلسلة من الإخفاقات
"الشروع في مغامرات خارجية وسياسات غير قابلة للتنبؤ، وغالبًا ما تأتي بنتائج عكسية. وتحركات غالبًا ما تستند إلى افتراض ساذج؛ بأن سيناريو أفضل الحالات سيتحقق حتمًا، وبالتالي تفتقد إلى سيناريوهات بديلة. والدخول في صراعات ومواجهات ليس لديها أدنى فكرة عن كيفية إنهائها. والاندفاع وصناعة المزيد من الأعداء".
هكذا لخّص كوكبيرن في مقالته الشهيرة، التي كتبها في ديسمبر الماضي 2017 في صحيفة الإندبندنت، معالم السياسة الخارجية لمحمد بن سلمان، ومواجهاته الأخيرة في اليمن وقطر ولبنان.
انطلاقًا من اقتناع ولي العهد بأولوية التعامل مع التهديد الإيراني، رأى أن ساحة المواجهة الأولى لابد أن تكون اليمن، فهبت "عاصفة الحزم" السعودية في مارس/آذار 2015، أي خلال أقل من شهرين من تولي الملك سلمان مقاليد الأمور، وذلك دون تفكير عميق أو استعداد جيد، أو حتى دراسة واختبار الخيارات الأخرى لحل الأزمة اليمنية. ووعدت السعودية أن يتم استعادة صنعاء خلال شهرين فقط، ولكن التاريخ توقف منذ هذه اللحظة.
حاولت السعودية حشد دول الإقليم في حربها هذه، ولجأت إلى تكتيك الحصار البحري المقترن بالقصف الجوي شبه المستقر، ولكنها لم تستطع منع وصول المساعدات العسكرية الإيرانية إلى الحوثيين، كما لم تقترب حتى –إلى الآن- من تحقيق نصر عسكري حاسم.
بل على النقيض، أنتجت الحرب مأساة إنسانية ضخمة، باتت تُقارن بمذابح نظام الأسد في سوريا. وبعد مقتل علي عبدالله صالح –الذي كان على وشك إعادة تحالفه مع الرياض- باتت السعودية بلا مندوب فاعل وقوي على الأراضي اليمنية. لذا من المرجح أن يسود الوضع الراهن الكارثي في المستقبل المنظور.
وحينما حاول ابن سلمان بالتعاون مع الإمارات ومصر والبحرين محاصرة النفوذ القطري، وإجبارها على الالتزام بالخط السياسي لهذه الدول، من حيث مناوئة إيران والوقوف في وجه تيارات الإسلام السياسي في المنطقة، بحجة دعمها للإرهاب. كان الفشل هو النتيجة المحتومة لهذه التجربة.
فقد فشلت دول الحصار في توسيع نطاق التحالف الإقليمي المناوئ لقطر، وكذلك فشلت في تقديم أدلة جادة للمجتمع الدولي تُثبت تورط قطر في دعم الإرهاب في المنطقة، علاوة على فشل الحصار الاقتصادي في الاتيان بنتائجه المرجوة.
وقد بدا بشكل واضح أن دول الحصار –بما في ذلك محمد بن سلمان- لم تُخطط جيداً لهذا الحصار، ولم تمنح التقدير الكاف لقوى السياسة الخارجية القطرية.
وكانت النتيجة، فشل الحصار، وابتعاد قطر أكثر عن مجلس التعاون الخليجي، وزيادة النفوذ الإيراني في المنطقة، وتعزيز التعاون القطري مع كل من إيران وتركيا.
أمّا لبنان، وهي موطئ قدم هام ومركزي لإيران في المنطقة، فقد قرّر ابن سلمان، بين ليلة وضحاها، إعلان الحرب عليها، وذلك بغرض الضغط على حزب الله، والتأثير على مكانته هناك، حيث ضغطت الرياض على سعد الحريري، خلال زيارته لها في نوفمبر 2017، لإعلان استقالته بشكل رسمي ومُتلفز، وهناك تقارير تُفيد أن الحريري تعرّض للاحتجاز الجبري في العاصمة السعودية.
ثم ما لبث أن أعلن وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج "ثامر السبهان" أنه سيتم التعامل مع الحكومة اللبنانية، التي يهيمن عليها حزب الله، كما لو أنها "أعلنت الحرب" على الرياض.
وتصاعدت الأزمة الدبلوماسية، ولكن تم تخفيف هذا الأمر بعد أن دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون علانية الحريري إلى باريس، مما وفر له وللسعوديين مخرجاً من الأزمة، التي انتهت بعودته إلى لبنان، وتراجعه عن الاستقالة.
وبدا واضحاً، أن ابن سلمان قد خرج من هذه الأزمة بخسائر مُضاعفة، حيث أنه أحُرج دبلوماسياً، وحرق أهم أوراق الرياض في لبنان وهي "سعد الحريري"، وناصب العداء بشكل شبه مباشر للشعب اللبناني، خاصة بعد محاولته لاتباع استراتيجية لمحاصرة الاقتصاد اللبناني، وأخيراً، فقد ظهر حزب الله بمظهر المنتصر، وظل موقفه في الداخل أكثر تماسكاً.
وإجمالاً، يمكن القول أن إخفاقات ابن سلمان في سياساته الخارجية هي إخفاقات مزدوجة، من حيث طبيعة الخطوات "المتهورة" التي يُقدم عليها دونما تخطيط جيد تحت شعار "الحزم"، إضافة إلى عدم إدراكه أن القدرات السياسية والاقتصادية للمملكة –وبالتالي ثقلها على المستوى الإقليمي والدولي- قد تراجعت بالفعل ولم تعد كما كانت في سالف العصور. فمحمد بن سلمان يجلس على عرش غير مستقر بعد، ويستند إلى حليف دولي غير موثوق فيه.
ويظل هناك احتمال قائم يلوح في أفق المستقبل المنظور، وهو أن تتطلع طموحات محمد بن سلمان إلى تَخطي الحدود التي رسمها له الحليفان الإماراتي والأمريكي.
بدأ الأمر في اليمن، حيث تدور عدة تحليلات حول خشية السعوديين أن تنتزع الإمارات مواطئ قدم استراتيجية هناك، ومن ثَمَّ تقويض النفوذ السعودي في الفناء الخلفي التقليدي للمملكة، وهو ما تجلى في المعارك التي نشبت في عدن، في يناير 2018، بين قوات الحزام الأمني (انفصاليون من جنوب اليمن) بدعم إماراتي، وقوات الحكومة اليمنية، برعاية التحالف العربي السعودي.
وعلى جانب أخر، قد تسعى السعودية/ابن سلمان لتملك برنامج نووي متطور، يسمح لها مستقبلاً بإنتاج أسلحة نووية، وهو الأمر الذي سيضع الرياض في مواجهة واشنطن –آجلاً أو عاجلاً-، ففي مارس 2015، صرّح عادل الجبير، وكان حينها السفير السعودي في واشنطن، في حوار مع CNN الأمريكية، أن السعودية ستبني برنامجها النووي الخاص وستصنع قنبلتها النووية لمواجهة البرنامج النووي العسكري في إيران، مؤكداً أنه لا تفاوض على عقيدة المملكة وأمنها.
هذا وقد أعلن مجلس الوزراء السعودي بالفعل في 13 مارس 2018، الموافقة على سياسة برنامج الطاقة النووية، ومن المتوقع أن تشمل الخطة السعودية إنشاء ما مجموعه 16 مفاعلاً على مدى السنوات الخمس والعشرين المقبلة.
السؤال المطروح حالياً؛ هل ستسير المملكة في برنامجها النووي في ظل الضوابط الأمريكية، أم أنها ستحاول الانحراف عنها في لحظة ما، وتتحدى هذه القوى العظمي والحليف الأوثق –حالياً- بشكل واضح؟