في ديسمبر/كانون الأول 2017 تعرض وحيد الرفاعي وهو مصري يقيم في الكويت منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة ويدير ورشة لإصلاح الدراجات النارية، للـضرب المبرح والسحل على يد مواطن كويتي أراد إصلاح دراجته، وذلك لأنه طلب منه الانتظار حتى ينتهي العمال من استراحة غدائهم، حادث تستعيده رنا عبد المحسن (اسم مستعار) ضمن حوادث أخرى مكررة، بالخوف والقلق والتوجس.
تعيش رنا حاليًا في القاهرة، بعد أن سعت كثيرًا إلى الحصول على فرصة عمل في الكويت حيث ولدت عام 1993 ونشأت حتى نهاية المرحلة الثانوية وما زالت والدتها وجزء كبير من عائلتها يقيمون هناك منذ عقود، حتى بعد وفاة والدها.
بنك دولي كبير يرفض انضمامها له كمتدربة بعد حصولها على بكالوريوس الإعلام من جامعة مصرية عام 2013 "ماقبلوش عشان البنوك ما بيشتغلش فيها غير كويتيين، وهم مش حابين يبذلوا مجهود على شخص مش هيوظفوه في الآخر، ما رضيوش غير بواسطة بس ما كملتش غير شهر واحد ومشيت".
بعدها حاولت التدرب في جريدة كويتية ذائعة الصيت، لتكون هذه التجربة التي ستقرر بعد بدء خوضها بثلاثة أشهر أنها لن تحاول العمل في هذا البلد أبدًا "كان عاجبهم شغلي وبينشروه بس من غير اسمي، الفريق كله كان متحفظ معايا وبيتجنبوني مع إنهم بيكلموا كويتيات عادي، آخر حاجة اتقالت لي إن شغلي حلو جدًا بس توظيفي أمر صعب لأنهم مش عايزين وافدين".
تحكي رنا أنها تسمع من والدتها وخالاتها وآخرين من عائلتها التي عاش أكثر من جيل منها في الكويت لعقود، مواقف مختلفة تتراوح بين كراهية المواطنين وتحفزهم ضد الوافدين في السنوات الأخيرة، رغم أن سنينها الأولى، لم تكن تحمل هذه القصص "من ساعة ما اتولدت هناك ولحد ما خلصت ثانوية عامة، ما مريتش ولا سمعت عن حوادث عنصرية أو كراهية من المواطنين بشكل واضح"، لكن الفترة الأخيرة صارت حكايات العائلة تتشبع بتلك القصص، ومع مواقف كموضوع توظيفها، لم تعد حتى تفضّل التردد على البلد كثيرًا.
عدم الترحيب الذي واجه رنا في مسألة توظيفها تقاطع مع ما تسمعه من مواقف عابرة تخيفها فلم تعد تفضّل حتى التردد على البلد كثيرًا، رغم أنها لم تواجه عدوانية حقيقية، ولكن عمر محمد (اسم مستعار) واجه أحد هذه المواقف.
يتعرض محمد الذي عمل في الكويت مهندسًا لأربع سنوات يوميًا أثناء قيادة سيارته لتعامل خشن وتعدّ لفطي بدون سبب واضح، إلا أنه يقود سيّارة تدل على كونه وافدًا "عربيات الكوايتة أغلبها عربيات عالية، لو انت مش راكب عربية عالية فانت بشكل أساسي وافد".
يحكي محمد أن سائقًا كويتيًا تعدّى عليه لفظيًا لأنه "قلّبت له نور عربيتي" بعد أن تجاوزه الكويتي بشكل مفاجئ ليكون أمامه، يضيف "كنت ماشي على طريق سريع من 3 حارات وفي يوم أجازة"، استفز ما فعله محمد المواطن فتوقف بسيارته فجأة، وتعدّى عليه لفظيًا.
تتكرر هذه المواقف مع محمد خلال قيادته "ممكن حد يكسر عليّا في وسط الزحمة عشان يبقى قدّامي، ولو أصريت ومشيت في سكّتي بنفس السرعة يفتح شبّاك السيارة ويعمل إشارات بذيئة"، يؤكد محمد أن وافدين آخرين تتكرر معهم مثل هذه المواقف.
لا يقف التحفّز ضد الوافدين على مشادات أو شجار أو تجنّب توظيفهم، يتّسع الأمر ليصل إلى محاولات قضائية للتضييق عليهم. في عام 2017، رفع مواطن دعوى قضائية لإلزام وزارة التربية والتعليم بقصر حق التعليم في المدارس الحكومية على الكويتيين فقط. أما البرلمان الكويتي فطالما شهد مناقشات ساخنة وصلت لاستجواب وزيرة الشؤون الاجتماعية والعمل ووزيرة الدولة للشؤون الاقتصادية هند الصبيحي، كانت أحد محاور هذا الاستجواب هو "الإخلال بالتركيبة السكّانية وتعيين الوافدين ومحاربة الكفاءات الكويتية"، ردت الوزيرة بأن التعيين مسألة لا تخضع للأهواء، وإنما بحسب احتياجات البلاد.
الغضب البرلماني كان مبالغًا فيه، فبينما يمثل الوافدون ثلثي سكان الكويت، جرى تعيين حوالي 790 وافد فقط بالوظائف الحكومية في عام 2017 مقابل ما يزيد عن 12 ألف مواطن. مع الوضع في الاعتبار أن النسبة الأكبر من الوافدين يعملون في القطاع الخاص وليس الحكومي. كما أعلنت الكويت نهاية العام الماضي حاجتها للمزيد من الوافدين لإنجاز مشاريع تتعلق بالتنمية في البلاد.
لم تكن تلك الغضبة الأولى داخل البرلمان، فطالما شهد وقائع وتصريحات عدة من قبل النواب بالاستياء من وجود الوافدين واحتلالهم موقع الأغلبية من السكان وقوة العمل. الأسباب تعددت ما بين الهاجس الأمني، والبطالة، لكن هناك سببًا دائم التكرار، ويمثل "موضوعًا سياديًا"، وهو الخلل في التركيبة السكانيًة.
لا تعد نسبة البطالة في الكويت الأعلى بين دول الخليج، فهي لا تتعدّى الـ5%، كما أنها ليست الدولة الأكثر تأثرًا بانخفاض أسعار النفط. ولكن إقرار الحكومات الخليجية إجراءات التقشف منذ 2016، أثر بالسلب على مستوى معيشة المواطنين والوافدين على حد سواء. وبحسب التصنيف السنوي لمؤسسة "انترنيشنز" (Internations) الدولية، والذي صدر في سبتمبر/ أيلول 2017 ونشرته جريدة الرأي الكويتية، فقد حلّت الكويت في المرتبة قبل الأخيرة على قائمة أسوأ الوجهات لإقامة الوافدين في العالم، بعد اليونان، بعد أن كانت تشغل المركز الأخير وفق التصنيف نفسه عام 2016.
وبحسب تقارير نشرت في صحف كويتية كالقبس والرأي، وحملت أرقامًا وآراء لخبراء اقتصاد، فالكويت دولة في حاجة ماسّة إلى القوى العاملة الوافدة من أجل استمرار مشروعات التنمية، إضافة إلى اعتماد قطاعات اقتصادية كاملة، كالقطاع العقاري، على وجود الوافدين لزيادة الطلب على الوحدات المؤجرة، خاصة وحدات السكن العائلي. وعلى الرغم من ذلك فإن دائرة الاستياء من تواجد الوافدين تتسّع. يكفي الإشارة إلى أن الخبراء الذين تحدّثوا للرأي عن أهمية الوافدين للاقتصاد الكويتي رفضوا ذكر أسمائهم "لحساسية الموضوع".
تشكّل مسألة التركيبة السكّانية في البلاد، والتغير الديموجرافي الذي تشهده منذ عقود بسبب زيادة الوافدين وتحولهم لأغلبية سكانية، مسألة محورية يتحدّث عنها السياسيون طيلة الوقت، أشهرهم في هذا على الإطلاق البرلمانية صفاء الهاشم، التي تبدي عداءً واضحًا تجاه الوافدين. وعلى الرغم من تطبيق نظام الكفيل الذي تطالب الأمم المتحدة دول الخليج كافّة بإلغائه، والفرق الواضح بين مرتبات الوافدين والمواطنين، يظل الوافدون فئة غير مرغوب فيها، ويتم الإشارة لهم كسبب للجرائم وعائق أمام حصول أبناء البلد على الوظائف.
ليس بسبب انخفاض أسعار النفط
هذه النظرة تسبق الإجراءات التقشفية وموجة ارتفاع الأسعار في البلاد بسنوات. في عام 2000 نشر موقع مجلس الأمة الكويتي دراسة من خمسة فصول، لا تذكر أرقامًا واضحة، لكنها تصف العمالة الوافدة كخطر على تقاليد المجتمع الكويتي وقيمه وشبابه، وتضيف أن أبناء الوطن هم أحق الناس ببنائه.
وفي 2011، قال رئيس مركز الجاليات في الكويت المهندس عمر العتيبي أن زيادة أعداد الوافدين مقابل المواطنين تشكل هاجسًا أمنيًا واجتماعيًا "مخيفًا"، وسببا لارتفاع معدلات الجريمة، وعلى الرغم من إقرار العتيبي بعدم وجود إحصاءات دقيقة لنسب الجرائم التي يرتكبها الوافدون، إلا أنه حدد جرائم قال إن أكثرية مرتكبيها من الوافدين كالاتجار بالمخدرات والدعارة، وإن الجاليات الآسيوية أكثر تورطًا بها.
التصاعد في خطاب الكراهية والتضييق على الوافدين بدا واضحًا وقويًا منذ نهايات العام 2016 مرورًا بالعام الذي تلاه، وهو ما يؤكده رئيس الجمعية الكويتية لحقوق الإنسان، خالد الحميدي، في حواره مع جريدة الراي في سبتمبر الماضي واصفًا قرارات الحكومة وتصريحات البرلمانيين واقتراحاتهم الهادفة إلى تعديل التركيبة السكّانية بالعنصرية والمخالفة للمواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
هل الخوف مبرر كافٍ؟
لا تقف الكويت وحيدة في ميدان التحفز ضد المهاجرين أو المقيمين من غير أبناء البلد، والشعور بالتهديد جرّاء تحوّل الأغلبية إلى أقلية، فالولايات المتحدة الأمريكية واختيار ترامب رئيسًا، حمل نفس العلامات تقريبًا.
في العام 2000، نشرت الجارديان البريطانية توقعات بأن الولايات المتحدة ودولًا في أوروبا، ستشهد تحولًا ديموجرافيًا كبيرًا يخسر معه العرق الأبيض موقعه كعرق غالب في تلك المجتمعات. وفي العام 2008، نشر مكتب التعداد الأمريكي تقريرًا يتوقع أن الأعراق المختلفة ستمثل أكثر من 50% من المجتمع الأمريكي بحلول عام 2050، أي أنهم سيكونون الأغلبية.
كان حدس جينيفر ريتشسون، أستاذة علم النفس بجامعة يال، يخبرها إن خبرًا كتحول العرق الأبيض من أغلبية إلى أقلية في الولايات المتّحدة الأمريكية بالتأكيد سيخيف المنتمين إلى العرق الأبيض، وهذا الخوف سيغيّر كثيرًا من تصرّفاتهم. ريتشسون اعتقدت، من خبرتها في مجالها، أن إحساس عرق ما بهويته وثقافته واعتزازه بها يكون دائمًا في سبات عميق عندما يكونون أغلبية، لكن تغيير موقعهم في المجتمع، وما يشكله هذا التغيير من تهديد لثقافتهم، يجعل المُهَدَّدين أكثر تحفظًا. خاصة إذا كانوا غير مسيسين، وليسوا مؤمنين بمبادئ الليبرالية والحرية، فحينها يؤثر هذا التهديد في تصرّفاتهم.
ريتشسون وعلماء آخرون من نفس تخصصها نفذوا أبحاث تجريبية عن مدى تأثير هذا التهديد على الخيارات السياسية قومية النزعة، كاختيار ترامب رئيسًا في الولايات المتحدة، واختيار أغلبية البريطانيين الخروج من الاتحاد الأوروبي. أبحاث ريتشسون أثبتت أن معرفة مجموعة من البيض بتوقعات تحولهم من أغلبية إلى أقلية يجعلهم أكثر إحساسًا بهويتهم وتعاطفًا مع أبناء عرقهم. تشابهت هذه النتائج مع أبحاث أخرى أجريت على أمريكيين وكنديين من قبل علماء آخرين.
بشكل ما، تظن ريتشسون وغيرها من العلماء أن جزءًا كبيرًا من وجود جمهور مؤيد لتصريحات ترامب ضد المهاجرين له علاقة باستفزاز ناتج عن التهديد القائم للعرق الأبيض. هذا التهديد لا يؤثر على القرارات السياسية فقط، ولكن يمتد لكل قرارات الشخص الذي يشعر بالتهديد ليشمل حتى اختيار الطريق الذي سيذهب إليه تبرعه بالأموال، فيفضل الفقراء من نفس عرقه.
دراسة أخرى لمركز Pew البحثي صدرت في 2011، نشرتها بي بي سي عقب فوز ترامب تتوافق مع نتائج ريتشسون، فأكثر من نصف الأمريكيين البيض الأكبر من 45 عامًا، وهي الشريحة التي تمثل أغلب مؤيدي ترامب، قالوا إن الأعداد الكبيرة المهاجرة إلى الولايات المتحدة خطر على الثقافة والقيم الأمريكية. هذه الشريحة اختارت ترامب من أجل وعوده الاقتصادية أولًا، ومن أجل موقفه المناهض لزيادة أعداد المهاجرين في البلاد ثانيا. يحدث هذا في الوقت الذي يأتي فيه قرابة نصف جيل الألفية والأطفال الأمريكيين من أعراق أخرى.
السياسة تستغل كل شيء
استغلال ترامب لهذا الخوف في تصريحاته عن اللاجئين والمهاجرين، لم يختلف كثيرًا عن الطريقة التي استغلته بها المعارضة الكويتية، صاحبة الغلبة في البرلمان، فبحسب مقال سكوت واينر، الحاصل على الدكتوراة في العلوم السياسية من جامعة جورج واشنطن، على موقع مركز كارنيجي، استغلت المعارضة الاستياء الشعبي من العمالة الوافدة في البلاد من أجل الضغط على الحكومة للتراجع عن إجراءات التقشف التي تتبعها منذ عام 2016، لتكسب في النهاية أصوات الناخبين الكويتيين المتعبين من آثار التقشّف.
كان بديل المعارضة الكويتية لخطة التقشف، والتي قوبلت باستياء شعبي شديد بسبب الغلاء ورفع تكلفة المعيشة، هو فرض إجراءات تضيق الخناق على الوافدين وتدفعهم للمغادرة، كبديل لتقشف المواطنين. ففي الوقت الذي تشكّل فيه العائدات النفطية 38.5% من الناتج المحلّي الإجمالي الكويتي، فإن انخفاض سعر برميل النفط يؤثر على موارد الموازنة العامة للدولة، ما جعل دول الخليج، ومنها الكويت، تقر إجراءات كرفع الدعم عن الكهرباء والوقود تسببت في تغيير كبير في إنفاق المواطنين الكويتيين.
تقول رنا إن وجود نسبة للبطالة مع موجات الغلاء التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأخيرة جعل الأمور أكثر صعوبة على الجميع، وهو، في رأيها، ما جعل الكويتيين أكثر عدائية تجاه الوافدين "قبل سياسة التكويت اللي بدأت من 2009 تقريبًا كانت نسبة البطالة أعلى من كده، الناس مش مدركة أوي أهمية وجود الوافدين لاقتصاد البلد، هم شايفينهم ناس جاية تشاركهم في قوت يومهم".
هذا التصوّر الذي سردته رنا يتّفق وتحركات النواب الكويتيين ضد إجراءات التقشّف الحكومية، فحسب مقال واينر، كانت أغلب اقتراحات النواب البديلة لتلك الإجراءات تركز على فرض ضرائب أو غرامات على الوافدين الذين لا يحسبون كلاعب في صفقة الحكم في الكويت، رغم كونهم أغلبية في البلاد، لعدم وجود صوت انتخابي لهم، ما يجعل كلا من نواب الحكومة والمعارضة غير مكترثين تمامًا بإرضائهم.
وعلى الرغم من اعتقاد واينر، في مقاله المنشور في 2017، بعدم الجدوى الاقتصادية للإجراءات المالية ضد الوافدين، فقد استمرت ويستمر معها التحفّز الشديد ضدهم من قبل النواب، حتى مع ظهور إجراءات قوية من دول كالفلبين، التي أعلنت منع توريد الخادمات الفلبينيات نظرًا للمعاملة السيئة التي يلاقينها هناك، في الوقت الذي يعمل في الكويت ما يزيد على 170 ألف فلبيني وفلبينية، بحسب وزارة الخارجية الكويتية.
لم تعد رنا عبد المحسن متحمّسة لوجودها في الكويت كما كانت قبل حدوث ما سردته للمنصة، تمثل البلد لها أهمية كبيرة نظرًا لمولدها ومعيشتها سنوات عمرها الأولى بها، ووجود جزء كبير من عائلتها هناك "كأن الجذور اللي بتربطني بالمكان اتخلخت"، هذا ليس شعورها وحدها، فأغلب أفراد عائلتها المقيمين هناك، يفكّرون جديًا في الرحيل عن الكويت والعودة إلى مصر.