منذ دخول وانتشار الإنترنت، ومع تزايد أعداد مستخدميه يومًا بعد الآخر؛ منيت الصحف الورقية بخسائر فادحة جراء ظهور مساحات صحفية إلكترونية، سحبت البساط من تحت أقدام الشكل التقليدي للمنتجات الصحفية، ممثلًا في الصحف المطبوعة.
تمثلت هذه الخسائر في تناقص أعداد مشتري الجرائد الورقية التي عجزت عن منافسة مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي في سرعة نقل المعلومة والخبر، إضافة إلى أن العديد من مواقع الإنترنت الصحفية أصبحت ملاذًا لأعداد كبيرة من الصحفيين والكتّاب الذين لم يجدوا لهم مكانًا داخل المؤسسات الصحفية لكثرة الصحفيين أحيانًا وللتضييق الأمني في أحايين أخرى.
يتداول صناع الصحافة والإعلام في العالم تعبيرًا، ورد على لسان نائب الرئيس التنفيذي لمؤسسة IREX ألكسندر داردلي، مفاده أن المعلومات أشبه بالطعام الذي نتناوله، لذلك نحن نبقى بحاجة دائمة لفهم مكونات المعلومات التي نحصل عليها، ومعرفة كيف أُنتجت؟ وأين؟ وما الآثار المترتبة على الإفراط في استهلاكها؟
تقول القاعدة إن "الحاجة أم الإختراع"، تصوّر يمكن أن نعتبره دستورًا صريحًا لأي مشروع جديد يهدف إلى الصعود والتواجد؛ فإن عليه أن يعالج مشكلة ما.
مشروع إلكتروني بخلفية ورقية
على ما يبدو جاء إطلاق وتأسيس مشروع "البرنامج المصري لتطوير الإعلام"، بداية من عام الثورة 2011، لتقديم خدمات التدريب والاستشارة، لمؤسسه ومديره التنفيذي طارق عطية، الذي جاءت خبرته في الأساس من الصحف الورقية.
يوضّح عطية، الكاتب السابق بصحيفة "الأهرام" لـ"المنصة"، أنه "في بداية تأسيس المشروع، في 2011، كان الإقبال ضعيفًا بشكل نسبي، ثم بدأ تدريجيًا ينال شهرة ومعرفة من قِبل المؤسسات المختلفة في الداخل والخارج، فالمشهد الإعلامي يتغير بسرعة خصوصًا وأن الجميع كان يدرك بعد ثورات الربيع العربي، أن الإعلام يحتاج إلى تطوير شديد، ويفتقر إلى كفاءات قيادية صحفية أكثر احترافًا، في الوقت الذي يحتاج الصحفيون القائمون على صناعة الصحف الورقية للإلمام بمهارات حديثة تواكب الوقت الحالي، خصوصًا مع وجود مواقع التواصل الاجتماعي التي تقدم الأخبار عبر الإنترنت مجانًا مقابل تكاليف الصحف الباهظة".
على سبيل المثال صمم فيسبوك خاصية (Explore Feed) التي تتيح للمتصفّح رؤية منشورات وأخبار أشخاص من خارج دائرة الأشخاص الموجودين في قائمة أصدقائه، وهو ما يوسّع -على ما يبدو- من حجم الوقت الذي يقضيه البعض على الفيسبوك معتمدًا على أخباره فقط.
من الواضح أن المبرمج الأمريكي الشاب مارك زوكربيرج، مؤسس فيسبوك، يعي مدى المنافسة التي هو بصدد مواجهتها، ربما أكثر من أي شخص آخر، سواء من الصحافة التي ربما ليست على القدر الكافي من المنافسة، بخلاف ما يعرف بـ"إتحاد وسائل الإعلام الخبرية" الذي يجمع حوالي ألفي مؤسسة إعلامية ضد احتكار فيسبوك وجوجل، والخطورة التي يمثلها ذلك الاحتكار على الصحف، أو حتى من خلال (Social Newswire) أو "محتوى الجمهور"، الذي يتيح للمواطنين إنتاج الأخبار بأنفسهم، وعرضها من خلال أي وسيط حتى خارج فيسبوك.
مرة أخرى يؤكد القائمون على "المشروع" إدراكهم الشديد لقيامه على تمويلات الرعاة، بالتالي فإنهم يفهمون مشروعهم باعتباره مؤسسة استثمارية قبل كونه مؤسسة صحفية، فهو يهدف إلى الربح في المقام الأول، بالتالي يجب أن ينافس على ذلك قبل خوض أي معارك، وأن يتعامل باحترافية شديدة تعكس مهنية وقدرة القائمين عليه.
يضيف طارق عطية أيضًا أنه إلى جانب تقديمه للتدريب والاستشارة، كان يرى أنه من الأفضل تقديم مشاريع صحفية على أرض الواقع، تمثّل الرؤية المهنية والإعلامية للمؤسسة، ومن هنا جاءت فكرة إنتاج مشاريع صحافية مثل جريدة "منطقتي" وجريدة "المصري معاك" التي صدرت -بتوزيع مجاني- فترة قصيرة من الوقت بالتعاون مع جريدة "المصري اليوم" ثم توقفت، إلى جانب موقع "زحمة" الإلكتروني، من أجل تطوير الإعلام في المنطقة.
وبالرغم من أن الجرائد الورقية التابعة للمشروع توزّع مجانًا إلا أن عطية لا ينصح بخوض تلك التجربة "الصعبة" دون دراسة جيدة لتكاليف النشر والطباعة والإعلانات، وعدم الاعتماد على سرعة استجابة المستثمرين للأمر، بالإضافة إلى التفكير جيدًا في التجديد الذي ستضيفه للسوق.
تعرّف جريدة "منطقتي" نفسها بكونها "منصة غير دورية تغطي أحياء وسط البلد والزمالك، وتقدّم خدمة للمجتمعات المحلية" كتجربة استثنائية في مصر؛ إذ توفر معلومات مفيدة ومحتوى ترفيهيًا، وشكلًا مبتكرًا بصريًا. وتصل للقراء حتى منازلهم أو شركاتهم، كما تملك الجريدة موقعًا خاصًا على شبكة الإنترنت، يُحدّث أوّلًا بأوّل، ويزوّد بآخر الأخبار والفعاليات والصور المتميزة. وتقدّم مادة صحفية خاصة يتم نشرها كل جمعة فى جريدة المصرى اليوم أيضًا.
يقول الكاتب والشاعر يحيى وجدي رئيس تحرير الموقع للمنصة أنه "يجب اختيار أفضل الصحفيين والمصوريين، والتعامل مع الأمر بشكل احترافي تمامًا لتفادي العشوائية أو الهوائية عند التنفيذ"، بالتالي التعامل مع المشروع بشكل محترف واستثماري في المقام الأول، وحتى لا يتم الاستهتار أو التقليل منه إلى جانب محدودية تغطيته الإخبارية التي قد لا تجذب الكثير، كما يشير أيضًا إلى تركيز الساعين لإنشاء مشاريع مشابهة لـ"عدم الاعتماد على التمويل المالي المؤقت الذي يتواجد قبيل الانتخابات الفئوية الداخلية فقط".
على الجانب الآخر قال مدير تحرير بي بي سي جلوبال نيوز Jamie Angus أن مصطلح "الأخبار البطيئة" أو (News Slow) لا يتعلق بطول المقالات بل بالوقت الإضافي الذي يستغرقه الصحفي في إعداد تلك المقالات والتفكير في صياغتها، وهو ما سيجعل الجمهور يقضي وقتًا أطول لمطالعة المواضيع وبتركيز أكثر في الغالب؛ "ألّا يهتم الصحفيون بالأخبار في المجمل بقدر اهتمامهم بتقديم محتوى أكثر عمقًا للموضوع محل التناول".
من جانبه يقول عضو المكتب التنفيذي والمستشار الإعلامي للبرنامج إيهاب عبد الحميد لـ"المنصة" إن الواقع الإعلامي يحتاج للتطوير والحراك الذي يقدمه المنتدى، ومناقشة متخذّي القرار الإعلامي، من خلال تبنّي أرضية مشتركة للصحافيين والإعلاميين، وإطلاعهم على أهم التقارير السنوية حول أفضل الممارسات الصحفية في العالم وكيف تعامل معها سواء في أوروبا أو أمريكا بخبرة شديدة وتفاعل ممتاز، مثلما يحدث في الخارج من محاكاة لإتحاد الناشرين، والمناقشات حول انفصال المعلنين عن الصحافيين.
إجمالًا ربما تمثّل تجربة البرنامج المصري إلى جانب النماذج القائمة عليها؛ تجربة ثرية ومهنية إعلاميًا مختلفًا -ولو قليلًا عن المتواجد- يمكن أن يستفيد منها كافة الإعلامية المصريين والعالم العربي بشكل عام؛ تجربة تسعى بخطوات ثابتة ومنتظمة لتطوير منظومة تتدخل في كافة شئون الحياة، خصوصًا في الوقت الراهن، ربما تثبّت أقدمها بقوة يومًا تلو الآخر لا سيما يساعدها في ذلك تزايد الإهتمام بالصحافة الإلكترونية سواء كان ذلك على حساب الورقية أو بالتوازي معه، لكن الظرف التاريخي الحالي يدفع الصحافة الإلكترونية إلى المزيد من التقدم في حين يبقى السؤال هل نعتبر هذا التقدم دليلًا على "موت الصحافة الورقية" كما يردد البعض؟
تربية إلكترونية بحتة
من جانبه يرى أسامة الشاذلي رئيس تحرير موقع "المولد" الإلكتروني والذي أسسه بعد تجربتين في موقع "السينما" ثم رئيس لتحرير موقع "كسرة" أن الإنترنت هو المستقبل.
ويوضح لـ"المنصة" أن "الإنترنت مستقبل لأي وسيلة إعلامية سواء كانت صحافة أو تلفزيون أو حتى راديو".
ويضيف أن هذه الوسائل من الممكن ألا تكون موجودة بعد فتر ليست بعيدة، إلا من خلال الإنترنت نفسه، كما يوضّح أن الصحفي الورقي الآن "يكتب نوعًا من الصحافة انقرض ومات"؛ فلم يعد قرّاء الصحف هؤلاء الذين ينتظرون جريدة/موقع بعينهم، فسواء الصحف أو قارئ الإنترنت، كلاهما لا ولاء له لأي جريدة/موقع بعينه.
يضيف الشاذلي أنه بعد تجربة "كسرة"، عاد إلى مصر وقرّر خوض تجربة مصرية كاملة تصب اهتمامها في موضوعات فنية وترفيهية خفيفة أهمها "حفظ التراث" ومن هنا جاءت تسمية المولد محاولة "لتحويل الصحافة لفن ليس مجرد مهنة عادية" على حد تعبيره.
الآن نحن أمام رؤية جديدة بدأت إلكترونيًا بشكل أكثر وضوحًا وجذرية، وتتوقع نهاية الصحافة الورقية خلال 15 عامًا على أقصى تقدير!
الصحافة الورقية.. تمرض ولا تموت؟
على الجانب الآخر يعلّق الكاتب الصحفي محمد مكي مدير تحرير جريدة الشروق المصرية -إحدى أكبر الصحف المصرية الخاصة لـ"المنصة" قائلًا إنه على الرغم من كون الصحافة الإلكترونية هي "المتنفّس الجديد" والمهم لدى الصحفيين لما تملكه من مساحة حرية أكبر من الورقية وكونها لا تخضع "للمعايير والقواعد الصحفية المعتادة".
ويستدرك أن الصحف الإلكترونية في الوقت ذاته لا تزال تحتاج إلى "تقنين"، بالإضافة إلى العمل على مشاريع قوانين للتأمين على القائمين عليها بشكل عام سواء كتّاب أو إداريين خصوصًا أن كل المشاريع الإلكترونية التي ظهرت في الفترة الأخيرة لم تعترف بها الدولة أو "نقابة الصحفيين" بخلاف جريدة اليوم السابع
لكن في النهاية يقول أن "هناك مشاريع صحف ورقية في الطريق لكنها لا تزال تابعة الدولة بشكل مباشر، ربما تظهر قريبًا أو لا، لذلك ربما تخطئ الآراء التي تعتقد بموت الصحافة الورقية".
وفي الوقت ذاته يضيف مكي أن الصحف الورقية المصرية الآن تعاني من شح وقلة الموارد المالية، بالإضافة إلى سطوة أصحاب الملكية ورجال الأعمال ومن يمثلوهم بأجنداتهم المختلفة خصوصًا في الصحف القومية التي تعاني من المشاكل ذاتها إلى جانب قلة الرواتب التي يحصل عليها الصحفي في الجريدة الورقية -الذي يصل في حالة سكرتير التحرير لـ 5000 جنيه.
تقف آراء أخرى إلى جانب مكي باستبعاد موت الصحافة الورقية في مقابل الضغوط الكبيرة التي تتحملها وتؤثر عليها مؤخرًا لكنها تبقى العمود الأساسي والمرجع الأكثر أهمية من غيرها خصوصًا وسط هذا الكم الهائل من المواقع الإلكترونية التي "أتاحت لأي شخص يمكنه أن يستخدم الإنترنت بالتدوين والكتابة"، بالتالي لا تزال بحاجة إلى تطوير وتقنين بالإضافة للتأمين على العاملين مما يجعلها تسير بالتوازي مع الصحف الورقية.
إلى جانب كل ذلك سعت مواقع أخرى لإصدار كًتب كاملة إلكترونيًا تتيح للقارئ العربي قراءة الكتب ذاتها عبر الإنترنت، في المقابل تواجه تلك الأشكال "الإلكترونية" مشكلات عدم تقبل الجمهور لها في البداية وصعوبة التعوّد عليهم إلى جانب خوف الصحفيين ذوي الخبرة الكبيرة من التجديد "والمقامرة" بتلك البدائل للصحف والمجلات المطبوعة وفترة تعوّد جيل جديد "يتتلمذ" على مواقعها؛ يظل من الأفضل التدريب والعمل عليها إذا أرادت أن تفرض نفسها أكثر.
يشير التقرير السنوي لنادي دبي للصحافة" أشار أن أبرز التحديات التي تواجه الإعلام اليوم هي نقص الكفاءات والتمويل والتشريعات ومقاييس دقيقة للمتابعين"؛ ما يوضّح أنها ملاحظات كانت ولا تزال تنطبق على الصحف الورقية والإلكترونية على حدٍ سواء مع اختلافات بسيطة، لكن على ما يبدو أن الحديث عن التهام أحدهما للآخر وصعوده على حسابه أصبح كلامًا غير مُجدٍ خاصة في وجود جمهور عربي عريض بعضه لم يزل بعد يمل من قراءة شاشات الكمبيوتر.