في أغسطس/آب من العام الماضي، قررت الحكومة المصرية – ثاني أكبر مستورد للقمح على مستوى العالم- منع القمح المصاب بفطر الأرجوت من الدخول إلى البلاد، وخفضت نسبة الإصابة بالفطر المسموح بها إلى 0%، بدلًا من النسبة العالمية وهي 0.5%. تسبب هذا القرار في أزمات سياسية بين مصر وبعض الدول وفي مقدمتها روسيا، التي كان ردها فوريًا، إذ منعت دخول صادرات مصر من الفاكهة والخضروات إلى أراضيها، بحجة وجود بعض الاختراقات في بعض الشحنات المُصدرة.
ولم تكتفي الحكومة الروسية بذلك، بل فرضت إجراءات جديدة واشتراطات أكثر صرامة، فيما يتعلق بتعليقها الرحلات من وإلى المطارات المصرية، والحظر المفروض على قدوم سائحيها إلى مصر. وكانت روسيا قد فرضت هذا الحظر في أعقاب سقوط طائرتها على صحراء سيناء في أكتوبر/تشرين من العام 2015. هذه الإجراءات تحديدًا أجبرت الحكومة المصرية، التي تمسكت بقرارها في أول الأمر، بخصوص نسب وجود فطر الإرجوت، إلى التراجع وإعلان الاستسلام أمام التصلب الروسي، خاصة وأن مخزون القمح في البلاد كان على شفا الخطر.
بطبيعة الحال، كان هذا يستدعي قيام الحكومة المصرية باتخاذ إجراءات تحول دون تكرار الأزمة، لاسيما وأن ذلك يلوح في الأفق بالفعل بعد صدور حكم قضائي، الأسبوع قبل الماضي، يمنع القمح المصاب بالأرجوت تمامًا من دخول البلاد. ويفترض أن تشمل هذه الإجراءات، توسيع قاعدة الاستيراد من عدة دول، وإفساح المجال أمام دول أخرى مثل أوكرانيا ورومانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها للدخول في سوق استيراد القمح، بدلاً من الاعتماد على روسيا فقط. إلا أن ماحدث كان العكس تمامًا، إذ شرعت الحكومة المصرية في تضييق الخناق على دول الاستيراد الأخرى، سواء بالإيقاف المؤقت، أو بفرض اشتراطات جديدة، كلها تصب في مصلحة روسيا.
في أواخر شهر أغسطس/آب الماضي، قررت هيئة السلع التموينية، المسؤول الأول عن استيراد القمح، إيقاف شحنة قمح رومانية، بعد عثورهم أثناء عملية الفحص الفني على بذور نبتة الخشخاش. ومع الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر/أيلول الماضي، أُوقفت شحنة قمح فرنسية المنشأ للسبب نفسه. وعلى إثر هذا تم تحويل شحنتي القمح إلى النيابة العامة، لحين البت في أمرهما، حسبما ذكرت وزارة التموين، التي عادت وسمحت بدخول شحنتي القمح إلى البلاد، بعد الاتفاق على غربلتها وتنقيتها من البذور السامة، لكن ذلك رفع من كُلفة الشحنات المتراكمة على شواطئ ميناء سفاجا، على حساب المورد.
علاوة على هذا، قررت الحكومة المصرية، وفي إجراء يُعد هو الأول من نوعه، إيقاف استيراد القمح الفرنسي مؤقتًا. ثم عادت وزارة التموين لتنفي اتخاذها مثل هذا الإجراء. كل هذا أحدث توترًا، وأصاب موردي القمح بالقلق، حتى أن أحدهم وصف ساخرًا الطريقة التي تتعامل بها مصر مع مسألة استيراد القمح وكأنها "سيرك".
وساهم هذا في انخفاض عدد الموردين الذين تقدموا إلى المناقصات التي أعلنتها وزارة التموين لاستيراد القمح، إذ تشير وكالة رويترز في تقرير لها، أن 6 موردين فقط تقدموا لمناقصة مصرية، رغم أن أخر مناقصة أجرتها مصر قبل هذا التاريخ، تقدم لها 22 موردًا. بالإضافة إلى ارتفاع قيمة علاوة المخاطر في القمح الفرنسي إلى 10 دولارات، و11 دولارًا في القمح الروماني، و4 دولارات للقمح الروسي.
في مايو/آيار الماضي، قررت هيئة السلع التموينية رفع نسبة البروتين في القمح المستورد إلى 12.5% بدلاً من 12%، بالنسبة للقمح المستورد من مناشئ البحر الأسود، كما يجب أن ترتفع نسبة البروتين في القمح المستورد الفرنسي إلى 12% بدلاً من 11.5%.
هذا الإجراء من جانب الهيئة، أصاب التجار بالقلق، إذ أكد عدد منهم على أن القرار يصب في مصلحة دول بعينها، وخاصة روسيا. ونقلاً عن رويترز، قال تاجر قمح ألماني :"إن الخاسر هو فرنسا والفائز منطقة البحر الأسود لاسيما، روسيا ورمانيا".
وفي أوكرانيا، قال وزير الزراعة الأوكراني مكسيم مارتينوك في تصريحات لرويترز، إن بلاده قد تخسر سوق القمح المصرية، ثاني أكبر أسواقها لتصدير القمح، جراء متطلبات جديدة للاستيراد، لمنافستها روسيا، مضيفًا "إن هذه الخطوة قد تدعم الموردين الروس". وأضاف: "قد نخرج من السوق المصرية، بصفة عامة، لأننا لا نملك مثل تلك الكميات والمواصفات، التي يمكن أن نوفرها لمصر". وتُعدّ أوكرانيا مورد القمح الثاني لمصر ، إذ بلغت صادرتها خلال العام المالي 2016/2017 2.5 مليون طن قمح، بحسب شركة أوكر أجرو كونسلت للاستشارات.
ويوضح أحمد شيحة، رئيس شعبة المستوردين المصريين، في حديثه للمنصة، أن تضارب نسب البروتين، التي تتطلب مصر وجودها في القمح سبب ارتباكًا للمُصدرين، مما دفعهم لتوخي الحذر في التعاقد مع مصر خاصة وأنها "تعاقدات بملايين"، مضيفًا: "لا توجد ضوابط محددة في عملية استيراد القمح. فبعد تعليق شحنتي القمح الفرنسي والروماني تم إدخالهم بمجرد توقيع موظف على ذلك". ويعلل شيحة هذا التضارب بوجود "حرب بين كبار المستوردين"، إذ يضغطون من أجل تمرير شحنات من دول بعينها، لافتًا إلى تدخل العلاقات والأنظمة السياسية في عملية قبول أو رفض شحنات القمح على وجه الخصوص.
ويؤكد رئيس شعبة المستوردين، أن رفض الشحنات "قرار سياسي"، إذ غالبًا ما تكون الشحنات مستوفية للعملية الفنية، واصفًا هيئة السلع التموينية بـ "مصنع الفساد"، لوجود تربيطات بينها وبين كبار المستوردين لإدخال صفقات من دول بعينها.
وكانت وزارة التموين قد بررت قيامها برفع نسبة البروتين لعدم تكرار ظاهرة "سيولة العجين"، والتي انتشرت في مصر خلال أعوام 2006 و2007 و2011. ويرد المحاسب حسين بودي، رئيس شعبة المطاحن للمنصة، قائلاً:" إن زيادة البروتين من عدمه لا يتعلق بهذه الظاهرة، وأن سبب هذه الظاهرة عدم وجود مادة الجلوتين المسئولة عن تماسك العجين". ويضيف، أن النسبة المناسبة لبروتين القمح تبدأ من 10%، لافتًا إلى أنها لا تتعلق بمستوى جودة العجين أو الخبز.
في الـ 17 من أكتوبر/تشرين الأول، قررت مؤسسة القمح الأمريكي، وهي مؤسسة ترويجية، مسئولة عن التعاقدات على القمح الأمريكي، إغلاق مكتبها في القاهرة، بحلول الأول من ديسمبر/كانون الأول، بعد أن ظل مفتوحًا لأكثر من 6 عقود، وسَبّبت قرارها بأنه يأتي بعد خسارتها للسوق المصري، مع قيام روسيا وموردون أخرون بزيادة صادراتهم لمصر.
وظلت الولايات المتحدة المورد الأول للحبوب إلى مصر خلال عقود طويلة، فبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، استوردت مصر خلال عام 2014 قمحًا أمريكيًا بنحو 818 مليون جنيه، انخفضت خلال عام 2015 إلى 698 مليون جنيهًا. ثم تدهورت هذه النسبة لتصبح 6 آلاف دولار فقط، بحسب world’s top exports المتخصص في الإحصائيات. وفي تعليق لوزارة التموين، على لسان مستشار الوزير الإعلامي محمد سويد، قال إن ذلك مرجعه إلى إلغاء برنامج دعم القمح المورد لمصر.
تُظهر الأرقام خلال 3 أشهر من العام الجاري، اعتماد مصر بشكل أساسي على واردات القمح الروسي، فخلال أشهر أغسطس، وسبتمبر، وأكتوبر، بلغ مجموع ما استوردته مصر، من القمح الروسي، نحو 875 ألف طن، وذلك بحسب بيانات وإحصائيات وزارة التموين المصرية، إذ تعاقدت هيئة السلع التموينية، في 16 أغسطس، على شراء 295 ألف طن قمح روسي، تلتها في 5 أكتوبر عملية تعاقد أخرى على استيراد 180 ألف طن، ثم عملية تعاقد، في العاشر من نفس الشهر، على استيراد 170 ألف طن قمح. وفي الأخير كان التعاقد على شراء 230 ألف طن قمح، بحسب موقع Ukr Agro Consult، والتي من المقرر أن تصل في الفترة من العاشر من ديسمبر. هذا مقارنة بما تعاقدت عليه هيئة السلع التموينية من القمح الفرنسي خلال العام المالي 2016/2017 والتي وصلت إجمالاً إلى 180 ألف طن فقط.
"من الأنسب لأي تاجر الاستيراد من روسيا لثلاثة أسباب أولها، مناسبة القمح الروسي لإنتاج الخبز البلدي، لأنه لا يحتاج إلى بروتين عالي، وانخفاض سعره، وانخفاض قيمة تكلفة النقل، بسبب قرب المسافة مع مصر"، وفقًا لما يؤكده عادل طلبة، أحد مستوردي القمح المصريين، وكيل شركة مونش الألمانية، وبرابندر وألابالا، وهي شركات متخصصة في المطاحن والأعلاف.
ويضيف للمنصة، أن أفضل الأقماح عالميًا "القمح الأمريكي"، والاسترالي يليه في المرتبة، مشيرًا إلى عدم وجود فرق بين القمح الروسي والإوكراني، من حيث وجود البروتين الذي يتراوح بين نسب"11- -14%".
على جانب أخر، يقول ممدوح رمضان المتحدث باسم وزارة التموين المصرية للمنصة: "نحن نضع سياستنا من أجل استيراد أقماح ذات جودة عالية دون محاباة لأي دولة، واشتراطاتنا تخدم رغيف الخبز المصري، وليس هدفنا أن نقصي أحدًا من السوق المصري". ويؤكد، أن تعاقداتهم على الاستيراد تتم من خلال مناقصات عالمية، تُتاح أمام الجميع، وفق الاشتراطات المعتمدة، مشيرًا إلى تعاقد وزارة التموين مع شركات فحص أجنبية لفحص القمح في المناشئ، خلافًا للفحص الذي يتم على الأراضي المصرية، رافضًا ذكر أسماء هذه الشركات.