فى عام 1960، كانت مصر تمر بحالة رومانسية حالمة عكستها السينما، فعرضت الشاشات أفلام "إشاعة حب" و"نهر الحب" و"لوعة الحب" و"عاد الحب"، و"حب في حب"، وتبعها فى العام اللاحق "شاطئ الحب".
الأفلام الثلاثة الأولى، التي قامت ببطولتها النجمات الثلاث الأشهر فى تاريخ السينما المصرية، سعاد حسني وفاتن حمامة وشادية، هي فقط التي استطاعت أن تحجز لنفسها مكانًا في ذاكرة السينما وأذهان المشاهدين.
لم يكن التشابه بين فيلمى شادية وفاتن في الاسم فقط، بل يمكن التعاطي معهما باعتبارهما معارضة سينمائية بين قصتين متشابهتين بلونين متباينين. الفيلمان مأخوذان عن روايتين عالميتين، "نهر الحب" هو النسخة المصرية الأشهر من"آنا كارنينا" لليو تولستوي، و"لوعة الحب" مقتبس من "الوحش الآدمي" لإيمل زولا، وكل منهما يعرض الحبكة ذاتها ولكن بمصائر مختلفة، بل إنها تكاد تكون متعارضة.
يدور الفيلمان حول زوجة شابة تنفر من زوجها الفظ وتقع في قصة عشق مع شاب مناقض تمامًا لزوجها، محب رومانسي ورقيق، يؤدي عمر الشريف دوره في المرتين، إلا أن الفيلم الأول يقف بوضوح في صف علاقة الزوجة والعشيق، ويتمادى في شيطنة الزوج الانتهازي القاسي، بينما يتبنى فيلم إيميل زولا رؤية مغايرة، بعيدة عن الميلودراما والمبالغة، حيث يدرك الزوج الفظ خطأه، وينتبه إلى سوء معاملته لزوجته، فيبدأ في مراعاتها وملاطفة قطتها بوسي، حتى تعود الزوجة إلى أحضانه متناسية العشيق الذي يبتعد مفضلًا التضحية بحبه على أن يخون صديقه.
قدم عز الدين ذو الفقار "نهر الحب" بشكل يعبر عن سينماه الرومانتيكية، قصور وعزب وملابس فخمة وقطارات فاخرة وحفلات تنكرية، أما صلاح أبو سيف فلجأ إلى واقعيته، قدم لنا السائق الشعبى سيئ الطباع غليظ المشاعر، استعرض خمارة الحارة القذرة، عالم القطار والعطشجية، الأيادي المتسخة والملابس الرثة، بالإضافة إلى الإشارات الواضحة إلى العلاقة الجنسية المضطربة بين الزوجين، حيث تصاحب مشاهدهما الحميمة موسيقى الطبول، متصاعدة، متوترة ومتسارعة، وهي تفاصيل يتجنبها ذو الفقار في فيلمه محافظًا على صورة ملائكية ونقية لبطلته رغم خيانتها الزوجية.
ورغم أن شادية أدت دورًا دراميًا مركبًا مفعمًا بالمشاعر المتضاربة والمرتبكة، لكنها لم تكن مغامرة أبو سيف الوحيدة فى ذلك الفيلم، بل بدا الرهان الأكبر في توظيف أحمد مظهر الشهير بفارس السينما أو "البرنس" في دور زوج همجي سليط اللسان وذي لكنة منفرة، مما سرق منها الأنظار.
شهدت تلك الفترة مرحلة تحول لكل من البطلتين، فبعد أن عرفهما الجمهور فى وقت متزامن بنهاية الأربعينيات، اندفعتا للعمل بكثافة وكثرة، كل في طريق سينمائي مختلف، حيث ساهمت ملامحهما في تحديد اختياراتهما، تنميطهما وحسم نوعية أدوارهما، فشقت شادية طريقها بأفلام خفيفة ومرحة، بينما عُرفت فاتن بالشخصية الملائكية البريئة، فقدمت أفلامًا مثل "ملاك الرحمة"، و"الملاك الأبيض"، و"ملائكة فى جهنم"، و"كانت ملاكًا"، و"الملاك الظالم".
ورغم اختلاف مسارهما إلا أنهما ألتقيتا بين الحين والآخر، حيث عملت شادية فى بعض الميلودرامات كذلك، وبالأخص مع حسن الإمام، الذى أخرج لها أفلاما عدة مثل "لواحظ" و"بائعة الخبز"، قبل أن تجتمع النجمتان لمرة أخيرة سويًا في فيلم "المعجزة"، الذي أدت فيه فاتن دور صحفية مثالية فى حين قامت شادية بدور نشالة.
بانت سعاد
كانت سنوات المراهقة والشباب المبكر قد بدأت فى مغادرة شادية وفاتن، وفى عام 1959 لمع على الشاشات الوجه الجديد، البريء والشقي والمثير في آنٍ واحد، سعاد حسني. ظهرت سعاد وبدا أن هذه الفتاة الصغيرة على استعداد لتحل محلهما معًا، فبحثتا عن أراضٍ جديدة ومساحات أوسع، وبديتا أكثر نضجًا وانتقاءً مما كانتا عليه، فشاركتا في عدد أقل ولكنه أهم من الأفلام، ففى ذلك العام قدمت فاتن "دعاء الكروان" عن رواية طه حسين، كما ظهرت شادية فى طلة جديدة بفيلمي "المرأة المجهولة"، و"ارحم حبي".
غيرت شادية قصة شعرها، ولونه، وصورتها المعتادة، ونوعية أدوارها، وأدت في الأخير تحت إدارة هنري بركات دورًا مناقضًا لكل ما كانت تقدمه فاتن فى تلك الفترة، فقدمت شخصية الزوجة الخائنة بشكل عَلِق بالأذهان، وخلد أغنيتها فى الفيلم "إن راح منك يا عين".
حتى تلك اللحظة لم تكن شادية قد عملت مع أبو سيف إلا في دور ثانٍ أمام تحية كاريوكا في فيلم "شباب امرأة"، دور خفيف مناسب لما كانت تقدمه حينها. انبهرت شادية بما صنعه أبو سيف مع تحية فى الفيلم, وأدركت وهي فى قاعة العرض الخاص أن نوعية الأفلام التى أعتادت تقديمها ليست ذات أهمية أو قيمة حقيقية، لن تُبرز موهبتها ولن تحفظ اسمها في تاريخ السينما، فقررت أن تدير دفتها، أن تقوم ببطولة أفلام كهذا الذي شاركت فيه بدور ثانوي، حتى واتتها الفرصة في "لوعة الحب".
لم يُشبع الدور طموحات شادية رغم تميزه، وتمنت لقاءً آخر يجمعها بأستاذ الواقعية. كاد أن يتم هذا اللقاء في "القاهرة 30"، قبل أن يذهب الدور إلى سعاد حسني حيث كانت شادية بانتظار مولودها الأول. لم يتحقق حلم شادية في العمل مجددًا مع صلاح أبو سيف، كما لم يتحقق حلمها الآخر بالأمومة.
محفوظيات
مع مطلع الستينيات دخلت شادية إلى عالم نجيب محفوظ وقدمت فى ثلاثة أعوام متتالية أفلام "اللص والكلاب" و"زقاق المدق" و"الطريق". ورغم أن رحلة التحول والتطور في مسيرة شادية بدأت مع نهاية الخمسينيات، إلا أن "اللص والكلاب" يعتبر الإعلان الرسمى عن تلك المرحلة الجديدة في تاريخها، كما كان بداية جديدة لكمال الشيخ أيضًا.
اقرأ أيضًا: كمال الشيخ ليس هيتشكوك
كان "اللص والكلاب" هو أول فيلم تشارك فيه شادية دون غناء، ولكنه لن يكون الأخير، فيما بدا اعترافًا ضمنيًا بما ستعلنه لاحقًا بصراحة، أنها تنتمي إلى السينما والتمثيل أكثر من انتمائها للغناء وللمسارح.
تقول شادية إن طبيعة سينما الأربعينيات التي اعتبرت الأغانى عنصرًا أساسيًا في تكوينها الفني، دعتها لتوظيف موهبتها الصوتية في الأفلام، متأثرة ببطلتها المفضلة ليلى مراد، وعندما غيرت السينما من عاداتها، انصرفت شادية عن الغناء لفترات طويلة.
ورغم أنها لم تكن في أفضل حالاتها عندما جسدت شخصية "حميدة" في فيلم "زقاق المدق"، وهو الدور الذي مثلته بقدر من المبالغة كما يليق بفيلم لحسن الإمام، إلا أنها عادت في العام اللاحق بأداء أكثر نضجًا وتماسكًا وقدمت دورًا لافتًا في "الطريق"، وهو دور لم تكن فاتن لتقدمه في حينها أيضًا، دور الزوجة الخائنة المتأمرة المفعمة بالشهوة والرغبة، وهو ما لا يناسب الأخيرة وربما لا ترضى عنه كذلك.
في الفترة نفسها، صحبتها فاتن إلى عالم الروايات، فبعد "دعاء الكروان" و"نهر الحب"، قامت ببطولة "لا تطفئ الشمس" و"الباب المفتوح". وفي النصف الثاني من الستينيات، وبعد رائعتها "الحرام" عن رواية يوسف إدريس، توارت فاتن عن السينما المصرية فلم تقدم طوال خمس سنوات إلا فيلمًا واحدًا وهو "شيء في حياتي"، حيث قضت تلك الفترة في لبنان، بينما بدأت شادية تجربة سينمائية جديدة مع زوجها الأخير صلاح ذو الفقار.
قدم الزوجان أربعة أفلام متتالية، كان لثلاثة منها بصمة متفردة، ميزتهما في لون الكوميديا الإجتماعية التي قدمها فطين عبد الوهاب بشكل مغاير من خلال أفلام "مراتي مدير عام"، و"عفريت مراتي"، و"كرامة زوجتي" عن قصة لإحسان عبد القدوس. كان لفطين دور كبير في مسيرة شادية، التي شاركت في أول أفلامه "نادية"، وقامت ببطولة آخرها "أضواء المدينة". مَثَّل الأخير عودة شادية للأفلام الغنائية بعد طول انقطاع لتقدم واحدًا من أفضلها فى تلك الحقبة. كما أخرج فطين أبرز تجاربها الكوميدية، سواء "الزوجة الـ13" وهو إعادة إنتاج لفيلم "الزوجة السابعة" الذي شاركت فيه شادية نفسها بدور ثان، أو في "نص ساعة جواز" المقتبس عن المسرحية الأمريكية "زهرة الصبار".
الاكتمال
لم تكن أفلام محفوظ الثلاثة هي آخر رحلة شادية مع أعمال الكاتب الكبير، إذ عادت بعد خمس سنوات من دورها فى "الطريق" لتقدم شخصية "زهرة" في رائعة كمال الشيخ "ميرامار"، مجسدة انكسار زهرة وانبهارها، طموحها وغضبها المكتوم، براءتها وفطنتها، ببساطة وتلقائية، حيث كانت عينها تنطق بمشاعرها المتباينة دون الحاجة إلى الكلام.
بدت شادية بملامحها وروحها وإيماءاتها الوجه النسائي الذى طالما كتب عنه محفوظ فى رواياته، إلى حد وصفه لها بأنها أكثر الفنانات اللاتي نجحن في تقديم روح شخصياته الروائية. كتب لها محفوظ فيما بعد قصة فيلمها "ذات الوجهين"، كما ضمت قائمة أعمالها فيلما آخر من سيناريو نجيب وهو "الهاربة".
وصلت شادية إلى أوج نضجها وقمة مسيرتها في نهاية الستينيات، فإضافة إلى "ميرامار"، قدمت دورها الأيقوني في "شيء من الخوف" عن رواية ثروت أباظة في فيلم فاجأ الجماهير والسينمائيين والرقابة والسلطة، وحجز مكانًا في قائمة الأفلام الأهم والأجرأ في تاريخ السينما المصرية. كما كان لشادية ظهور آخر مفترض في "الحب الضائع" عن رواية طه حسين، قبل أن تتخلى عنه سعيًا وراء حلم الأمومة مرة أخرى دون جدوى.
أجادت شادية اختيار طريقها حتى مطلع السبعينيات، فتنقلت بين الألوان المختلفة والشخصيات المتباينة بذكاء فنى واضح، فبعد أن أخرج حسين كمال الفيلم الأخير، عاد ليقدمها في دور الخادمة في رواية يوسف السباعى "نحن لا نزرع الشوك". حقق الفيلم نجاحًا مدويًا، ودفع بمحمود ياسين إلى مصاف الأبطال للمرة الأولى، قبل أن تجتذبه فاتن في فيلمها اللاحق "الخيط الرفيع".
بعد هذين الفيلمين لم تعمل شادية مجددًا مع حسين كمال في السينما، وبعد عامين توفي فطين عبد الوهاب، وبحلول منتصف السبعينيات ودعت كمال الشيخ بفيلم "الهارب" قبل أن تتبنى الشاب أشرف فهمي الذى سيخرج أغلب أفلامها الأخيرة.
لم تكن شادية محظوظة مع المخرجين الكبار، فرصيدها مع كمال الشيخ وصلاح أبو سيف وبركات مجتمعين لا يتعدى التسعة أفلام مقابل أكثر من عشرين فيلمًا لفاتن حمامة، إضافة إلى عمل الأخيرة مع عز الدين ذو الفقار ويوسف شاهين وصولًا إلى خيرى بشارة وداوود عبد السيد. أضفت تلك الأسماء ثقلًا لمسيرة فاتن حمامة وأحاطتها بهالة وبريق لم يتوفرا لكثير من الممثلات.
ورغم ذلك، ظلت شادية أكثر تنوعًا وتلونًا في أدوارها بالمقارنة مع أي ممثلة أخرى، لا ينافسها فى هذا إلا سعاد حسنى، قدمت العاهرة والأرستقراطية، الشقية والثائرة، الخائنة والمقهورة، البدوية واللعوب، الساذجة والمتآمرة، والمغنية القروية والنجمة المشهورة، نور وحميدة وسعاد شلبي وفؤادة.
بدت وكأنها عايدة فى "عفريت مراتي"، تتلبسها الشخصيات، سواء كانت ريا أو إيرما لادوس، غادة الكاميليا أو زوجة رجل العصابات.
ورغم هذه الفيلموجرافيا الواسعة وهذا التنوع اللافت، ورغم الجماهيرية والشعبية، إلا أن شادية لم تحظ من النقاد إلا بلقب خائب وسطحي، وهو "الدلوعة"، في مقابل لقب فوقي لفاتن حمامة التي اعتُبرت "سيدة الشاشة العربية".
ربما كان لرصيد شادية من الأفلام الخفيفة دورًا في إبعادها عن الألقاب الفخمة، ربما تصنيفها كمطربة قد أضرها، ربما ظلمتها صورتها الذهنية كفتاة بسيطة وشقية، في مقابل صورة فاتن الملائكية الأرستقراطية الأنيقة التي تتحدث الفرنسية بطلاقة ويهيم بعشقها النجم الذي صار عالميًا.
لم تتعرض شادية للقب فاتن، ولم تبد انزعاجًا كالذي عبرت عنه مريم فخر الدين وهند رستم، فقط اكتفت بأن تترك أمامنا مشوارها الطويل المتلون، مشيرًا إلى فنانة فريدة وممثلة متمكنة، إلى سيدة ذات ألف وجه.