بنهاية تسعينات القرن الماضي؛ عادت الفرق الموسيقية المستقلة تتشكل من جديد، وظهر لديها اتجاهات موسيقية تختلف كثيرًا عن الأجيال السابقة عليها التي ظهرت في الستينات والسبعينات كـ"لي بيتي شاه" والبلو إنجلز Blue Angels وصولا إلى فرق المصريين وطيبة والحب والسلام وغيرهم، فجاءت فرق التسعينات تستكمل طريق تقديم موسيقى تختلف عن الغناء الاستهلاكي السائد، كـ"وسط البلد" الذي يعد أول فريق مستقل في التسعينات (تشكّل 1999)، وبعده باشهر قليلة، وُلد "نغم مصري".
اشترك الفريقان معًا " وسط البلد" و"نغم مصري" في تأسيس البصمة التي ميزت الفرق الموسيقية الجديدة التي ولدت مع مطلع الألفية، فهذه الفرق أكثر اهتمامًا بالتعبير عن المجتمع المصري، وأشد تأثرًا بموسيقاه الشعبية على تنوعها، بالإضافة للموسيقى الشرقية؛ على عكس الفرق الأقدم التي ولدت متأثرة بالموسيقى الغربية إلى حد بعيد. وكان منها فرق عمدت للمحاكاة التامة للموسيقى والغناء الغربيين، وخاصة الفرق التي ظهرت في نهاية السبعينات وامتد عملها للثمانينات. بعض هذه الفرق غنى باللغة العربية وعن قضايا مصرية واضحة كطيبة وفور إم، لكن التأثيرات الغربية بقيت ذات يد عليا في موسيقاهم، على عكس الفرق التي ولدت في مطلع الألفية الجديدة.
التأسيس
بدأ تشكيل "نغم مصري" عام 2000، على يد الشربيني أحمد الذي صار المغنّي الأساسي للفرقة، بعدما تعرف على الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، وقدم نفسه له كملحن لقصيدة "كلمتين لمصر" التي صاغ لها لحنًا مختلفًا عن الذي قدمه الشيخ إمام، فأعجب به نجم وأفسح أمامه المجال لغناء ما يحلو له من كلماته. وبالفعل لحن الشربيني العديد من قصائد نجم، وبدأت فكرة تشكيل فريق نغم مصري في التبلور، فاختار شربيني محمد لطفي (أوسو) زميله في في فرقة يحيى غنام، وبدءا معًا - شربيني وأوسو- في تأسيس الفريق.
تشكّل الفريق من شربيني (غناء وتلحين) وأوسو (جيتار وتوزيع موسيقي) وعمرو خيري (درامز) وشادي شرف (عود) وسامر جورج (باص جيتار) وشريف كامل (قانون) وهاني بدير (إيقاعات) ووائل بدراوي (كيبورد).
لعب الفريق موسيقاه الخاصة التي مال بعضها للموسيقى والغناء الشرقي الخالص في كثير من الأحيان، وللغناء الغربي الخالص في أحيان أخرى، مع المزج بينهما في بعض إنتاجات الفرقة. ولسنوات؛ ظل الفريق يغني في حفلات صغيرة ذات جماهير محدودة حتى استطاع تكوين قاعدة جماهيرية جيدة جعلته يقدم حفلا كبيرًا في مهرجان القلعة للموسيقى والغناء. ثم قدموا حفلات في ساقية الصاوي وبعض الأماكن الأخرى التي كانت مفتوحة لاستضافة الفرق الغنائية المستقلة كقصر الأمير طاز والمسرحين الصغير والمفتوح بدار الأوبرا. وازداد الانتشار مع فضاء الإنترنت الذي زاد من قاعدتهم الجماهيرية مع انتشار فيديوهاتهم على يوتيوب والمنتديات الموسيقية.
بعيدًا عن مقاييس الشركات
يتميز صوت شربيني، رجل مقدمة الفريق front man بحسب التعبير الغربي بكونه صوت هادئ وقادر على الأداء المنضبط. ليس صوته ناعمًا ولا يرى نفسه مطربًا، لكنه يصف نفسه بأنه محرض وثائر للفن المصري على المسرح. وربما كان لهذا الأثر الحقيقي في اهتمام الفريق بالكلمات "الرسائل" بشكل خاص.
اقرأ أيضًا: سيد إمام.. مشروع مصري
علاقة شربيني بالغناء بدأت مع الإعلانات التي سجل الكثير منها بصوته. كما كان أحد أعضاء الكورال في فرقة يحيى غنام الذي أنتج ألبومًا وحيدًا هو تراحيل، ورغم أن اسم يحيى موجود على غلاف الألبوم كمطرب، إلا أنه - غنّام- يعترف بأنه ليس مطربًا وأن جُلّ اهتمامه موجه للموسيقي، ويُرجِع الفضل في الغناء لأعضاء فريق الكورال ومنهم شربيني، الذي ظل يحلم بالغناء المنفرد وأن يكون له مشروعه الغنائي المستقل.
يقول شربيني لـ"المنصة"إنه في منتصف التسعينات (1994 تقريبًا) تفرغ تمامًا للفن لمدة ثلاث سنوات، وعمل في الكورال مع العديد من المطربين المعروفين ومنهم هشام عباس بالإضافة لعمله في فرقة يحيى غنام والإعلانات، لكنه أدرك أن الفن الذي يستهدف تقديمه لا يمكن أن يُعوَّل عليه كمصدر رزق، فبدأ العمل في وظيفة بعيدة عن الفن، على أن يظل يقدم غناءه بشغف ومحبة الهواة.
يظل لكثير من الفرق الموسيقية قواعدها المختلفة عن الغناء التجاري الذي يهتم بمظهر المطرب وخامة صوته الجميلة والاسم الفني البرّاق. هذه القواعد المختلفة للغناء المستقل يمكن أن نراها بجلاء في "نغم مصري"، الفريق الذي يظهر أعضاؤه على المسرح بنفس المظهر الذي يمكن أن تجدهم عليه أثناء مقابلة أصدقائهم أو اثناء جلوسهم على مقهى، كما لا يُعلِي الفريق من قيمة الصوت المميز للمطرب ما دام قادرًا على أداء اللحن والكلمات بشكل واضح ومناسب.
اقرأ أيضًا: يوم اللي اتغير عالم "كلنا سوا"
ومن العوامل المهمة أيضًا في نجاح الفريق؛ فهمهم التام لأهمية "القيمة" في الرسالة المُغنّاة من ناحية الكلمات والموسيقى والروح المميزة للفريق، والقدرة على القرب والتفاعل مع الجمهور في الغناء المباشر، وليس في الأغاني المعلبة في الاستديو.
كان أعضاء نغم مصري دوما واعين بالكلمة التي جعلوها أساسًا للتعبير عن المجتمع. ومن هنا يغلب على غنائهم الكلمات التي تتناول القضايا السياسية والاجتماعية الحاضرة في الشارع المصري، وتنحاز كلماتهم لحقوق الإنسان، ما أسهم في خلق قاعدة جماهيرية مميزة لهذا الفريق، والفرق المستقلة الشبيهة الحاضرة بقوة في المشهد الغنائي المستقل "الأندرجراوند".
وتظهر انحيازات الفريق في حرصه الدائم على بدء الحفلات بأغنية " هنغني" التي تعبر كلماتها عن الفريق ورؤاه، ويقدمها الفريق بلحن يختلف عن لحن الشيخ إمام.
أثر نجم
كان الملهم الأول لشربيني - وللفريق- هو الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم، وهو أكثر من غنى الفريق من كلماته. يرى أعضاء نغم مصري أن كلمات نجم تحمل الرسائل التي يريدون إيصالها لجمهورهم، كونهم ينظرون لأنفسهم كمحرضين على الغناء والحياة والثورة والحرية، وهو ما يظهر في قصائد الشاعر الراحل، فغنى الفريق حارتنا، خيال، الليل ملاح، أنا رحت القلعة، والله حيّ.
أبدع شربينى أيضا في تجديد كلمات بعض الأغاني كـ"دار الفلك" التي حذف منها مقاطع "يا شعب يا روح الخلود.. يا شعب يا نبض الوجود" لتكون أكثر شمولا وجاذبية، وتكررت تدخلات شربيني المُوفّقة في "قل أعوذو" التي اندمجت مع كلمات " غريبة البلد دي" لعماد عبد المحسن لتنتج أغنية جيدة هي "غريبة البلد دي".
توسع شربيني بعدها فى الغناء والتلحين لأشهر شعراء العامية صلاح جاهين (2 صباحا، في الجنة، ومتنبي) وفؤاد حداد (اسطنبول) كما لحن قصيدة فصحى هي "أيدوم النهر" للشاعر الراحل أمل دنقل بعدما بدل بها مقطعين.
وفي محاولتهم للغناء لشعراء معاصرين، وجدأعضاء نغم مصري ما يبحثون عنه في ممدوح فوزي، فغنوا له آدي الحياة التي أدخلوا عليها تغييرات في حفلاتهم من خلال تغيير كلماتها التي كانت تنتهي بـ:
آدي الحياة... شمس وقمر... صحرا وشجر
ولا صور ولا عبر... رب الحياة ده كبير ... خلق الحياة وجهة نظر
ليضيفوا قبل الجملة الأخيرة
معنى الحياه بالمختصر خلق البشر.. واحد رآه وواحد كفر
رب الحياة ده كبير خلق الحياة وجهة نظر
كانت لهم بعض المحاولات الأخرى في التعاون مع شعراء معاصرين مثل أغنية "حبة مشاعر" من كلمات سامح آل علي، ومش مهم كلمات محمد خير، والتي كانت عنوان ألبومهم الوحيد الصادر في 2011 بعد الثورة، وقت أن بدأ إنتاج ألبومات للفرق المستقلة، فنالت نغم مصري حظها في إصدار ألبوم أنتجوه بأنفسهم وطرحوه على موقعهم الخاص، وعلى يوتيوب، لكنه لم ينجح فى اجتذاب جماهيرية أكبر من جماهيريتهم المتحققة بالفعل، وظلت تسجيلات حفلاتهم أفضل وتحقق إقبالا أكبر من تسجيلات الألبوم، كعادة معظم الفرق المستقلة التي غالبًا ما تكون توزيعات الموسيقى في ألبوماتها أقل في المستوى من التوزيعات التي تُقدَّم حية على المسرح. وقاموا بتصوير فيديو كليب لأغنية "مش مهم".
على مستوى الموسيقى، عمدت فرقة "نغم مصري" إلى إثبات وجود الموسيقى المصرية قديمها وجديدها في المشهد الغنائي المعاصر، وتأكيد أنها قابلة للتطور سواء بثباتها على روحها الشرقية، أو إذا ما تداخلت مع إيقاعات غربية، وهو ما يظهر في تباين موسيقى أغان مثل "أنا رحت القلعة" و"عبد الودود" وهي أغان ذات ذائقة شرقية خالصة، وأخرى غربية الميل مثل "أيدوم النهر"، وفي أغنيات تمتزج فيها الموسيقى الشرقية بالإيقاعات والآلات الغربية مثل "اسطنبول".
كثير من الأغاني التي قدمها الفريق سبق أن لحنها وغناها الشيخ إمام رفيق نجم في الغناء والنضال، والذي شكل معه إلهامًا للعديد من الفرق الموسيقية الشابة كنغم مصري واسكندريلا ومن المطربين مريم صالح، لكن "نغم مصري" قدم أغاني نجم على طريقته، بألحان وتوزيعات جديدة عن تلك التي قدمها الشيخ إمام، عدا عبد الودود التي كانت بنفس اللحن.
قدم نغم مصري للمشهد الغنائي "أوسو" عازف الجيتار والموزع الموسيقي الذي انتقل للفريق وشارك في تأسيسه بعد سنوات من العمل في فرقة يحيى غنام. ويعد من أهم أعضاء الفريق لبراعته في العزف والتوزيع.
احترف أوسو العزف في سن مبكر، وطُلب للانضمام إلى العديد من الفرق الغنائية، منها افتكاسات ويحيى غنام إلى جانب نغم مصري، وأصبح مطلوبًا في حفلات وتسجيلات الكثير من مطربي الصف الأول كنانسي عجرم وعمرو دياب، كما أصبح عازفًا أساسيًا في حفلات منير.
أوسو أيضًا هو صاحب فكرة مهرجان SOS الذي قدم سلسلة حفلات ناجحة جدًا كانت تهدف لتعريف الجمهور بالفرق الموسيقية المستقلة الجديدة التي كانت تقدم حفلاتها جنبًا إلى جنب مع الفرق الناجحة المعروفة، لكن المهرجان لم يستمر، ولم يوقف هذا أوسو عن التفكير في مشروعات جديدة فبدأ "اوصل بالعربي" لتعليم عزف الآلات الموسيقية المختلفة عبر الإنترنت مجانًا.
ولسة بعيش
تعاني نغم مصرى من قلة الظهور والحفلات، يرجع ذلك لقلة تجمعهم وارتباط بعضهم بأعمال أخرى بعيدًا عن الفن، وعلى رأسهم شربيني نفسه مؤسس الفريق. مثلاً؛ قبل شهر تقريبًا من نشر هذا التقرير، أقام أعضاء نغم مصري حفلا في ساقية الصاوي بعد غياب دام عامين.
كما أن طبيعة أغنياتهم تفرض عليهم الغناء في أماكن محددة كالأوبرا وساقية الصاوي على عكس الفرق الأخرى التي تستطيع الظهور والغناء في أي مكان وتقدم أغان يمكنها أن تحقق نجاحًا تجاريًا مقبولاً أو واسعًا أحيانًا.
أثر ذلك على ريبرتوار الفريق، فصاروا لا يقدمون أغان جديدة إلا على فترات متباعدة، وتعتمد حفلاتهم القليلة عن مخزونهم الغنائي عبر مشوارهم الممتد منذ 17 عامًا.
في حفلهم الأخير قدم أعضاء نغم مصري أغنية جديدة وحيدة هي " لسة بعيش" كرسالة لجمهورهم حول بقائهم واستمرارهم في الإبداع حتى وإن نَدُر ظهورهم بالمقارنة بالفرق الأخرى.
https://www.youtube.com/embed/xtRtU4vjxrk?list=PLLs9BkV4BJEIsRlRI8RVVo3dMw4UyRtQK
(*) من "هنغني" التي قدمها الفريق من كلمات أحمد فؤاد نجم وألحان الشربيني أحمد