يعرف أيمن موسمه في القاهرة. يستيقظ في السادسة صباحًا كل يوم طوال مدة بقائه في العاصمة، يجر عربته الخشبية متوجهًا إلى تجار التين الشوكي، يجمع منهم بضعة أقفاص، ويسعى إلى شوارع وسط المدينة الجانبية ليبيعهم للمارة. وبعد انقضاء ساعات النهار، يعود إى مخزنه المؤجر لينام إلى جوار عربته.
منذ سبع سنوات، يحرص أيمن، 18 عامًا، على القدوم للقاهرة من مسقط رأسه في محافظة أسيوط الجنوبية، خلال موسم التين الشوكي (من منتصف يونيو/حزيران- حتى نهاية أغسطس/آب). ويعود بعد انتهاء الموسم ليكمل عمله الأساسي كأجير في الأراضي الزراعية بمحافظته.
يقول أيمن: «أول الموسم بيبقى [التين] غالي.. التجار بينزلوه غالي ولازم نُرزق». موضحًا أن غلاء أسعار التين يستمر لأسبوعين في بداية الموسم، وقد يبلغ سعر الحبة الواحدة جنيهين، ثم تبدأ الأسعار في الهبوط حتى يصل سعر الحبة الواحدة إلى جنيه واحد.
بدأت مصر منذ سنوات في استزراع التين الشوكي من خلال الإكثار اللوحي، بحسب بيانات المعهد القومي للبحوث الزراعية. وقبلها كانت حصيلة التين الشوكي المباعة في الأسواق المصرية، تأتي من النباتات التي نمت دون تدخل بشري في الصحاري المحيطة بالمدن المصرية.
ولكونه "فاكهة الفقراء" انتشرت زراعته في العديد من المحافظات، على رأسها مرسى مطروح وأسيوط والقليوبية والفيوم. حيث يُقدم أصحاب المزارع ذات الترب الرملية على زراعته من خلال غرس ألواحه، ورعايتها لتؤتي ثمرها بعد عامين أو ثلاثة من الغرس.
يقصد تجار التين الشوكي عدة مصادر لجمع التين، أبرزها مناطق أبي زعبل والخانكة في القليوبية، وأبو غالب في الجيزة، ومناطق عدة في محافظتي البحيرة والفيوم.
على عربته يقف أيمن ممسكًا بسكين صغيرة، يقطع بها رأس وذيل الثمرة ثم يشق قشرتها من المنتصف ليستخرج منها قلبًا برتقاليًا حلو الطعم، قبل أن يلقي بالشوك الذي كان يغلف هذا القلب الحلو بعيدًا.
في البداية تكون قشرة الثمرة خضراء ثم صفراء، وهذا طورها المثالي الذي يؤذن بنضجها وحلول أوان قطفها. تكتسي تلك القشرة بشوك قاس يتعامل معه البائعون. أما إذا تُركت الثمرة لتصل إلى اللون الأبيض أو الأحمر الداكن، فهذا إيذان بشيخوختها وفقد حلاوتها.
يداوم أيمن على رش ثمار عربته بالمياه من وقت لآخر حتى يتساقط الشوك شيئًا فشيئًا. في بداية قطف الثمرة يكون الشوك بالغ الطول والحدة، لذا يحرص أيمن وسواه من البائعين على رش التين بالمياه باستمرار لتلطيف الشوك وتسهيل سقوطه عن وجه الثمرة. أما ما يتبقى ويصل إلى أيديهم، فيحاولون إخراجه بأداتهم الثانية " الملقط" كلما سنحت لهم الفرصة وسمح الزبائن. أما الشوك العنيد الذي يأبي ترك الجلد، فيتركه أيمن: «بيطلع مع نفسه، بيربي صديد وبيطلع مع الزمن، ودا أكل عيشنا».
في منطقة أخرى يقف ياسر، 43 عامًا، بعربته منتظرًا زبائنه عشاق أكل التين. بمجرد بدء الموسم يتوجه ياسر إلى أحد التجار ليتحصل على عربة وبضع أقفاص، ليبدأ سعيه وراء تدبير قوت يوم أسرته وسداد ثمن بضاعته.
يقول ياسر إن الإنتاج الصحراوي الطبيعي أخذ يتلاشى شيئًا فشيئًا حتى أصبح نادرًا في عدة محافظات، وذلك لهيمنة ثمار المزارع التي انتشرت بسرعة غير عادية.
يحصل ياسر على القفص الواحد "العِدَّاية" من التاجر مقابل حوالي مائة جنيه في أول الموسم ويكون فيها نحو 80 حبة، ومن منتصف الموسم حتى نهايته، يهبط سعرها ليصل إلى 65 جنيهًا.
ياسر الحاصل على بكالُريوس التجارة يجد من التين وموسمه ربحًا لم يتحصل عليه من أي عمل آخر، خاصة بعدما ترك العمل في السياحة منذ 6 سنوات وانقطعت به سبل العمل، ليستقر به الحال بين ترقب موسم بيع التين والعمل "في أي حاجة بتقابلني" بقية أشهر العام.
يعتمد التين في تسويقه وبيعه على التجوال، لطبيعته التي لا تسمح بعرضه في ثلاجات أو تخزينه لأيام في أي محل تجاري. والوسيلة الوحيدة لإيصاله إلى المستهلك هي العربات الخشبية التي يستأجرها الباعة من التجار، بعد إمضاء إيصالات أمانة لإلزامهم برد العربات مرة أخرى.
لكن كثيرًا ما يفقد الباعة هذه العربات خلال الحملات الأمنية التي تقوم بها إدارات الأحياء وشرطة المرافق "البلدية والحي"، خاصة في المناطق الحيوية كوسط القاهرة التي يعمل فيها ياسر وأيمن. هذه الحملات تكلفهم العربات والبضائع في أغلب الأحيان. لكنهم مضطرون لاسترجاعها مهما كلفتهم من مبالغ طائلة، بالقياس لأرباحهم المتواضعة- حتى لا يواجهوا السجن بسبب إيصالات الأمانة.
في إحدى المناطق الشعبية بشرق القاهرة يتجول سيد، 15 عامًا، صائحًا: "أبو حلاوة يا تين"، ليلتف حوله الصغار بجنيهات معدودات يريدون ثمار التين، حلوى مناسبة للصيف تختلف عما اعتادوا عليه بقية العام.
ينتظر الصغير موسم حصاد التين خلال إجازته الصيفية من الدراسة، ليبيعه ويؤمِّن مصروفات مدرسته ليرفع عبء تكلفتها عن أهله قدر المستطاع.
يخرج سيد صباحًا ولا يعود قبل انتهاء بضاعته. لا خيار أمامه سوى الوقوف في الشارع حتى نفاذ الثمار: «ساعات بقف من الساعة 7 [الصبح] لحد الساعة 9 بالليل. وساعات بخلص الظهر وكله حسب رزق ربنا».
أما أشرف (42 عامًا) فيترك أرضه التي يزرعها في شبين الكوم تحت رعاية أولاده، ويأتي للقاهرة لجني رزقه الموسمي من بيع التين «بالواحدة». وكونه "وارث الفلاحة" عن أبيه وجده، فهو على معرفة جيدة بأنواع التين الشوكي: «في اللي بيتزرع في السويس والبحيرة والخانكة وأبو زعبل، وبتاع سينا بيبقى طبيعي مش مزارع، وطعمه أحلى بس مش موجود كتير»، وكل نوع يختلف عن الآخر بحسب جودة المياه التي تُسقى بها الأرض «المياه الحلوة غير مية الصرف وبيبان في التين أكتر حاجة».
حلاوة وفوائد
تحتوي ثمار التين على كمية هائلة من المياة وسكر الفاكهة، ولا تقتصر فوائده على تعويض المياه المفقودة من الأجساد نتيجة حرارة الصيف الشديدة، وتمتد إلى خفض درجة حرارة الجسم والحد من الشعور بالعطش. بالإضافة لكونه علاجًا طبيًا لتورم المفاصل والروماتيزم. وهو غني بالكاربوهيدرات، وتساهم أليافه في صحة الجهاز الهضمي وعلاج الإمساك وخفض مستويات الكوليسترول، وانخفاض خطر الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية، وتحسين مستوى الجلوكوز في الدم.
كما يساهم في تحسين وظائف الجسم لاحتوائه على أملاح الماغنسيوم والبوتاسيوم. وهو مفيد للتخلص من مشاكل التهاب البنكرياس. ويحتوى على مركبات الفلافونويد التي تقلل من خطر بعض أنواع السرطان مثل الثدي والبروستاتا والمعدة والبنكرياس والرئتين، ويساعد في الحفاظ على صحة القلب والأوعية الدموية.