المقال منشور في موقع فوكس
الغاز الطبيعي في قلب الأزمة الخليجية
تقول السعودية إنها تشن حربًا دبلوماسية ضد قطر بسبب دعمها للإرهاب. ولكن إذا حفرنا تحت سطح الأزمة، فهناك في الواقع شيء آخر يساعد على تفسيرها، وهو احتياطيات قطر الكبيرة من الغاز الطبيعي.
غالبا ما ينظر الناس إلى دول الخليج ويفترضون أن الثروة الهائلة في المنطقة ترتبط فقط بالنفط، إلا أن النفط، الذي لا يُوزّع بالتساوي في هذه المنطقة، ليس المصدر الوحيد لتدفق الثروة القائمة على الموارد الطبيعية في المنطقة.
أدت الكميات الهائلة من الغاز الطبيعي -وليس النفط، إلى زيادة معدلات دخل الأفراد في قطر لتصبح واحدة من أغنى الدول في العالم، كما أن ثروة الغاز الطبيعي تعتبر السبب الرئيسي الذي يساعد على تفسير كيف أصبحت قطر دولة مارقة في نظر جيرانها في الخليج - والهدف الحقيقي من حملة العزلة التي سببتها الأزمة الدبلوماسية الأكثر حدة في الشرق الأوسط منذ عقود.
وحقيقة الأمر أن الاقتصاد القطري لا يعتمد على النفط مما يعني أنه لا يخضع لنفوذ المملكة العربية السعودية، أكبر مًصدِّرٍ للنفط في العالم، وقائد منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك)، وهي مجموعة تعمل بانسجام تام للسيطرة على أسعار النفط.
وتمثل عائدات قطر من الغاز الطبيعي أربعة أضعاف ما يعود عليها من إنتاج النفط، لذلك لا تحتاج قطر إلى اتّباع ما تمليه السعودية بطريقتها التي من الواضح أنها ستستمر بها، حيث بنت المملكة بقاءها على هذا النهج.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن الغاز الطبيعي يتم تصديره من موانئ دولة قطر، حيث يتم ضغطه وشحنه إلى جميع أنحاء العالم، ولا يوزّع من خلال خطوط أنابيب مُعرّضة للتدخل أو التخريب من قبل الجيران الغاضبين.
وهناك مسألة أخرى وهي حقول (مصادر) الغاز الطبيعي في قطر - فهي تحصل على معظم الغاز الطبيعي من حقل للغاز البحري في الخليج تتقاسمه مع إيران. أي أن قطر لديها مصلحة في الحفاظ على علاقات متناغمة مع العدو اللدود للسعودية.
وترجمت قطر استقلالها الاقتصادي إلى سياسة خارجية مستقلة، إذ تطورت المستعمرة البريطانية السابقة خلال العقود الأخيرة لتصبح لاعبًا عالميًا يتنافس مع الرياض ويتحداها على عدة أصعدة، سواء من خلال شعبية قنواته الإعلامية الدولية القوية مثل الجزيرة، ودعمها لجماعة مثل الإخوان المسلمين التي تعتبرها السعودية وحلفاؤها تهديدًا وجوديًا لأنظمتهم الحاكمة؛ أو علاقتها الودية مع منافسي السعوديين كإيران وتركيا.
وبما أن المملكة العربية السعودية لا تستطيع السيطرة على قطر باستخدام نفوذها النفطي، فإنها تستخدم نفوذها الدبلوماسي الهائل في المنطقة لإلحاق الضرر بالاقتصاد القطري بطرق أخرى.
وقطعت المملكة العربية السعودية وحلفاؤها مصر والإمارات العربية المتحدة والبحرين جميع العلاقات الدبلوماسية مع قطر وأوقفت الرحلات الجوية والبرية والبحرية من وإلى البلاد. وقد انضمت بلدان أخرى في المنطقة منذ ذلك الحين. إنها محاولة جريئة -ومحفوفة بالمخاطر - لجعل قطر تسير في خط السعودية بعد أن غردت الدوحة خارج السرب لعقود.
الغاز الطبيعي يجعل قطر لاعبًا أساسيًا
اكتشفت قطر أكبر حقل للغاز الطبيعي في العالم في أراضيها عام 1970. ولكنه في ذلك الوقت كان اكتشافًا مخيبًا للآمال - فالغاز الطبيعي لم يكن مصدرًا هامًا حينها، مالم يعثر على سوق لتصديره ضمن خط الأنابيب، وكان لدى معظم الدول المجاورة لدولة قطر ما يكفي من الغاز الطبيعي في ذلك الوقت، وكانت أوروبا بعيدة جدا.
من ثم، تمنت قطر التي كانت منتجة متوسطة المستوى للنفط، لو أنها اكتشفت حقل بترول.
ولكن ذلك كله تغير في التسعينات، عندما استولى حمد بن خليفة آل ثاني على السلطة في انقلاب غير دموي على والده عام 1996، وتحولت قطر إلى مصدّر للغاز الطبيعي المُسال -الغاز الطبيعي بعد تبريده إلى حالته السائلة حيث يقل حجمه ويمكن شحنه عن طريق البحر.
وقام المستثمرون الأجانب بتوجيه الأموال إلى عمليات تسييل الغاز في قطر، وبدأوا في شحن الغاز الطبيعي المسال في جميع أنحاء العالم. وتعد قطر اليوم أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم، حيث تقوم بتوزيع حوالي ثلث إمدادات العالم.
ومع تحديث جيران قطر لاقتصاداتهم، زاد طلبهم على الغاز الطبيعي أيضًا، واستفادت قطر من هذا الأمر، فأصبحت ترسل الغاز الطبيعي إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان عن طريق خط الأنابيب، وهي إمدادات حيوية من الطاقة بالنسبة لهم.
وقال كارين يونغ، أحد الباحثين البارزين في معهد دول الخليج العربي في واشنطن، إن "حوالي 40 بالمئة من الكهرباء التي يتم توليدها في دولة الإمارات العربية المتحدة تعتمد على إمدادات الغاز من قطر".
وحولت احتياطيات قطر من الغاز الطبيعي من مستعمرة بريطانية صغيرة ومنتجة متوسطة المستوى للنفط إلى شركة عملاقة منتجة للطاقة لجميع أنحاء العالم.
وكانت قطر حريصة على استغلال ثروتها الفريدة من نوعها من أجل تشكيل هوية جيو-سياسية فريدة من نوعها أيضًا، مما أثار الكثير من الغضب في المملكة العربية السعودية.
لا خلاف في أن قطر تتشارك حقول النفط مع إيران -وهي القوة الشيعية البارزة في الشرق الأوسط التي تعارض سياسات الممالك السنية في الخليج.
وعلى الرغم من أن إيران وقطر بينهما نفس القدر من التوترات المذهبية، إلا أن قطر استطاعت إقامة علاقة ودية مع إيران، وهي بلد أكبر بكثير من قطر ، وتستطيع أن تقدم مطالب كبيرة حول الحقل الذي تتقاسمه معها
ويلخص الطرفان علاقتھما بـ"شرکاء الاستثمار"، فهم لیسوا أصدقاء بالضرورة، ولکنھما يعرفان أنهما سيخسران الكثير من المكاسب إذا أظهرا العداء لبعضهما البعض.
وعلى النقيض من ذلك، تفضل السعودية موقف المواجهة مع إيران.
في المصيدة
تمكنت قطر من الخروج من تحت سلطة المملكة العربية السعودية بسبب استقلالها المعتمد على الغاز الطبيعي، رغم إنها عضو في منظمة أوبك التي يهيمن عليها السعوديون، لكنها ليست بحاجة لتتبنى نوعًا من عقلية الزعيم السعودي التي يتعين على الأعضاء الآخرين الذين يعتمدون على النفط في منظمة الأوبك اتباعها.
وحقيقة الأمر أن الغاز الطبيعي في قطر يصل إلى الأسواق العالمية في المقام الأول من خلال الشحنات البحرية وليس خطوط الأنابيب التي تمر عبر المنطقة مباشرة هي أيضا ميزة استراتيجية. فالولايات المتحدة تحتفظ بأسطول بحري في الخليج مهمته ضمان التدفق الحر للغاز والنفط في الممر المزدحم (في إشارة إلى مضيق باب المندب أكثر النقط البحرية إزدحامًا في العالم- تمر منه 12 بالمئة من حركة التجارة العالمية).
وقد استطاعت قطر في ظل الهيمنة الإقليمية للمملكة العربية السعودية المناورة بخفة استثنائية من أجل وضع موطئ قدم لها، فعندما طلبت المملكة العربية السعودية في عام 2003 من القوات الأمريكية مغادرة البلاد بسبب الضغوط المحلية المناهضة لغزو العراق، اقترحت قطر بنجاح أن تقوم الولايات المتحدة بإنشاء قاعدة جديدة على أراضيها.
وقال جيم كرين، وهو باحث في الطاقة والجغرافيا السياسية في معهد بيكر بجامعة رايس "كان إنجاز الأمن الاستراتيجي الرئيسي الذي حققه الشيخ حمد هو إقناع البنتاجون بالانتقال إلى القواعد التي بناها - كالقاعدة الجوية الجديدة ومعسكر السولية".
قطر أمنت نفسها من خلال التحالف بشكل وثيق مع الولايات المتحدة، وجعلت نفسها مسرحًا مهمًا للعمليات العسكرية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط -حيث قاعدة العديد الجوية هي موطن لأحد عشر ألف جندي أمريكي وهي عصب العمليات ضد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا.
وهكذا، بجانب الاستقلال الاقتصادي، سارعت قطر إلى شراء حماية أمنية لنفسها.
ومع ارتفاع مكانة قطر، قامت بعدد من المبادرات التي كانت مصدر قلق لجيرانها، حيث أنفقت مئات الملايين من الدولارات على قناة الجزيرة - وهي القناة التي نقلت كل أحداث الانتفاضات الشعبية التي اندلعت ضد حكومات في الشرق الأوسط خلال فترة الربيع العربي.
اختلفت قطر عن المملكة العربية السعودية وحلفائها من أنصار النظم القديمة (الديكتاتورية)، حيث قامرت وأنفقت الكثير من الأموال على موجات تمرد القواعد الشعبية ضد الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط، سواء عن طريق إرسال أسطولها الجوي الصغير للانضمام إلى عمليات حلف شمال الأطلسي "الناتو" التي تدعم الثوار ضد الديكتاتور الليبي معمر القذافي أو من خلال دعم نشاط التطلعات السياسية للإخوان المسلمين في مصر بعد سقوط الرئيس المصري حسني مبارك في عام 2011.
وقال جيم كرين "قررت قطر دعم جماعة الإخوان المسلمين لأنها رأت الجماعة، والإسلام السياسي - ربما عن طريق الخطأ - كوسيلة للمستقبل".
وأضاف "عندما يكون جيرانكم ملكيين مطلقين يستخدمون الإسلام لشرعيتهم الخاصة فانهم يرون في الإخوان المسلمين تهديدًا كبيرًا".
في عام 2014، سحبت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين سفرائها وهي خطوة أخف بكثير من الخطوة التي نراها اليوم، وجاء هذا بسبب دعم قطر لجماعة الإخوان المسلمين من بين أسباب أخرى.
في ذلك الوقت، قدمت قطر بعض التنازلات، بما في ذلك كبح بعض علاقاتها مع جماعة الاخوان والتعاون بشكل وثيق مع دول الخليج في ملفات الأمن القومي، واستؤنفت العلاقات الدبلوماسية.
هذه المرة، يتصرف السعوديون وحلفاؤهم بقوة أكبر، وقد أغلقت السعودية حدودها البرية مع قطر، التي تستورد منها معظم المواد الغذائية؛ حتى بدأ القلق من احتمال نقص الأغذية الحاد على المدى طويل الأجل ينتاب القطريين.
وقائمة المطالب السعودية التي قدمتها لقطر من أجل إنهاء الحصار تدعو فعليا إلى تجاهل كل ما يجعل قطر دولة مستقلة ذات سيادة، ومن بين أمور أخرى، تدعو السعودية قطر إلى قطع العلاقات مع إيران وتركيا وإغلاق قناة الجزيرة تماما.
وهناك أيضا تساؤلات حول ما سيحدث لجدول أعمال قطر المعلن عنه مؤخرا لتوسيع إنتاج الغاز الطبيعي المسال بنسبة 30 بالمئة خلال السنوات الخمس أو السبع المقبلة.
ويمكن للبلدان التي تقاطع قطر أن تثبط شركات مثل إكسون موبيل -التي لها علاقات مهمة في جميع أنحاء المنطقة- من الاستثمار في عمليات تسييل الغاز القطري الموسعة، وبدون هذا الاستثمار المؤسسي، سيضطر القطريون إلى إنفاق قدر كبير من المال لتنفيذ مشاريعهم.
إن مصلحة الولايات المتحدة هي أن يتم تسوية هذا النزاع الإقليمي بأسرع ما يمكن وبسلاسة. وبالفعل دعا وزير الخارجية ريكس تيلرسون الى "خفض حدة الخطاب" واشار الى ان جميع الاطراف يجب ان تكون مستعدة للتوصل إلى حل وسط من أجل إنهاء الأزمة.
إلا أن الرئيس ترامب قد زاد من تعقيدات تيلرسون من أجل التهدئة من خلال الانحياز العلني مع السعودية ضد قطر، ووصف قطر بأنها "ممولة للإرهاب على مستوى عال جدا". وهذا بدوره من شأنه أن يجعل السعودية أقل حماسًا لتسوية الأمر .
هناك الكثير من القضايا على المحك، حيث أن الصراع في الخليج يخلق فراغا يمكن أن تملؤه القوى المتطرفة. وهذا ما أكده ألين فروميرز، مدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة ولاية جورجيا ومؤلف كتاب "قطر - تاريخ حديث"، إذ يوضح أنه "كلما كانت هذه القوى أكثر انفصالا وضعفا في الخليج، كلما ضعفت قدرتها للقضاء على الأنشطة المتطرفة، ناهيك عن تمويل التطرف - والولايات المتحدة بالتأكيد لا تريد سيناريو كهذا حيث تضطر الى الاعتراف بهيمنة أكثر لإيران، وهو المكان الذي قد تضطر واشنطن للتعامل معه اذا لم تجد دول الخليج حلا سلميا قريبا".