من الوارد جدا أن الرئيس لم يسمع أبدًا بلويس الرابع عشر لكنه رغم ذلك يتلبس شخصيته بحماسة الملك وهو يؤكد: "أنا الدولة". الرجال ذوو الإيمان المخلص بالأوامر والنظام والأمن والتراتبية في السلطة، باعتبارها الطريق الأسرع نحو الحكم؛ ليسوا من محبي الديمقراطية.
لأكون واضحًا، فبينما حكم أسلافه لا يشبه الديمقراطية في شيء؛ لكن السيسي كذلك لم يحاول إصلاح ما سبق. نقرات طبل محمد مرسي صارت ضربات عاصفة على يد السيسي. هذا رجل يصوب ناظريه بدقة على الهدف النهائي، يعمل على مجتمع مصري تمت تهيئته جيدًا عبر آليات الدكتاتورية التي مارسها لعقود حكام مصريون وأجانب.
النسخة التي يريدها الرئيس، هي دولة حديثة تُدار بمنطق وآليات الامبراطورية، حتى بين هؤلاء الذين يتخذون القرار في الجيش المصري، قليلون توقعوا هذا التوجُّه. في المقابل، فقد رأوا في السيسي رجلاً بإمكانه أن يتخلص من الأحلام الخطرة غير المنظمة – حتى وإن كانت مشروعة- للأمة، ويقدم لهم قطعة أكبر من الكعكة.
ما فشل هؤلاء في تخيله هو أن رجلهم سيعيد كتابة دليل الدكتاتورية بثقة باردة. المعارضون الذين يظنون أنه يستخدم أطنان من العضلات وجرامات معدودة من الاستراتيجية، هم في الحقيقة سُذّج.
بخطواته الأخيرة التي أطلق فيها وابلاً من الرصاص على المجتمع المدني المصري، وحجب كافة المنصات الصحفية التي تجرؤ على تقديم سردية مخالفة للأحداث، أثبت الرئيس أنه إضافة عظيمة ومفاجئة للفريق العالمي المتنامي من السلطويين.
ولكن: هل إحكام الخناق على كافة أشكال المعارضة ستخنقه هو شخصيًا؟
قمع قانوني
بينما تنجذب أعين العديدين في الشرق الأوسط نحو الخطوات الميكيافيلية (الانتهازية) التي تتخذها السعودية والإمارات ومعهما مصر تجاه قطر، واصل السيسي بلا تردد جهده في تأمين ما تبقى من معبد السلطة في مصر.
هذا رجل يعي جيدًا أهمية المظاهر ويستخدم مؤسسة تشريعية وهمية للتلاعب بالوعي العام من خلال أسخف الأكاذيب.كل هذا يحدث ضمن حدود القانون والدستور المصريان.
الدولة لم تعد بحاجة لقتل الآلاف. الآن يسعى صاحب العرش للاستحواذ على الشرعية القانونية، مضافًا إليها كميات ضخمة من المساحيق الدبلوماسية كي ينهي الأحلام الديمقراطية للمجتمع. لقد أعلنها واضحة بصوته- وبصوته وحده- أنه الصوت الوحيد الذي يجب أن يستمع إليه المصريون.
هي خطة بسيطة وقابلة للاشتعال في الوقت عينه، إحكام تكميم الصحافة المستقلة وإغلاق المجتمع المدني اللذان يثيران تساؤلات لا حاجة لها، تضر بالسردية المُراد لها أن تسيطر على الوعي العام.
القانون الذي يستهدف المجتمع المدني أكثر ضررًا من قانون التظاهر الوحشي الذي ظهر وطُبِّق في نوفمبر/ تشرين ثان 2013، ليفتت المظاهرات العامة، التي كانت هي المركز الذي انطلق منه زلزال يناير 2011، وهو كذلك القانون الذي شرعن قمع الدولة.
هذا القانون الجديد الذي وصفته منظمة العفو الدولية بكونه محاولة لخنق المجموعات المدافعة عن حقوق الإنسان، يسعى لخفض سقف المحاولات التي يبذلها المصريون ومن يساندونهم، للخروج عن الخطوط المرسومة سلفًا التي وضعتها الدولة الأمنية.
"هو لا يستهدف منظمات حقوق الإنسان فقط" يقول محمد زارع أحد المدافعين المصريين عن حقوق الإنسان والذي يواجه اتهامات بتهديد الأمن القومي، "هم يلاحقون أيضًا الجمعيات الخيرية وأي مجموعة منظمة لا يسيطرون عليها".
بوضوح؛ هذا التشريع القمعي هو سكين مسلطة على رقاب 47 ألف جمعية أهلية محلية، بالإضافة لمئة مؤسسة تتلقى مساعدات أجنبية.
على تلك الجمعيات أن تهيئ أوضاعها وفقًا للقانون الجديد خلال عام واحد من تاريخ سريانه، ويتضمن هذا: " التراجع عن أي نشاط ذي صبغة حقوقية، أو من شأنه "الإضرار بالأمن القومي"، وأن تسدد ما يساوي 16 ألف و500 دولار أمريكي كي تمارس عملها وتعيد تسجيل نشاطها ضمن إطار القانون، أو أن تواجه عقوبات قاسية تصل حد المحاكمة.
افعل كما نفعل أو سنقضي عليك. هذا هو النشيد الوطني لذلك النظام الحاكم.
قبل مقدم السيسي بكثير، سعى الحكام العسكريون الذين توالوا على مصر إلى خفض الحد الذي يمكن فيه للمجتمع المدني، سيما الحقوقي أن يحدث أثرًا فاعلاً.
العديدون بإمكانهم أن يفهموا الهدف الرئيسي لهذا التشريع، كونه يسعى للتحكم في خطوط الإمداد وأجندات منظمات المجتمع المدني المصرية التي يتم تمويلها محليًا أو بمساعدات أجنبية.
وبالتأكيد، عندما يتعلق الأمر بالتمويل الأجنبي للمنظمات المحلية، لا يواري القانون نيته الخبيثة ودوافعها المغرقة في القومية الشوفينية، كضحكة هيستيرية مجلجلة: إذا ما قبلت أي منظمة تمويلا أجنبيًا دون رقابة صارمة ولصيقة من الهيئة المزمع انشاؤها باسم "الهيئة القومية لتنظيم عمل المنظمات الأهلية الأجنبية"، فستواجه عقوبات تعجيزية: مليون جنيه مصري وجزاء إجرامي يصل حد السجن مدى الحياة.
لكن الهدف أكثر شرًا من هذا. تصور معي – وقد شهدت هذا بنفسي- سيدة مصرية مخلصة في الثلاثينات من عمرها، لا تتلقى أي تكريم على جهودها، تضطر لتأسيس مجموعة سرية على فيسبوك كي تصل بين المتبرعين من دوائرها الشخصية، ومواطنون يمرون بظروف بالغة الصعوبة وبحاجة للمساعدة. بدون هذا القانون كان يمكن للسيدة أن تطلق نداءات علنية عبر السوشيال ميديا لتلقي المساعدات لصالح المحتاجين، وبالتالي كانت النتائج أسرع وأفضل في صالح هؤلاء المحتاجين من المرضى والفقراء.
هذا القانون تمتد مظلة أذاه لتغطي شبكة واسعة تضم هؤلاء الذين يعانون من تقصير وفشل الحكومة، ومن يتقدمون لملء الفجوة الواسعة التي خلقتها الإجراءات الاقتصادية سيئة التخطيط التي اتخذها هذا النظام وجعلت الاقتصاد يتداعى. لكي تضمن السيطرة السياسية؛ لا يهم هذه الحكومة على الإطلاق أن يفنى الفقراء في فقرهم.
البعض يعتقد أن ميدوسا المصرية "فايزة أبو النجا" هي المطرقة الوحيدة التي استخدمتها الأنظمة المصرية المتعاقبة لتوجيه الضربات للغرب تحت حزام حقوق الإنسان، المستشارة الرئاسية التي كانت المحرك الأساسي لقضية محاكمة العاملين في المنظمات الأجنبية في 2012، يخطئ من يظنها ملاذًا وحيدًا للنظام. فهذا القانون الجديد نموذج مثالي للتشكك المصري في الجميع، وهو يأخذنا إلى مياه أكثر خطورة يغرق فيها المنطق والعدالة.
رقابة الطرف الثالث
ومع انفجار قضية الجزيرتين من جديد، بإحكام برلمان السيسي قبضته على الاتفاقية، وربما بسبب هذه القضية تحديدًا فقد وضع السيسي الصحافة نصب عينيه.
تقييد الصحافة إلى الحائط كان دومًا هدفًا مهمًا للثورة المضادة، ولكن مع خطوة كارثية تلو الأخرى، لم يعد أمام الرجل القوي سوى المبادرة لإنهاء هذه المسألة.
بحجب ما يزيد على خمسين موقعًا إعلاميًا، بدأت ببضع وعشرين موقعًا قبل أسبوع واحد من تصديق السيسي على قانون الجمعيات الأهلية، قام السيسي بتقييد من يرى أنهم يلاحقونه. بداية من مدى مصر ودايلي نيوز إيجيبت "كلاهما كان لي شرف الكتابة له" وصولا للجزيرة. مؤسسات إعلامية من مختلف الأطياف السياسية تعرضت لهذه الضربة.
لم تتلق هذه المواقع أية تحذيرات أو إنذارات، مكتوبة أو شفهية، مجرد ضربة مميتة ومفاجئة من "طرف ثالث" مجهول يستخدم نفس التكنولوجيا التي تستخدمها الصين لحجب المواقع.
لماذا تم حجب هذه المواقع؟ تعتمد الإجابة على من يُطرح عليه التساؤل، وكالة أنباء الشرق الأوسط وهي الوكالة الحكومية الرسمية، زعمت أن هذه المواقع "تنشر الأكاذيب وتدعم الإرهاب". ولكن حتى من هذه الزاوية العتيقة التي عفى عليها الزمن، يبدو أن الطرف الوحيد الذي يمارس الإرهاب هو الدولة.
استغماية
الدول لا يمكنها، ولا يجب تحت أي ظرف أو حجة أن تصم حرية التعبير بكونها "أكاذيب وإرهاب". إذا صمت الإعلام فهي مسألة وقت قبل أن يُقدم النظام على إسكات القراء أيضًا.
بالهجوم على الإعلام وحقن المجتمع بجرعات عالية من الخوف عبر الاعتقالات والتعذيب والقتل خارج إطار القانون، حاول الحاكم أن يضغط زر إخراس الجميع، ممهدًا الطريق نحو المزيد من القمع في السنة التي ستنعقد فيها ما يقال أنه انتخابات رئاسية في 2018.
لكن سكوتنا جريمة. عندما يسعى نظام لإسكات أي صوت، دعك من تعمد تدمير الصحافة الحرة بشكل منظم، على القراء والمواطنين أن يتوقفوا ليتدبروا: الفشل وعنف الدولة وانعدام الرؤية وإثراء الطبقة الحاكمة.
في مناقشات جمعتني بخبراء ومصادر عدة في الفترة الأخيرة، تكرر ظهور سؤال: هل يحاول الرئيس أن يطلق مواجهة كبيرة مع من يراهم أعداء له؟
في البداية، تبدو الفكرة مجنونة، هذا رجل ينزف من قاعدة تأييده الشعبية بشكل مستمر، بعد مضي أكثر من نصف مدته الأولى. لكن علامات الاختناق الأولى قليلا ما تفصح عن الحقيقة.
بالاستمرار على هذا النهج، وتضييق المشنقة على رقبة المسار السياسي والقضاء والصحافة والمجتمع المدني بشكل غير مسبوق على الإطلاق، يجبر السيسي المعارضة الكامنة على أن تطل من فجواتها. وبلا شك فإن مقصلته جاهزة لقطع الرقاب.
وبعيدًا عن دوافعه، فمن المؤكد أنه يفضل المطرقة على الريشة. ولن يُعرف أبدًا بأنه "عبد الفتّاح الماكر". هذان الهجومان المتزامنان على الصحافة والمجتمع المدني دليلان آخران على شخصيته التي لا تعرف الرحمة.
لكن هذا الجنون الممنهج، سيقود إلى أن تخنق المشنقة جميع الأطراف، بما فيها رقبته نفسها.