حين يُذكر اسم علي الحجار، الذي يحتفل اليوم ببلوغه 63 عامًا، ينصرف الذهن مباشرة إلى قائمة طويلة من تترات وأغاني المسلسلات التي اشتهر بها.
أعلم أن الحديثُ عن علي والمسلسلات سواءً مغنيًا أو حتى ممثلاً يبدو معادًا ومكررًا. لكنني هنا أحاول النبش في منطقة أخرى. أو بمعنى آخر أحاول تقديم إجابة مختلفة للسؤال الشهير: لماذا كان عليّ المطرب المفضل لأداء هذه التترات؟
يقولون إن صداقته بعمار الشريعي كانت سببًا. وكلما أراد عمّار استعراض مهاراته كملحن استعان بعليّ الذي يساعد صوته العريض القوي الشريعي على "اللعب كما يريد". ويربط البعض، وقد يكون الربط صحيحًا، بين هذه التترات وفترات انحسار عليّ وعدم قدرته على إنتاج ألبومات جديدة. حيث كانت التترات المتنفس الوحيد الذي يسعى من خلاله لإيصال صوته للمستمعين.
حسنًا. أرى أن سر تفوق الحجار في التترات خصوصًا وفي بعض أغانيه لم تكن في قوة الصوت أو حلاوته أو حتى الموسيقى التي تساعده على إخراج أفضل ما لديه لكنها في موهبة التجسيد. نعم. عليّ قادر، أو بالأحرى كان قادرًا، على أن يجسد ما يقوله، فتتحول الكلمات التي يتغنى بها إلى مشاهد حيّة يراها كل من يستمع إلى صوته.
في تتر مسلسل "اللقاء الثاني" في أغنية البداية التي كتب كلماتها الشاعر الفذ سيد حجاب ولحنها عمر خيّرت وشاركته الغناء حنان ماضي، استعرض علي جزءًا من هذه الموهبة.
"زي الهوا الساري وخيال الطيف
أحلى سنين العمر بيننا تمر
يا نعيش هوانا حلم ليلة صيف
يا تتوه خطانا في ليل شتانا المر".
حنان صوتها جميل وعذب. لكن ما ميّز علي هنا هو القدرة على التجسيد. حين تستمع إلى كلمة "الهوا" التي يقولها علي. وإلى حرف الألف الذي قام عليّ بمده في نهاية الكلمة. تشعر للحظات أن الحجار نظر لأحلى سنوات عمره التي مرت "زي الهوا" قبل أن ينطق الكلمة بهذه الطريقة الدرامية التي تجعلك تتنسم هذا الهواء وتحلق فيه.
قمة الأداء الدرامي يمكن أن نتلمسه في أغنية لن تجدها في قائمة تترات المسلسلات، لكن في ألبوم "يمامة" الذي صدر عام 2006. وهي أغنية "لو تعرفي" من كلمات نبيل خلف.
"لو تعرفي أنا قد أيه موجود تملي في سكتك
وحلم دافي لسه تحت مخدتك
أنا قوتك، حريتك، حنيتك
وتهورك وحكمتك وألفتك وغربتك.
ورغبتك في الحياة".
هنا كان عليّ متألقًا للغاية. في كل كلمة من هذه الكلمات (قوتك، حريتك، حنيتك، تهورك، حكمتك، ألفتك، غربتك) كان الأداء يختلف.
في "قوتك" تستشعر القوة والصلابة. وفي "حنيتك"يقولها عليً بصوت هامس لتتحسسها دون أن يتكأ على الحروف. ثم يرتفع الإيقاع ويعلو الصوت ثانية في "تهورك" وهكذا.
في برد الليل
يصنف كثيرون أغنية "في قلب الليل" أنها الأبرز في مسيرة الحجار. هذه الملحمة التي تجلّت فيها عبقرية الشاعر المتفرد عصام عبدالله في انتقاء الكلمات وموهبة مودي الإمام في وضع لحن مناسب للكلمات.
منذ الجملة الأولى "في قلب الليل.. وعزف الصمت متهادي كموج النيل.. في قلب الليل.. وبرد الخوف بيتكتك سنان الخيل". تتضح قدرة علي الفائقة على تجسيد المعاني وتقمص الكلمات. هذه الجملة قالها عليّ بعذوبة وهدوء وحزن. هذا هو الليل، ليل الشتاء القارس الذي يجعل "سنان الخيل" بـ"تتكتك".
لكنّ أداء عليّ لم يسر على هذا النسق طوال الأغنية. الأسى والحزن تبدل إلى فرحة بدت في نبرته حين قال: "وفجأة لقينا أحلامنا/وصهل الفجر في عيوننا/مسكت قيوده فكتها/صهل بمعاني حسيتها". وحين تحدث عن تلك اللحظة التي تركته حبيبته (المهر) وركضت بعيدًا عنه"وصار يجري وينساني" تعمدّ علي مد حرف الياء في كلمة "يجري"، وكل من يسمعها يصل لها معنى واحد أنه ركض كثيرًا وابتعد عنه لأقصى مسافة.
وما ميّز عليّ، بوجه عام، في أداء الأغاني الحزينة أنه لم يقم كمطربين آخرين يحاولون بشتى الطرق إرغام المستمع على البكاء؛ إمّا بالمبالغة في الأداء أو بالبكاء أحيانًا. الوضع مع الحجار كان مختلفًا.
قائمة الأغاني الحزينة طويلة أيضًا. لكننا نكتفي بهذه الأغنيات "لما الشتا يدق البيبان" "اعذريني" و"متصدقيش" ففيهم تجلت قدرة الحجار على التجسيد الصادق. تغمره هذه المعاني ويفكر فيها كثيرًا قبل الغناء لذلك لا يحتاج لاستعراض قدراته الصوتية أو المبالغة في إظهار الحزن عند الغناء:
"خريف نادانا والشجر دبلان
بردانه كنتي وكنت أنا بردان
ضمت قلوبنا بشوق ولهفة نبضها
لما التقينا الخطو عرفت أرضها".
على الجانب الآخر. ينجح علي في إيصال معاني البهجة والسعادة في أغاني أخرى. وعلى السخرية والتهكم أيضًا.
وخير مثال على ذلك أغنية "عم بطاطا" تلك التي تسخر من التواكل، إن صح اللفظ، والفهلوة والاستكانة للظالمين بحثًا عن "رزق العيال".
منذ أول كلمة "عم بطاطا لذيذ ومعسّل. عمره ما طاطا لغيير الله" ستوقن أن عليّ يسخر. وستتجسد أمامك ملامح "عم بطاطا" هذا الذي نراه في حياتنا كل يوم.