في عام 1979 كان صديقي المُطرب علي الحجار يحاول الخروج من الدائرة التقليدية التى وجد نفسه أسيرًا لها؛ بعد تجربته الأولى مع الموسيقار الكبير بليغ حمدي.
أسمَعَني علي وقتها مجموعة من الاُغنيات المُعدَّة لألبوم "محتاجلك". لفتت انتباهي وقتها كلمات أغنية "بلادى" لعصام عبدالله. وكانت المرة الاُولى التي أتعرف فيها على إبداعه المختلف.
الاختلاف والتميز الذى غلّف كلمات عصام أزعج الكثير من شعراء الاُغنية التقليديين والمسيطرين على سوق الأغنية والكاسيت وقتها، فتم منع إذاعة الاغنية بعد رفض لجنة الاستماع بالإذاعة لكلماتها. كانت تلك هى بداية معرفتى بالشاعر الراحل، وزاد إعجابى بعد لقائى به أثناء إعداد علي لألبوم "اعذرينى".
وجدتُ أمامي شاعرًا حقيقيًا ومختلفًا ليس فى أفكاره وقدرته على نسج قصائده بجدة غير متوقعة فقط؛ ولكنه كان يمتلك قدرة هائلة على استخدام الألفاظ التي يستخدمها العامة فى حياتهم اليومية؛ والتي كان يخشى البعض استخدامها وتحويلها لصور نفيسة عامرة بالبلاغة والجدة والجمال.
وعبْر حياته القصيرة العامرة نرى في إبداعه تلك القدرة المختلفة التي أزعجت الآخرين، وجعلته تحت ضغوطٍ لخوفهم من أن يسحب البساط من تحت أقدامهم. فتعرض لمضايقات عديدة ولكنه لم يتأثر ولم يفقد شعره طزاجته واختلافه.
هذه المعاناة، التي لا يعرفها إلا قليلون، ضاعفت من اعتزاز عصام بذاته وبشعره. وجعلته يتعامل أحيانًا بطريقة قد تبدو جافة وبها قدر من التعالي. كان عصام يعلمُ قيمة ما يقدمه. كان يعاني بشدة كى تصل كلماته للناس. يرى من يعبثُ بالاغنية يتقدم الصفوف، والأمثلة كثيرة دون ذكر أسماء وبعضها مستمر حتى الآن.
ولأن كتابة الأغاني كانت مصدر رزقه الوحيد في تلك الفترة، ولأنها لم تكن تُدر عليه المال الكافي، ومع تجاهل البعض لتجربته ومحاولة هدمها فى مهدها؛ أصبح عصام اكثر حدة وإن استمر يغرد ويبدع؛ لكن وللأسف كانت أغنياته تنتشر بأسماء مطربيها دون الإشارة إليه إلا فيما ندر. وباستثناء الكبير صلاح جاهين الذي أشاد بتجربته فى بدايتها تجاهله الآخرون. وتعرضت أعماله للمنع والنقد اللاذع من تجار الأغنية وقتها.
والحقيقة أن توجه عصام اليساري ساعد أعداءه؛ فتهمة "شيوعي" كانت جاهزة ومعدة لوصمه بها. وكأن الانتماء لأىّ تيار سياسي يُقلل من قيمة ما يكتبه. واستمر إزعاج عصام لهؤلاء فترة بداية الثمانينات. وأعتقدُ أن ذلك أثر على قراراته بعدها في العمل أو السفر، لكنني لا أستطيع الجزم بذلك لأنني تركت مصر عام 1984بعد أن كنتُ قريبًا منه في بداياته.
اقرأ أيضًا: ذكرى عصام عبدالله.. الجميل المتغندر
هناك عوامل أخرى أدّت، من وجهة نظري، لعدم انتشار أشعار عصام بالشكل الذي يناسب موهبته؛ على رأسها المناخ العام وقتها الذى لم يستوعب تلك الطاقة الإبداعية الهائلة.
كان المناخ السياسي والثقافي يمر بمرحلة انتقالية؛ فبعد أن انتهت سيطرة أساطير الغناء واللحن والكلمة، كانت الساحة تعجُ بتجارب عديدة، وكان من الصعب وقتها فرز تلك التجارب وتقييمها. وأنا أقصد هنا كل الأشكال الغنائية التي ظهرت في تلك الفترة. زاد عدد المطربين والمطربات وراجت سوق الكاسيت وظهرت الفرق الغنائية وعدد ضخم من التجارب الشعرية والموسيقية.
كل تلك العوامل، أثرت على التواجد الذى كان يستحقه عصام بين شعراء الأغنية الأفذاذ عبر تاريخ الأغنية المصرية. وقد كان من السهل على من في موهبته أن يكتب الشكل التقليدي للأغنية وبحرفية أعلى من كل شعراء عصره؛ لكنه ظلّ يكتب ما يحبه وما يؤمن به. وكان عليه أن يدفع فاتورة ذلك. ورغم كل ذلك استمرت تجربة عصام بعد رحيله مُلهمة لشباب الشعراء، وستستمر تجربته كأحد أهم من كتب الأغنية المختلفة في تاريخ الغناء.