حين تقف أمام البحر وتمد نظرك إلى منتهاه تشعر أنك صغير جدًا. وحين حلّت ذكرى رحيل الشاعر عصام عبدالله وحاولنا الاقتراب من إرثه باغتنا هذا الشعور.
صغارًا جدًا وقفنا أمام بحر لا نهاية له. نعلمُ أن السباحة فيه خطر. وأن أمواجه تبتلع كل من يقترب ثم تتقاذفه دون رحمة أو هوادة.
نعم. كل من يقترب من شعر عصام عبدالله، الذي تحل اليوم، الثلاثاء، الذكرى الـ21 لوفاته، لا يستطيع أن يبتعد. تُحاصره الكلمات والصور والمعاني والتساؤلات.
ترك عصام الفيوم حيثُ ولد ونشأ، وجاء إلى القاهرة في منتصف السبعينيات. جاء إلى العاصمة ثريًا بموهبته. لم يستجدِها لتقبله بين أبنائها. على العكس. جاء عازمًا أن يجذبها إلى عالمه. هذا العالم المتنوع الذي تمتزج فيه كل أقطار مصر وأطرافها في تناغم فريد.
تحدى عصام القاهرة. تحدى شعراء الأغنية في مصر. تحدى المطربين أنفسهم. كان لسان حاله يقول "سأجبركم على الغناء بما أكتبه ولو لم يكن شائعًا أو مألوفًا".
هو كما قال عنه صلاح جاهين "جريء". يمتلك جرأة فريدة؛ كانت، وما زالت، الأغنية المصرية في حاجة إليها.
حين تصدمك أمواج عصام ستندهش بدايةً من اختياراته. عن أي شيء يكتبُ؟
الجرأة التي امتلكها دفعته للكتابة عن أشياء ربما لم يظن أحد أن الغناء عنها ممكن. كتب عن "المجهول". هذا الذي نخشاه ولا نعرف عنه شيئًا. نتعلم ونعمل ونجتهد في كسب الرزق لكن يبقى ما نجهله مصدر خوف لنا.
كتب عن ألوان الناس والعربيات والدكاكين. وكيف أن حبيبته تنسى حبها وسط هذا الزحام. كتب معاتبًا الدنيا ساخرًا منها وزاهدًا فيها.
وحين تطّرق لموضوعات معتادة؛ الحبُ والهجر والخيانة وغيرهم، كان حضوره مُختلفًا.
بعد ذلك تأتي الكلمات. وهي نقطة القوة الأبرز في تجربة عصام الشعرية. قاموسه ليس قاهريًا بالأساس. ولا ينتمي إلى إقليم بعينه. هو، كما وُصف، شاعر المليون كيلو متر مربع. القادر على هضم كل اللهجات في مصر على تنوعها واختلافها. ثم صياغتها في قصائد غنائية.
لو كان جميل ومتغندر
ما عندي مانع يتقدر
لكن بالسلم
ما هذا الظلم
قاموسه أيضًا تجاوز مفهوم الثراء والتنوع إلى رحاب أوسع. رحاب الابتكار. عصام كان مبتكرًا إلى حد يجعل تصنيف بعض أغانيه صعبًا. أحيانًا لا تعرف هل الكلمات المكتوبة بدوية أم صعيدية أم تنتمي لمحافظات الدلتا والوجه البحري. ما دفع البعض لوصف إحدى أغانيه، وهي أغنية وحدانية، أنها مكتوبة بلغة عصام عبدالله الخاصة.
ويضاف إلى كل ذلك القدرة على المزج بسهولة بين الفصحى والعامية. يمزج بينهما في القصيدة الواحدة وأحيانًا في الجملة الواحدة دون أن يبدو الامر غريبًا أو غير مألوف.
الكلمات على تنوعها، كانت وسيلة عصام للرصد والتحليل. للاشتباك مع الحياة وأزماتها المعقدّة تلك التي تحتاج إلى كتب لشرحها وفك طلاسمها بكلمات قليلة بديعة.
ما تحكمشي على الدنيا برمادية
مفيش أحزان ولا أفراح أبدية
لم تدم تجربة عصام المتفرّدة طويلاً. ففي 21 مارس/آذار عام 1996. وكان ما زال في الـ40 من عمره. رحل عبدالله عن عالمنا في صمت. رحل صاحب "لو بطلنا نحلم نموت" و"في قلب الليل" و"وحدانية". دون أن يترك ديوانًا واحدًا يجمع أعماله الشعرية.
واليوم، وبعد 21 عامًا على وفاته، نقف على شواطئه المترامية بطول مصر كلها. نقف ونغترف منها. نحاول، جاهدين، ألا تبتلعنا الأمواج مجددًا.
"سأتحدث عن عصام عبدالله الموهوب الذي لم تصل كلماته إلى كل الناس. عن هذه الموهبة التي فقدت جزءًا من قيمتها بعدم الانتشار بين الجمهور. عن عصام الذي حين أذكر اسمه أمام كثير من الموسيقيين من أبناء الجيل الحالي لا يعرفونه ويقولون "مين ده".
"كلمات الراحل عصام عبد الله وأسلوبه القصصي والدرامي في كتابة تلك الأغنية يخفي وراءه سياقًا عدميًا مليئًا بالفلسفة".
"كانت اللغة هي العنصر الأقوى في مشروع عصام الغنائي. يغوص في العامية ويتلاعب باللهجات المصرية بين الصعيدي والريفي وحتى البدوي".
"اللغة الجميلة. الكلمات المتنوعة. الصور والتشبيهات المبتكرة. يدور الحديث عن الشاعر المصري الفذ عصام عبدالله في فلك هذه النقاط. ولا يغادرها إلا قليلاً".
"الاختلاف والتميز الذى غلّف كلمات عصام أزعج الكثير من شعراء الاُغنية التقليديين والمسيطرين على سوق الأغنية والكاسيت وقتها".