(1)
كنتُ أجلس في صحبة أحد أهم صانعي الموسيقى بمصر. أشعرُ بقدر من الخوف والرهبة. ما زلت شاعرًا غنائيًا شابًا. يخاف أن تخذله كلماته في موقف كهذا.
سألني "بتحب أيه في ألبوم فلان؟". عدّدت له الأغاني التي أحبها. سألني "تعرف تكتب أيه من الأغاني دي؟".
شعرت ببعض الراحة عقب هذا السؤال. لقد اختصر طريقًا طويلاً. وبعدما أوضحت له الأغنية التي أحب أن أكتب في "سكتها" كان رده الحاسم "شيوعي يعني!"
(2)
في الصف الأول الثانوي، التحق بمدرستي أستاذ شاب يُدرّس الرياضيات. كان الفارق القليل في السن يدفعني للارتباك، فالعلاقة بيننا ليست صداقة وليست علاقة تلميذ بمدرسه؛ خاصة وأنه كان يُدرّس للمراحل العمرية الأصغر.
ربطتنا علاقة فنية بحتة. كان الرجل يبحث عن أحد يشاركه شغفه بالموسيقى. ربما قال له أحدهم إن "محيي أكتر واحد بيجيب شرايط". كثرت جلساتنا، ونظرا لأن فارق السن لصالحه، كانت له اليد العليا دائمًا في تعريفي بكل ما هو جديد بالنسبة لي وقديم بالنسبة له. نادرا ما استطعت أن أتفوق في ذلك السباق المحسوم قبل.
وجاء هذا اليوم، حين تحدث أمامي عن "الطول واللون والحرية". في تلك المرحلة كنت قد بدأت تجاربي الأولى في كتابة كلمات الأغاني. بالطبع وقفت مبهورًا أمام من استطاع ربط تلك الكلمات ببعضها البعض. وما هو الشيء الذي يمكن وصفه بتلك الصفات، وعندما سألت "مستر عماد" عن الرابط، رفض أن يوضح وأعطاني "الشريط" وقال لي "اعرف بنفسك".
ومن هنا بدأت التعرف على عصام عبدالله.
اقرأ أيضًا: ذكرى عصام عبدالله| غواية اللغة وسحر السينما
(3)
لا أحصي عدد الأغنيات التي أحبها لعصام عبدالله. ولا أعرف كيف أتحدثُ عنه؟ هل أتحدثُ عن قاموسه الفذ الذي يندر أن يتكرر. هل أتحدثُ عن المفارقات الكثيرة في حياته؟ لا، سأتحدث عن شيء آخر.
سأتحدث عن عصام عبدالله الموهوب الذي لم تصل كلماته إلى كل الناس. عن هذه الموهبة التي فقدت جزءًا من قيمتها بعدم الانتشار بين الجمهور. عن عصام الذي حين أذكر اسمه أمام كثير من الموسيقيين من أبناء الجيل الحالي لا يعرفونه ويقولون "مين ده".
قد أكون قاسيًا في كلماتي. لكن ما قيمة الموهبة إذا لم تصل إلى المتلقي؟ ما قيمتها إذ كانت أعداد محبيه ومتابعيه قليلة للغاية قياسًا بمن هم أقل منه موهبة.
(4)
"نفسك تبقى زي مين من الشعرا".. أكرهُ هذا السؤال الساذج. وأكره أيضًا الإجابة المُعلبة الشهيرة "حضرتك أنا مش عايز أبقى شبه حد".
أقولُ مُباشرة لمن يسألني هذا السؤال: عصام عبدالله. لكنني، مع الأسف، أضيفُ كلمات أخرى: "مع اختلاف مقدار الانتشار والتحقيق، لا أريد أن تكون أسطورتي هي عدم اكتمال التجربة".
قد تبدو هذه الإجابة ساذجة أيضًا كالسؤال نفسه؛ لكنها الحقيقة. أحبُ عصام، ومن لا يُحبه، أبحثُ عن تميزه. عن رضاه عن نفسه. لكنني لا أبحثُ عن انتشاره وقدرته على الوصول للجماهير.
اسأل نفسي كثيرًا. هل لو عاش أكثر من ذلك، هل كان سيصل إلى تلك التوليفة وخلطة الكلمات التي تصلح أن تكون أغنية سهلة تصل للمستمع البسيط.
في ذكراه، أقول إن عصام حريّ بالاحتفاء به. وجدير بالتمجيد لأنه تجربته متميزة للغاية. لكنه رحل دون أن تكتمل أسطورته. رحل وترك لي أسئلة تتردد في بالي كثيرًا: ماذا لو اكتملت الأسطورة؟ هل كان سيتربع منفردًا على قمة شعراء الأغنية في تاريخ مصر؟ أم كان سيكتفي بدور "الشيوعي"؟
اقرأ أيضًا: ذكرى عصام عبدالله| الجميل المتغندر