من ضمن أعمال الدكتور عبد الرحمن بدوي الكثيرة والمهمة، سلسلة بعنوان "خلاصة الفكر الأوربي". في هذه السلسلة يكتب عن أرسطو، اشبنجلر، شوبنهاور، ونيتشه. والبداية كانت مع نيتشه الذي كان كتاب بدوي الأول.
كان بدوي يؤمن بأن هذا الوطن يحتاج إلى ثورة على قيمه البالية العفنة؛ حتى يتقدم وينهض. ومن ثم فإن مشروع "خلاصة الفكر الأوربي" كان محاولة لتقديم الدليل والأفكار لهذه الثورة. يفتتح بدوي السلسة بكتابه عن "نيتشه"، هذا الفيلسوف الكبير والجذري، المؤمن والمُمَجِّد للفرد المتقدم القائد للمجموع. يقول نيتشه في أحد كتبه: "الضعفاء العجزة يجب أن يفنوا، هذا أول مبدأ من مبادئ حبنا للإنسانية، ويجب أيضا أن يساعدوا على هذا الفناء". وجاء الفرد الذي حاول أن يُفني عددًا لا بأس به من الناس، وهو الفوهرر هتلر. وبدوي نفسه كتب مقالات عديدة في تمجيد "الإنسان الأعلى" الذي كان تجسيده، عنده، هو هتلر والنازية، ففي أغسطس 1938 كتب بدوي: "النازية هي أوج تلك الحركة العنصرية التي سَرَت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، والتي بفضلها يستطيع الألماني السيادة على جميع الشعوب الأخرى، لأن العنصر الجرماني هو أسمى العناصر وأرقى الأجناس".
كان الدكتور بدوي يرى أن خلاص مصر وبلوغها المجد لن يكون إلا على يد حزب مصر الفتاة[1]، وأن على كل الدول أن تبحث عن قائد كهتلر الذي يسجل له التاريخ إعجابًا لا حد له. كان بدوي يختار من النهضة الأوربية ما يدعم فكرته وإيمانه بالفرد الأعلى وبالنازية "كان لا بد للناس الممتازين أن يعلنوا الحرب على العامة والمجموع"[2]. ويسجل الدكتور مراد وهبة قصة طريفة عن أستاذه عبد الرحمن بدوي، ففي يوم 1 مايو عام 1945 دخل الدكتور بدوي إلى المحاضرة وهو يرتدي رابطة عنق سوداء. وعندما سأله طلابه عن السبب قال: لأني حزين على وفاة هتلر، والذي كان انتحر يوم 30 إبريل 1945.
فمن أين بدأت تلك الحكاية وكيف انتهت
"بالصدفة أتيت إلى هذا العالم، وبالصدفة سأغادر هذا العالم!.. وواهم من يظن أن ثم ترتيبًا، أو عناية أو غاية. إنما هي أسباب عارضة يدفع بعضها بعضا فتؤدي إلى إيجاد من يوجد، وإعدام من يعدم".
هكذا كتب عبد الرحمن بدوي في سيرته الذاتية. وُلد بدوي في حوالي الساعة الثانية من يوم 4 فبراير 1917، وهذا العام يكون قد مر قرن على ميلاد هذا الفيلسوف العربي الكبير. وكان الثامن من إخوته لأمه، والخامس عشر بين أبناء والده. ويحكي بدوي بفخر عن والده الذي كان له هذا العدد من الأولاد، فكان رجلًا "قوي الشخصية إلى أقصى حد، مرهف الذكاء، ذا حافظة جبارة، مستقيم السلوك والرأي، لا يتنقل من رأي إلى رأي حسب الظروف، ولا يناور ولا يداور".
وعلى نفس النهج كان أكثر ما ينتقده عبد الرحمن بدوي في سيرته الذاتية هو الخصال الرديئة عند الناس، والانتقال من رأي إلى رأي حسب الظروف، والمناورة والمداورة، والخداع والتفاهة وكلها أمور تتكرر بإسهاب وكَرَم منه في سيرته وكلامه حول العديد من الناس حوله. فهو يتهم عامل أحد الفنادق التي سكنها بأنه مخادع ومناور حين يقترح عليه أن يأخذ تاكسي إلى الجامعة التي لم تكن تبعد سوى أمتار قليلة. ويرى أن سارتر مجرد أديب تافه لا قيمة فلسفية له. وأن سعد زغلول كان عميلًا للبريطانيين، وطه حسين (الذي كان يعطف على الدكتور بدوي عطف الأستاذ على التلميذ النجيب) عميلًا للمباحث، وحتى أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة الذي كان عبد الرحمن بدوي عضوًا قياديًا فيه، قال عنه إنه كان عميلًا هو الآخر. وأن الإمام محمد عبده كان تابعًا ذليلا لكرومر. وأن مقالات زكي نجيب محمود يستطيع أي طالب في المرحلة الإعدادية أن يكتب مثلها. ويرى أن تلاميذه في مصر جميعا لا فائدة ولا رجاء منهم باستثناء أنيس منصور. أما عباس العقاد، فيحكي الدكتور بدوي في مذكراته التي كتبها في سن متقدمة، وبما يشبه الفخر أنه كان المحرض لزملائه في الحزب بالتعدي على العقاد بالضرب. وكان العقاد سنة 1939 يهاجم حزب مصر الفتاة "فلما كتب أول مقال تشاورنا في مصر الفتاة بماذا نرد. فرأي صبيح أن يكون ذلك بالرد القاسي في مجلة مصر الفتاة وكتب مقالًا بعنوان (العقاد جهول يريد أن يُعَلِّم الناس ما لم يعلم) فكتب العقاد مقالًا آخر أشد وأعنف. وكان من رأيي ـ أي رأي بدوي ـ أن العقاد يرحب بالمقالات فلا علاج له عن هذا الطريق، بل لا بد من استخدام العنف معه لأنه لا يردعه غير العنف. وأخذ برأيي اثنان من أعضاء الحزب، فتربصا بالعقاد وهو عائد الي بيته رقم 13 شارع سليم في مصر الجديدة، وانهالا عليه بالضرب والصفع والركل، وأفهماه أن هذا تأديب مبدئي له بسبب مقالين كتبهما ضد مصر الفتاة؛ فإن عاد فسوف عادا إليه بما هو أشد نكالًا. وأحدثت هذه العلقة أثرها الحاسم، فخرس العقاد خرسًا تامًا، ولم يعد إلي الكتابة ضد مصر الفتاة"[3].
كانت عائلة عبد الرحمن بدوي غنية من محافظة دمياط. التحق بمدرسة سيد أفندي في قريته، شرباص لمدة عامين، قبل أن ينتظم في مدرسة "فارسكور" الابتدائية عام 1924. حصل على شهادة اتمام الدراسة الابتدائية في عام 1929، ثم التحق بالمدرسة السعيدية الثانوية في الجيزة. في هذه المرحلة بدء بدوي يكتب الشعر ويهتم بقراءة الأدب الإنجليزي، خاصة أشعار جون مليتون، وشيللي، وبايرون.
في عام 1932 بدأت علاقته بالأدب الألماني وكان ذلك بعد حضوره لاحتفال بالذكرى المئوية الأولى للشاعر الألماني جوته، تعلم عبد الرحمن بدوي الألمانية من خلال حضوره دروسًا ليلية في مدرسة راهبات القديس شارك بورومييه. في يونيو 1934 حصل على البكالوريا "الثانوية العامة"، وأصر على الالتحاق بكلية الآداب، رغم أن والده الذي كان يريد له أن في يدرس في كلية الحقوق، وكانت هي الكلية المفضلة لدى أبناء الطبقة الغنية في هذا الوقت.
في مايو 1938 حصل بدوي على ليسانس الآداب من قسم الفلسفة وتم تعيينه معيدًاً. وفي نوفمبر 1941 حصل على الماجستير بتقدير ممتاز في أطروحته "مشكلة الموت في الفلسفة الوجودية". وناقشه فيها الدكاترة: طه حسين، وإبراهيم مدكور، والشيخ مصطفى عبد الرازق، وهنا قال طه حسين إنه أصبح لمصر فيلسوفًا. وفي مايو 1944 حصل بدوي على درجة الدكتوراه في الآداب بتقدير جيد جدًا، عن موضوع "الزمان الوجودي".
عمل أستاذًاً في عدة جامعات عربية وأوروبية. وأسس أقسام الفلسفة في عدة جامعات عربية. وفي سبتمبر 1950 انتقل من كلية الآداب جامعة القاهرة "جامعة فؤاد الأول سابقا"، إلى كلية الآداب جامعة عين شمس "إبراهيم باشا سابقا"، ليؤسس قسم الفلسفة وتولى فيها رئاسته، وفي يناير 1959 أصبح أستاذ كرسي. وفي مارس 1956 عُيِّن مستشارًا ثقافيًا ورئيسًا للبعثة التعلىمية المصرية في بايرن بسويسرا، واستمر في منصبه حتى نوفمبر 1958. سافر إلى فرنسا عام 1962 بعد أن صادرت الحكومة المصرية في هذا الوقت أملاك عائلته.
ظل بدوي عازبًا حتى آخر لحظة في حياته، ولم تُذكَر عنه قصة ارتباط، وكان يقول إن هذا لو حدث فلن يكون بامرأة مصرية ولا عربية، ولو قُدّر له الزواج فلن يتزوج إلا بفتاة أوروبية، وتحديدًا ألمانية، مكتفيًا بالتفرغ لـ "همومي الفكرية والفلسفية". ولكن هناك حكاية وحيدة يرويها عنه المفكر فؤاد زكريا، وكانت قصة حب وحيدة لم تستمر، وكانت فتاة ألمانية "من أسمى العناصر وأرقى الأجناس".
وأخيرًا وبعد حياة حافلة وثرية وقلقة، سقط الدكتور مغشيًا عليه في أحد الأيام بشارع من شوارع باريس. اتصل طبيب فرنسي بالسفارة المصرية وعاد بعدها عبد الرحمن بدوي إلى مصر مريضًا، كان ذلك قبل أربعة أشهر من وفاته، فقد توفي في مستشفى معهد ناصر في القاهرة يوم 25 يوليو/تموز 2002 عن عمر يناهز الـ85 عامًا.
[1] حزب مصر الفتاة هو حزب وحركة سياسية قومية مصرية في الثلاثينيات بقيادة أحمد حسين وتحول لحزب فيما بعد. وظهر بتأثير ظهور أحزاب مشابهة له في أوروبا، ومنها الحزب النازي في ألمانيا بقيادة هتلر، والحزب الفاشي في ايطاليا بقيادة موسوليني، وحزب الكتائب في أسبانيا بقيادة فرانكو . وكان بدوي عضوا في هذ الحزب في الفترة من 1938 وحتى 1940، وكان رئيسا لمكتب الشئون الخارجية بالحزب، ويحرر المقالات السياسية بجريدته التي كانت تصدر في هذا الوقت.
عبد الرحمن بدوي، نيتشه، مكتبة النهضة العربية، صـ 135. [2]
[3] عبد الرحمن بدوي، سيرة حياة، الجزء الأول، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، صـ 133.