تمتد قائمة أعمال عبد الرحمن بدوي (1917 – 2002)، لتصل إلى 150 عملًا بين مُؤَلَّف ومُتَرجَم ومُحَقَّق، ومن بين اللغات التي ترجم منها ونشر بها الإسبانية والفرنسية والألمانية والإيطالية، بالإضافة إلى الإنجليزية واليونانية ومع اهتمامه بالفلسفة وتخصصه فيها إلا أنه يُعتَبَر صاحب مشروع هام في مجال الترجمة بوصفها أداة لنقل الثقافة فاختار من بين كل لغة من هذه اللغات أبرز وأهم الأعمال التي تُعَد بالفعل خلاصة فكرها لتكون لبنة في بناء مشروع ثقافي عربي نهضوي، خلال فترة مهمة من تاريخنا مع بداية حقبة التحرر الوطني من الاستعمار، إلا أن هذا المشروع وفكر عبد الرحمن بدوي بصفة عامة واجه الكثير من المشكلات بلغت في بعض الأحيان لاتهامه بالكفر والإلحاد من بعض المتشددين، فيما اتهمه المثقفون بالميل إلى التغريب وفرض نموذج غربي على النمط الثقافي العربي[1].
ومع ذلك ، فمن متابعة ترجمات عبد الرحمن بدوي في علاقتها بتكوينه الثقافي، وتعدد اللغات التي أتقنها، ومواقفه الفكرية والفلسفية، وطبيعة الرؤية المنهجية المتحكمة فيها، ونوع علاقة النصوص المترجمة بأصولها، ودرجات الأثر الفكري والثقافي الذي حققته في الحياة الأكاديمية والعلمية والاجتماعية والسياسية، يمكن اعتبار المفكر والفيلسوف المصري بحق رائدًا من رواد الترجمة والثقافة في العصر الحديث[2].
ومن ثم تجدر الإشارة إلى أنه في مجال الترجمة فقد تعددت اتجاهاته بين الفلسفة والاستشراق والرواية والشعر والمسرح والتاريخ، كذلك التحقيق الذي يُعَد بحق من أجل أعماله، حيث عادة ما تكون هذه التحقيقات مصحوبة بمقدمة بدراسة وافية توضح اطلاعه الواضح على شتى مجالات العلوم الانسانية وتاريخ الفلسفة وانجاز الثقافات المعاصرة شرقًا وغربًا.
كما يعتبر عبد الرحمن بدوي أحد أبرز المفكرين العرب المعاصرين الذين أنتجوا مشروعًا علميًا كبيرًا جعل من الترجمة مدخلًا لتحقيق المثاقفة بين العرب والغرب، وقد تجسد هذا المشروع في كم الترجمات الأدبية والفكرية والفلسفية التي نَقَل فيها أمهات الكتب وكبريات النظريات العالمية سواء في اللغات القديمة كاليونانية واللاتينية، أو اللغات الحية كالإنجليزية والألمانية والفرنسية، وذاع بفضلها صيته منذ منتصف القرن العشرين في ربوع العالم العربي الإسلامي، بل وحتى العالم الغربي. وقد تعامل بدوي مع الترجمة بوصفها أداة لترسيخ تصور في الحياة والثقافة والفكر يؤمن بضرورة مواكبة علوم الآخر والتفاعل معها، معتبرًا أنها الوسيلة الوحيدة لأي نهضة علمية وتقدم حضاري، مؤكدًا سواء بصورة مباشرة من خلال كتاباته أو غير مباشرة من خلال اختياره للأعمال التي أقدم على ترجمتها على أن التقوقع على الذات والانغلاق ورفض التفاعل مع الآخر والتوقف عن مواكبة مستجدات العصر هو أحد أهم أسباب التخلف الفكري والحضاري، كما كان ينبه على أن الترجمة في ذاتها لا قيمة لها ولا يمكنها أن تسهم في تحقيق الآثار المطلوبة إذا لم تصبح أداة للتفاعل والتثاقف بين الأمم، وإذا ما اقتصرت على نقل نصوص غير ذات قيمة كبيرة، أو أساءت فهمها وشوهت مضامينها ونظرياتها العلمية، مثلما حدث في الترجمات العربية القديمة للفلسفة اليونانية، وكما يحدث في كثير من الترجمات الحديثة للاتجاهات والفلسفات الحديثة، التي اضطر إلى إعادة ترجمتها وكشف حقيقة تصوراتها وأسسها.
يستنتج المتابع لمنجز "المفكر والفيلسوف العربي الأول" في العصر الحديث عبد الرحمن بدوي، بحسب وصف طه حسين له أنه كان حريصًا في أعماله الترجمية على اتباع منهج دقيق، يتجاوز الهفوات التي تحول دون الإفادة من تراث الغير وحسن التفاعل معه، عبر اختيار نصوص وأعمال مميزة تفي بتحقيق مسعاه بالتأثير في النفس والوجدان والعقل، وتمكن من تغيير نظرتها للعالم والأشياء والطبيعة والسياسة والثقافة. ومن هنا تبنى بدوي منهجًا اعتمد على ثلاثة محاور: الأول عرض الفكر الأوروبي الحديث على القاريء العربي؛ والثاني إعادة ترجمة الفكر الفلسفي اليوناني القديم وتحقيق نصوصه في التراث العربي الإسلامي؛ والثالث الجمع بين الاتجاهين السابقين عبر نوع آخر من الكتابة تستثمر الترجمة وتوظفها لكن في كتابات مبتكرة وخاصة.
كان هدف مشروع بدوي الترجمي في مجمله إحداث ثورة روحية في الفكر العربي الحديث، من خلال إطلاع القاريء العربي على جديد النتاج العلمي والمعرفي عند الغرب، وإقناعه بأن التخلص من العناصر التي أدت إلى تأخر العقل العربي الإسلامي وعجزه عن متابعة تطور الفكر الإنساني منذ القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، إنما يكون باستفادته من ذلك النتاج واستيعابه، والأخذ بقيمه ذات الأساس العقلي الإنساني العام. ولذلك يُلاحَظ أنه عاد إلى التراث اليوناني فترجم نصوصه من جديد، وحقق الترجمات العربية القديمة له، لأنها تمثل أساسًا قويمًا من الأسس التي قامت عليها النهضة الأوروبية الحديثة، وتعتبر مدخلًا رئيسًا لفهم أسباب نهضة الفكر الإسلامي في القرن الثالث الهجري، التاسع الميلادي.
أهداف الترجمة
لم يكتف بدوي بالترجمة البحتة لتحقيق هدفه بل دافع عنه ووضحه من خلال مقدمات مؤلفاته المترجمة، وتعليقاته على الأفكار والتصورات الغربية المعروضة في ثنايا مؤلفاته المبتكرة التي قَدَّم من خلالها قراءة نقدية لتاريخ الترجمة عند العرب منذ بواكير ظهورها وإلى العصر الحديث، باسطًا فيها تصوره للأسس النظرية والمنهجية والتطبيقية التي يجدر أن تقوم عليها الترجمة، والتي تُعتَبَر بحق نظرية دقيقة في الترجمة ومُنجَزًا منهجيًا دقيقًا وهامًا لا يقف عند حدود عرض الأسس والمرتكزات والخطوات المنهجية الواجب اتباعها، بل يزيد على ذلك بتقييم الأعمال المترجمة عند العرب منذ القرن الثالث للهجرة وإلى عصره، لإبراز نقاطها المضيئة، وكشف عناصر ضعفها التي حالت دون تحقيق المبتغى الحضاري والثقافي من الترجمة.
في هذا السياق، راجع بدوي الترجمات العربية القديمة للفلسفة اليونانية عامة والشعرية الأرسطية خاصة، مُبرِزًا أن العائق الذي حال دون أن تُحدِث تأثيرًا عميقًا في الفكر العربي الإسلامي قديمًا، لا سيما بالنسبة إلى شعرية أرسطو، يرجع إلى اعتماد أصحابها كليًا على وسيط غير عربي، واكتفائهم بقراءته الثقافية الخاصة، دون أن يكلفوا أنفسهم بالعودة إلى الأصول، والنقل المباشر منها، الأمر الذي فَوَّت على الثقافة العربية الاستفادة من فلسفة أرسطو وحسن التأثر بالتصورات والمفاهيم الهامة والدقيقة فيها، هذا فضلًا عن أن كل ذلك المُنجَز الترجمي قرأ النصوص المترجمة قراءة تجزيئية، فلم يربطها بالأنساق الفكرية والسياقات المعرفية والمنهجية الموجهة لكل واحد منها.
وسعيًا إلى تدارك ما غاب عن المترجمين قديمًا، وحرصًا على بيان أن الترجمة تظل دون أي قيمة تُذكَر، ما لم يربط المترجم النص بسياقه المعرفي والحضاري ويقرؤه قراءة تفاعلية، وهو ما يعتبر مبدأ من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الترجمة في تصوره، أعاد عبد الرحمن بدوي ترجمة التراث الفلسفي اليوناني، ولا سيما الفلسفة الأرسطية، من الأصول والمخطوطات اليونانية الأم إلى اللغة العربية مُخرِجًا الفلسفة اليونانية القديمة في مظهر عملي يتجاوز مواطن القصور والخلل، ومُنَبِّهًا على طبيعة المنهج العلمي الواجب اتباعه في إخراج نصوصها وترجمتها لكي تحقق الغاية العلمية والحضارية المرجوة منها.
أسهم هذ المنهج أيضا في إنقاذ نصوص كثيرة من الضياع، مثل الحجة الأولى لبرقليس في قدم العالم وعشرات من رسائل الإسكندر الأفروديسي، كما مَكَّنَت من تقويم كثير من التحريفات الموجودة في المخطوطات الأم. بل إن ذلك أفاد الغربيين أنفسهم في تصحيح كثير من أفكارهم وأحكامهم حول تراثهم اليوناني القديم، وقادهم إلى الاطلاع –عبر الترجمة العربية التي أنجزها عبد الرحمن بدوي- على عديد النصوص التي ضاعت في لغتها الأصلية، ولم يعد ثمة سبيل للوصول إليها.
كما تبرز قيمة المُنجَز الترجمي لعبد الرحمن بدوي في كونه أثرى الفكر النقدي والفلسفي الحديث، سواء عند العرب أو عند الغرب، من خلال العديد من الدراسات الأكاديمية والأبحاث العلمية التي تمكنت من خلال الاعتماد على أعماله من قراءة تاريخ المعرفة البشرية، عند اليونان أو العرب قديمًا وعند الغرب حديثًا، وهي دراسات وأبحاث أغنت المكتبات الجامعية والخزانات العامة، وانتهت نتيجة جهوده الترجمية الرائدة إلى العديد من الكشوفات العلمية الكبيرة والهامة.
ولم يقتصر تأثير ترجماته على هذا الجانب، بل امتد إلى ميادين الأدب والسياسة والفكر والاقتصاد، وهو ما يتبدى من الأثر الفعال والكبير الذي مارسته ترجماته الأولى لنيتشه وغيره من فلاسفة ومبدعي أوربا على نخبة المثقفين والساسة المصريين، الذين تشبعوا بالقيم التي حملتها شخصياتهم ودعت إليها وتأثروا بها نفسيًا ووجدانيًا وفكريًا فسعوا كما تدل على ذلك شهادات وتصريحات العديد منهم إلى الاقتداء بها، والاهتداء بتعاليمها في عديد الأنشطة الاجتماعية والسياسية والحركات الثورية التي قاموا بها.
بدوي مترجم "دون كيخوته"
يشار إلى أن من أكثر الانتقادات مبالغة التي وُجهَت للفيلسوف والمفكر الكبير اتهامه بأن "معظم أعمال بدوي عبارة عن ترجمات". وهو اتهام متهافت تمامًا، ولو كان بدوي لم يترجم إلا ديوان شاعر ألمانيا العظيم جوته "الديوان الشرقي للكاتب الغربي"، لكان هذا سببًا كافيًا لتكريمه واحترامه وتخليده، فما بالك ببقية أعماله؟
أما عن الانتقادات التي تحمل جانبًا علميًا في تحليلها، فيشير صلاح نيازي في كتابه "من تقنيات التأليف والترجمة"، المنشور عرض له في عدد الثالث من أبريل 2016، بصحيفة الشرق الأوسط، أن عبد الرحمن بدوي في ترجمته عن الألمانية لبعض أعمال الشاعر الوجودي هيلدرلن، إلى أن "الأخطاء التي ارتكبها بدوي أكثر من أن تعد أو تحصى، لأنه لم يلم باستعماله للأفعال في القصيدة الموضوعية، كما لم يلتفت إلى المنظور الزمكاني، ولم يُعن بالرموز التي تحفل بها القصيدة، فلا غرابة إذن أن يحتشد النص بسوء الفهم والإخفاق المتواصل في ترجمة صوره شعرية".
أما عن ترجمته لروائع التراث الإسباني، فقد ترجم، بخلاف تحقيقه ودراسته لأعمال ابن رشد وابن عربي وأبو حيان التوحيدي وغيرها، من الأدب، عدة مسرحياة لشاعر إسبانيا العظيم لوركا، منها "إيرما" و"عرس الدم"، كما ترجم رائعة ميجل دي ثربانتيس "دون كيخوته"، وهي ليست الترجمة الأولى التي تقدم للمكتبة العربية، فقد سبقه إليها الدكتور عبد العزيز الأهواني، والذي بسبب مشاكل مع الرقابة، أحجم عن إصدار الجزء الثاني منها بعد أن أصدر جزءها الأول، بحسب تأكيد د. طلعت شاهين. ولكن فيما يبدو أنه، حتى مع نقل الأهواني أو بدوي العمل عن الإسبانية، إلا أن المسمى الأكثر شيوعًا في الثقافة العربية حتى متصف القرن العشرين كان "دون كيشوت" وفقا للصيغة الفرنسية، لأسباب لا يُسأَل عنها أيًا من بدوي أو الأهواني، علما بأن المسمى الأصلي "كيخوته" أيسر نطقًا على اللغة العربية حيث تتشارك مع الإسبانية حرف الخاء.
وفي مواجهة الرأي الذي يقول بأن ترجمتي الأهواني وبدوي كانا عن لغة وسيطة، يؤكد الدكتور والشاعر المصري المقيم في مدريد، أحمد يماني أن هناك أدلة قوية على إنجاز عبد الرحمن بدوي والأهواني ترجمتهما للكيخوته عن الإسبانية مباشرة، من بينها النقل الدقيق لجميع أسماء الأعلام والأماكن بالتطابق مع قواعد الإسبانية، وأن الترجمات المصرية ليست مسئولة عن ذيوع مسمى "دون كيشوت"، المنقول عن الفرنسية في العالم العربي. حتى أن الترجمة التي أنجزها المغربي التهامي الوزاني في أربعينيات القرن الماضي، ولم يكتمل نشرها بسبب الأحدث السياسية في المغرب، تناولت بطل ثرفانتيس على أنه "ضون كيخوتة"[3].
المتتبع للترجمات العربية للرواية يجد أن أقدمها حتى الآن صدرت في الجزائر عام 1898 عن اللغة الفرنسية وكانت ترجمة غير مكتملة، كما صدرت في القاهرة سنة 1923 عن المطبعة السلفية ترجمة موجزة لها عن الفرنسية أيضا بقلم العراقي عبد القادر رشيد[4]، وربما بسبب ذلك ومع عدم وجود اهتمام حقيقي بالثقافة الإسبانية والمشتركات القائمة بينها وبين العربية، استمر مترسخا في العقل الجمعي العربي اسم بطل رواية ثرفانتيس بمنطوقه الفرنسي.
تجدر الإشارة إلى أن ترجمة دون كيخوتة كاملة إلى اللغة العربية جاءت متأخرة مقارنة بغيرها من اللغات الأخرى، أخذًا في الاعتبار مكانة العمل في الأدب العالمي التي ترجمت اليها أشهر أعمال ثربانتيس، فكانت أولى الترجمات لعبد العزيز الأهواني عام 1957، ثم ترجمة عبد الرحمن بدوي 1965 لينتهي القرن دون إقبال على العمل لتظهر بعد ذلك ترجمة سليمان العطار في القاهرة عام 2002 ثم ترجمة رفعت عطفة في دمشق عام 2006.
يقول د. إمام عبد الفتاح امام أن الدكتور عبد الرحمن بدوي يعتبر جامعة متنقلة على حد وصف د. زكي نجيب محمود، ويأسف لأنه لم يُقَدَّر في بلاده أثناء حياته رغم أنه أثرى الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي، ليس فقط بمؤلفاته ولكن بترجماته أيضًا. ويتعجب د. إمام عبد الفتاح من كم الأعداء الذين ترصدوا للدكتور بدوي، ويتهمهم بأنهم كانوا يبحثون عن مثالبه وعيوبه قبل أن يبحثوا في إسهامه، فقالوا إنه نَقَل عن الثقافة الغربية، وبالنظر إلى إنتاجه الأخير فإن كتابًا مثل «دفاع عن القرآن» يعتبر عملًا رائعًا بكل المعايير إذ يبدأه بعرض لتاريخ الانتقادات التي وُجهَت الى القرآن، ثم يرد عليها ردودًا علمية ومنطقية وعقلانية لأنه كان يعرف أنه يتوجه إلى ثقافة خاصة، تعتمد على المنطق والاستدلال.
بدوره يقول د. عبد المنعم تليمة: "د. بدوي ظاهرة متفردة في الثقافة العربية الحديثة، ويأتي تفرده بين الرواد الموسوعيين لجمعه وإلمامه التام بين الثقافتين العربية والغربية دون أن تغلب إحداها على الأخرى في كل كتاباته[5].
[1] عبد الرحمن بدوي والثقافة العربية المعاصرة، عدي حسن مزعل، موسوعة مصر المدنية
يوسف الإدريسي، الترجمة والمثاقفة : عبد الرحمن بدوي أنموذجا - ملخص المشاركة في المؤتمر الدولي المنعقد بالدوحة يومي 12-13 يناير 2016[2]
[3] "ضون كيخوطي في الريف: مشروع ترجمة بتطوان في ظل الحماية الإسبانية"، 2006 رودريجيث سييرا، جامعة عبد المالك السعدي، تطوان
[4] "أول عيد للكتاب العربي ولد منذ 65 سنة في ذكرى وفاة ثيرفانتس"، إبراهيم الخطيب، صحيفة الشرق الأوسط، 15 مايو 2005
[5] صحيفة الشرق الأوسط، 2 أغسطس 2002، محمد أبو المجد " عبد الرحمن بدوي.. فيلسوف توارى وراء الترجمة؟"