حين وصلتها هذه المرة، لم تكن العاصمة التايلاندية، بانكوك، كما عرفتها من قبل. المدينة المعروفة بحياة الليل والسعادة والمتعة، متشحة الآن بالسواد فعليًا. ملابس الغالبية العظمى من المواطنين سوداء، أوشحة سوداء تلف كافة شوارع بانكوك، حتى فتيات الليل اللاتي يقفن على أبواب محلات المساج ذات الاستخدام الآخر، اختفين بشكل كبير. ما ساهم في تفسير اللغز بعض الشيء، كانت صور الملك الراحل، بوميبول أدولياديج، الذي توفي في منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2016، عن عمر يناهز 89 عامًا، محاطة بالورود في كل مكان.
لم يسمح سواد الليل باكتشاف المزيد، فالأمر يبدو حتى الآن، وكأنه حالة حزن رسمي ولنقل أيضًا شعبي على وفاة الملك، الذي تربع على عرش البلاد لمدة 70 عامًا. قضيت ليلتي الأولى في منطقة خاو سان، وهي بالمناسبة منطقة جاذبة للرحالة الذين تستهويهم مغامرة اكتشاف العالم عبر رحلات اقتصادية رخيصة. كانت رحلة الطيران مرهقة بعض الشيء، إلا أنني استيقظت في الثامنة صباحًا، لأبدأ مهمتي في اكتشاف هذه الدولة المثيرة.
طبيعي جدًا كأجنبي أن يستوقفك أحد الأشخاص، الذين قد يكونوا يعملون لدى الشركات السياحية لعرض برامجهم عليك، أو سائق تاكسي يعرض عليك خدماته، أو غير ذلك، حدث الأمر معي في أول صباح لي في البلاد، إلا أن أحدهم كان مصرًا على الاسترسال في الحديث، واقتراح أماكن لزيارتها، قد يكون هذا عمله الذي يكسب منه قوت يومه، أما أن يقول لي إن الزيارة مجانية والتوك توك مجاني، فقد كان الأمر كفيلًا بحزم أمري بالذهاب فورًا، بالتأكيد أقف أمام شخص محتال وليس عاملًا يبحث عن رزقه.
سألته كي أنهي الحديث معه وأذهب: طالما كل شيء مجاني، فلماذا لا تعطيني هذه الخريطة التي معك مجانًا؟، فرد قائلًا إنه ليس معه نسخة أخرى، إلا أنه طلب مني الانتظار قليلًا، ثم ذهب لشرطي، ودخل مكتب الشرطة الواقع على رأس شارع خوا سان، ليخرج بخريطة أخرى، يبدو من سوء جودة ورقها أنها اُستخدمت كثيرًا من قبل. أعطاها للشرطي الذي منحني إياها بدوره، ثم سألني من أي بلد، وبدأ في تخطيط برنامج سياحي ليومي الأول في بانكوك، على الخريطة، ثم قال لي، يمكنك ركوب أي توك توك أو أتوبيس مجانًا!
هل يمكن أن تكون تايلاند بهذا القدر من السوء الذي تتعاون فيه الشرطة مع المحتالين للنصب على الأجانب، قلت في نفسي، ويبدو أن الشرطي لاحظ أن ثمة شكوك تدور في رأسي، فطلب مني التحرك معه، وأوقف سائق توك توك، ومنحه الخريطة وعليها البرنامج السياحي الذي أعده بنفسه، ثم كتب لي اسمه ورقم تليفونه، وقال لي قبل أن يغادر هو وأتحرك أنا بالتوك توك، لا تدفع شيئًا، الرحلة كلها مجانية.
في الطريق لمعبد إنثراويهان، سألت سائق التوك التوك، الذي لم يكن يرتدي قميصًا أسودًا، وإنما وضع شارة سوداء على كتفه حدادًا على أدولياديج، عن سر عمله هو والأتوبيسات مجانًا، ليخبرني أن الأمر حدادًا على ملك البلاد الذي رحل الشهر الماضي، مشيرًا إلى اللون الأسود الذي تتشح به عاصمة بأكملها. وصلنا وجهتنا الأولى، ثم سألته كم من الوقت يمكنك أن تنتظر، فأجابني: حتى تنتهي من جولتك.
معبد إنثراويهان هو أحد المعابد البوذية المنتشرة في كل مكان في تايلاند، حيث تصل نسبة المؤمنين بالبوذية من بين الشعب التايلاندي إلى حوالي 95%، إلا أن دستور البلاد يضمن بأن تكون تايلاند دولة لكل مواطنيها، بعدم نصه على دين معين للدولة.
بعد وفاة الملك بوميبول أدولياديج، أعلنت تايلاند حدادًا رسميًا لمدة عام، إلا أنها فرضت إجراءات حداد خاصة بالشهر الأول، من بينها مواصلات مجانية، ووقف بث برامج التلفزيون العادية، والاكتفاء ببرامج وصور وأفلام وثائقية وتسجيلية عن سيرة حياة الملك الراحل، وكذلك الأسرة المالكة، وكذلك وقف "الأنشطة الترفيهية" أو تقليصها، وأيضًا ارتداء المواطنين الملابس السوداء، التي كادت أن تنفذ من الأسواق، وارتفع سعرها، فاضطرت الحكومة للتدخل عبر السماح لغير القادرين بالاكتفاء بوضع شارة سوداء على الملابس، وتسيير دوريات لمراقبة سعر الملابس السوداء في الأسواق.
حاولت ولو قليلًا الخروج من هذا الجو الجنائزي لبرنامج رحلتي. يقولون إنك لم تزر إذا لم يكن ضمن جدول رحلتك زيارة القصر الملكي الكبير، وهو أحد أهم المعالم السياحية والأثرية في العاصمة التايلاندية،والمقر الرسمي لملوك تايلاند منذ القرن التاسع عشر. والقصر الكبير، الذي يعد تحفة فنية رائعة، هو عبارة عن مجمع من المباني المختلفة، غير متاح دخولها جميعًا، بل وقد يكون مغلقًا أمام الأجانب في بعض المناسبات الطارئة، كما حدث معي، وهكذا قررت أن أخرج من الجو الجنائزي فإذ بي أمام الجنازة نفسها.
في طريقي إلى القصر الكبير، فوجئت بطوفان بشري متشح باللون الأسود، طوابير طويلة جدًا تنتظر دورها لإلقاء نظرة الوداع على رفات الملك الراحل، قبل أن يخرجون مرة أخرى في مشهد رهيب، استمر طوال أكتوبر الماضي، قبل أن ينتهي حداد الشهر الأول بإجراءاته التقييدية في 14 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي.
الشرطة والجيش التايلانديين، من جانبهما، أغلقا الشوارع المحيطة بالمكان أمام حركة السيارات، فيما كان آلاف المواطنين يصطفون حوله، كان من بين المواطنين من حضروا وفودًا من مدارس وجامعات وهيئات أخرى، الجميع يحمل الورود وصور الملك الراحل، الذي كان يتم توزيعها على المارة، الذين كنت أحدهم، في هذا المكان، كانت روح إحدى العادات والتقاليد المصرية حاضرة، "الرحمة والنور"، هكذا نطلق في مصر على طعام يخرجه أهل المتوفي، لتزيد من حسناته وتدخله الجنة.
إلى جانب صورة كبيرة للملك الراحل محاطة بالورود، يسجد أمامها عدد من التايلانديين، انتصبت خيام توزع الطعام على المواطنين، من أنواع مختلفة، بل دعني أقول لك من كل أصناف المطبخ التايلاندي، وكذلك توزع المياه المعدنية، والعصائر والفاكهة، والحقيقة أنني كان لي نصيب من "الرحمة والنور" الموزعة على روح الملك السابق، فقد حان وقت الغداء، ولا توجد أي سيارات تنقلني لأي مطعم قريب.
في مناطق عدة أيضًا وإلى جانب هذه الخيام، وضعت مجلدات ليكتب فيها المواطنين كلمة أخيرة لملكهم الراحل، كما نصبت خيام أخرى في المعابد والحدائق العامة، لعقد ندوات مع المواطنين والحديث عن تاريخ ملكهم الراحل، كما ألغيت عدة احتفالات هامة مثل المهرجان الكبير بمناسبة عيد المياه في تشانج ماي شمال البلاد، والاحتفال باكتمال القمر في جزيرة فانج، وهو احتفال يلقى اهتمام كبير بين السياح الشبان الذين يزورون تايلاند.
الجيش التايلاندي كان هو الآخر حاضرًا في المشهد وبقوة، ليس فقط في تأمين الحضور والقصر الملكي الكبير، وإنما في توزيع الطعام والمشروبات، سلاح البحرية الملكية التايلاندية على سبيل المثال، أقام قبالة القصر الملكي الكبير عدة خيام، تقدم العديد من الخدمات للمواطنين مجانًا، مثل حلق الشعر، وخدمات طبية، وكذلك توزيع أنواع متعددة من الأطعمة والمشروبات، ومن بينها شراب الورد، المعروف في مصر بالشربات، والذي يوزع في بلادنا عادة تعبيرًا عن الفرحة.
شهر بالتمام والكمال، عاشت تايلاند تحت قيود الحزن والحداد وتقليص الترفيه ومنع الليالي الصاخبة، قبل أن تستعيد وجهها الطبيعي بألوانه المبهجة وموسيقاه الصاخبة، إلا أن الأمر قد لا يعني للكثيرين من الفقراء الذين عاشوا طوال الفترة الماضية بطعام وشراب مجاني على روح الملك الراحل، وهذا بالضبط ما كنت أفكر فيه قبل أن أسأل سائق الأتوبيس، الذي كنت أستقله من على مقربة للقصر الملكي الكبير متجهًا إلى خاو سان، عن الأجرة، ليرد قائلًا: الركوب مجانًا.