في ساعة مبكرة من صباح اليوم، خرجت عبير فتحي، إلى شارع رمسيس، الذي اكتنفه الهدوء- على غير العادة- بسبب إجازة المولد النبوي، في مشوار قصير، تلقت خلاله مكالمة هاتفية من شقيقتها، تحذرها من المرور بمحيط الكاتدرائية المرقسية، بسبب تفجير وقع هناك.
وقع الأمر وانتهى في ثانية وربما أقل، كان صوت مدوٍ لشيء غير مفهوم، قطع سكينة قداس الأحد، ونثر أشلاء حضوره وأجرى دمائهم، تمامًا كما نثر ركام قرميد وزجاج الكنيسة البطرسية إلى منتصف شارع رمسيس.
أقل من ساعة، واستسلمت الكنيسة، التي تبلغ من العمر خمسة أعوام بعد المائة، إلى ضجيج سيارات الإسعاف والشرطة، واستقبل حرمها غرباء دخلوها بأسئلتهم، لدواعي التأمين والتحقيقات والتغطيات الإعلامية.
ترانيم واتهامات
على بعد يقدّر بالأمتار خارج سور الكنيسة، ويعد زمنًا بحوالي الساعة، وقف شاب عشريني، كان بهدوئه تفصيلة مُقحمة على مشاهد الغضب والجزع والضجيج، يرفض تبادل الحديث مع أحد، يجول بعينيه- التي تحبس دموعًا- بين السماء والحشود المسيحية، بينما يهمس بترانيم، خانه صوته في بعضها؛ علا وارتفع فسُمع يقول "لا تخف أيها القطيع الصغير، لأن آباكم ُسرّ أن يعطيكم الملكوت".
لا يردد الشاب إلا الترانيم والصلوات، لم ينخرط حتى مع المحيطين به، في محاولاتهم العبثية مع الأمن لدخول مقر الكنيسة، بحثًا عن ذويهم أو أشلائهم، دقائق معدودة تلك التي استند فيها إلى سور الكنيسة، قبل أن يتحرك ويذوب في الزحام. وبعد أقل من الساعة، حذت الجموع حذو الشاب، كأنما انتقلت الترانيم والصلوات من شفتيه إليهم، رددوا بصوت رخيم منتظم "كيرياليسون، كيرياليسون".
عبارات أخرى التقطت منها الآذان اسم السيدة، العذراء مريم، لكن سرعان ما تقاطعت سكينة الصلوات مع غضب الهتافات "يا أبو دبورة ونسر وكاب، أنت اللي صنعت الإرهاب"، و"سيسي بيه يا سيسي بيه، الكنيسة اتضربت ليه"، و"كنتي فين يا داخلية، لما ضربوا البطرسية".
لكن، كان المؤمنون بالنظام أيضًا موجودن هناك، يتجادلون مع كل من يهتف ضد الرئيس أو الحكومة، أو يحملهم المسؤولية، كما حضر الدبلوماسيون الذين يتحدثون عن "الإيد الواحدة والشعب الواحد"، جنبًا إلى جنب مع من نادوا بإعدام "الإرهابيين".
تحلى الشاب المسيحي مردد الترانيم بهدوء، لم يُصب قسطًا منه سيدة مسيحية في عقدها الخامس تقريبًا، وقفت في تفريعة صغيرة خلف الكردون الأمني المصطف على جانب شارع رمسيس، ومن مكانها أطلقت العنان للانفعال والغضب، الذي بدا في عبارات كان منها "ربنا كبير، اللي مايقدرش عليه البشر يقدر عليه ربنا، واحنا واثقين إن ربنا هيجيب حق الناس دي وكل نقطة دم نزلت. مش خايفين من حد، الجسد للتراب هيرجع، والروح راحت للي خلقها".
وعلى العكس من المحتجين الغاضبين من الرئيس والحكومة، لم تلق السيدة باللوم على النظام، بل مدحت رأسه "ربنا بعتلنا رئيس إنسان بني آدم فوق ما أي حد يتخيله"، وسرعان ما تعاودها نوبة الغضب ضد الفاعل "احنا ماعملناش حاجة، مأذنبناش إن احنا بنصلي، ييجوا يموتونا كده، في شرع مين ده؟ البلاط متخلّع والقنبلة فرقعت والقسيس اتبهدل، أشلاء جوه.يرضي مين ده؟ ماكنش بيقول حاجة وحشة، دوروا على الوحشين، رايحين تموتوا الناس اللي بتصلي".
@Almanassa_AR @almanassabot الغضب يسود بين المتواجدين أمام الكاتدرائية pic.twitter.com/CnyBTCxyEN
— Safaa Sorour (@safaasorour) December 11, 2016
تصارع السيدة عدو خفي، تطلق ضده العبارات الحادة، وعلى مقربة منها يصيح الرجل في الشباب المحيطين به، ويطالبهم بالتبرع بالدم، بينما افترشت الرصيف خلفه مسنتان محجبتان، لم تتوقفا عن المطالبة بالإعدام "للي جوه واللي برّه" في إشارة لأعضاء وأنصار جماعة الإخوان، متعهدتين بدعم الجيش في هذا الأمر تحديدًا.
في الملكوت
وسط الجموع، وعلى غير هدى، تسير عجوز أخرىبجلباب أسود، تبكي وتحدث نفسها بصوت مسموع "يا بختهم، ياريتني كنت معاهم. في الملكوت، هما دلوقتي في الملكوت"، وعلى بعد أمتار منها، وقف وجيه مكاري، هادئًا متماسكًا، إلى أن تحدث عن الضحايا وأعدادهم، إذ تحول إلى الغضب واتهام الأجهزة الأمنية بالكذب "وزارة الصحة كدابة، والتليفزيون كداب، ييجي يشوف الجثث".
على مسافات متقاربة بمحيط الكاتدرئية والكنيسة، وقف جنود الأمن المركزي متأهبين لأي محاولات "شغب"، خاصة بعد التعدي على 3 إعلاميين "ريهام سعيد، وأحمد موسى، ولميس الحديدي"، ومع تزايد حدة الهتافات الغاضبة.. يردد الجموع "وحياة دمك يا شهيد، نلبس اسود يوم العيد"، فيعقب أحد الموجودين على الهتاف قائلاً "ما هو لازم يتنكد علينا قبل كل عيد".
يعيش المسيحيون الآن فترة "صوم الميلاد المجيد"، التي بدأت منذ منتصف نوفمبر/ تشرين ثان، وتستمر حتى نهاية الأسبوع الأول من يناير/ كانون ثان، موعد عيد الميلاد.
الأغلبية منفعلة، لكن الشاب العشريني مرقس رؤوف كان هادئًا، حتى في شرحه لأسباب طرد الإعلاميين "أصل احنا مش سبق صحفي"، ويشير بقلم في يده إلى لافتتين يحملهما صديقاه، ومكتوب عليهما "شهيد تحت الطلب" و"على الكنيسة رايحين شهداء بالملايين"، ثم يُكمل حديثه "أصل احنا مش هاممنا نموت، المهم حق الناس يرجع ونعرف مين اللي عملها".
قبل أن يحضر مرقس وأصدقائه للكنيسة، كانت عبير هناك، لم تستجب لتحذيرات أختها، وعادت من حيث بدأت المشوار، من جانب الكاتدرائية، لترى بعينيها الذعر في ملامح رجال ونساء يهرولون في محيطها، لكن أحمد عادل، صاحب أحد المحال المواجهة للكنيسة، كان أوفر حظًا منها، إذ كُتب له النجاة من الفزع، بعد أن دفعه كسل يوم الإجازة، إلى بدء عمله بعد ظهر اليوم، بعد انتشار الأمن بطول شارع رمسيس، وتطويق محيط الكاتدرئية والكنيسة البطرسية.
التأخر عن العمل، في هذا اليوم بالذات، كان سببًا كافيًا لأن يحمد الرجل ربّه "الحمدلله إني ماشفتش الجثث والمصابين وهما خارجين. أنا اتفاجئت بخبر الانفجار من الراديو، وجيت مشي من غمرة (محطة مترو الأنفاق) لهنا، علشان شارع رمسيس مقفول".
أغلقت قوات الأمن شارع رمسيس، وأجرت تحويلات مرورية عبر شارع أحمد سعيد، لمنع مرور المركبات من شارع رمسيس أو من أعلى كوبري أحمد سعيد، إلى أن فُتح الطريق جزئيًا في الاتجاه المؤدي للعباسية، في الشارع دون الكوبري، بينما الاتجاه المعاكس ظل مغلقًا بكتل بشرية وسيارات اسعاف وأفراد أمن.
أحاديث القبو
حل المساء على أقرب المستشفيات إلى موقع التفجير "دار الشفاء"، عصيبًا ومزدحمًا بالتفاصيل المأساوية، فأمام أحد أبوابها الجانبية، تجمع ذوي الضحايا، وفي جزء سفلي منها، أشبه ما يكون بقبو، افترش الأكثرية البلاط أمام بوابة كُتب عليها "ثلاجة حفظ الموتى"، صمت يتوسط صرخات بكلمة "أمي، ماتت، ماتت، ليه؟"، وعبارات متفرقة عن "جثث، وغسل، وشهداء لا يُغسّلون".
بعيدًا عن الصراخ والبكاء المسيطرين على القبو، كان نائب رئيس الأمانة العامة لشؤون المستشفيات متعددة التخصص بوزارة الصحة، الدكتور أيمن عبد العزيز، يُدلي بتصريحات من داخل المستشفى، حول الواقعة.
وقال المصدر المسؤول بوزارة الصحة، إن توزيع الضحايا بين 4 مستشفيات هي "الدمرداش" الجامعي بواقع 38 مصابًا، ودار الشفاء بواقع 6 متوفين و10 مصابين- أربعة منهم في الرعاية المركزة وستة غادروا المستشفى بعد تلقي العلاج- وأربعة مصابين "حالتهم مستقرّة" في المستشفى الإيطالي، وحالة وفاة وإصابة واحدة في مستشفى الزهراء.
وأكد "عبد العزيز" أن رفع درجة الاستعداد في المستشفيات سواء في القوة البشرية بوجود الأساتذة الجامعيين أو توفير المستلزمات، أثمر عن رصيد كاف من الدم بواقع 1984 كيسًا- منهم 100 كيس في مستشفى الزهراء وحدها- والبلازما بواقع 2823 كيسًا.
في الوقت الذي كان يطمئن فيه "عبد العزيز" إلى جاهزية المستشفى، كان طابور من سيارات الإسعاف يرابط أمام مقر الكاتدرائية، الذي خلا من حشود الصباح، اللهم إلا قليلين يطوفون بمحيطه، ولا تزال هتافاتهم الاحتجاجية تتردد وصلواتهم تُسمع، وإن كان الصوت خافتًا.