نشرت صحيفة الجارديان البريطانية مقالًا لعالم الفيزياء ستيفن هوكينج يعلق فيه على التغيرات السياسية الأخيرة اللتي شهدتها بريطانيا والولايات المتحدة، وعلاقتها بالتكنولوجيا والاقتصاد ومستقبل كوكب الأرض، تحت عنوان: "هذا أخطر وقت يمر به كوكبنا".
وحتى في هذا المجتمع العلمي، فإن المجموعة الصغيرة من علماء الفيزياء النظرية الذين قضيت حياتي العملية بينهم، أحيانًا تثيرهم فكرة أن يُنظَر إليهم باعتبارهم قمة العلم. بالإضافة لذلك؛ فإن الشهرة التي أتتني بها كتاباتي، والعزلة التي فرضها علي المرض، جعلتني أشعر أن برجي العاجي الشخصي يزداد ارتفاعًا.
لذا فإن تيار رفض النخبة الذي ظهر مؤخرًا في بريطانيا والولايات المتحدة، يعد موجهًا لي كما هو موجه لباقي من وُضعوا في مصاف النخبة. أيًا كان ما نظنه في تصويت البريطانين لصالح رفض الاستمرار في عضوية الاتحاد الأوروبي، واحتضان الجماهير الأمريكية لدونالد ترامب كرئيس جديد؛ فلا شك أن أذهان المُعلقين ذهبت لتحليل تلك التوجهات باعتبارها صرخة غضب من الناس الذين يشعرون أنهم مُهملين من نخبتهم.
كانت كذلك بالفعل، والجميع يمكنهم أن يروا ذلك، اللحظة التي تكلم فيها المنسيون ووجدوا أصواتهم، هي اللحظة التي رفضوا فيها نصائح وإرشادات الخبراء والنُخب.
المهم الآن.. ما يهم فعلا أكثر من انتصار دعاة البريكزيت وفوز ترامب هو كيف ستتصرف تلك النخبة؟
أنا لا امثل استثناءً من هذه القاعدة. لقد حذرت من قبل أن التصويت لصالح البريكزيت قد يضر بالبحث العلمي في بريطانيا، وأن التصويت للخروج سيكون بمثابة خطوة إلى الخلف، يكون فيها الناخبين، أو على الأقل نسبة معتبرة منهم، قد قرروا أن يضربوا عرض الحائط بحديث أمثالي من الباحثين والفنانين والقادة السياسيين، وأعضاء الاتحادات التجارية والمشاهير ورجال الأعمال، الذين اتفقوا جميعهم على رفض الخروج، ونصحوا باقي البلاد بعدم التصويت لصالحه.
ما يهم الآن: أكثر من الاختيارات التي اتخذناها أو تلك التي اتخذها الناخبون، هو كيف ستتصرف تلك النخب. هل يتعين علينا الرد برفض هذه الأصوات الانتخابية باعتبارها تعبير صارخ عن الشعبوية الخام، التي فشلت في فهم الحقائق ووضعها في الاعتبار؟ هل نلتف على تلك الرغبة التي عبرت عنها صناديق الاقتراع أو نحاصرها؟ يمكنني أن أجادل بقوة من لا يرى هذا خطأً بشعًا.
إن ما تعبر عنه هذه الأصوات هو هم حقيقي يتصل بالاقتصاد والعولمة وتسارع التغيرات التكنولوجية، وهو قلق مفهوم تمامًا. إن ميكنة المصانع أدت بالفعل إلي القضاء على العديد من الوظائف في خطوط التصنيع التقليدية، وتطور الذكاء الاطصناعي ربما سيوسع من عملية تدمير فرص الوظائف في صفوف الطبقات الوسطى، فلن تتبقى سوى الوظائف المتصلة بالإبداع والرعاية والإشراف.
علينا أن نضع هذا إلى جانب الأزمة المالية، التي جعلت الناس يتنبهون إلى أن هناك قلائل جدًا من العاملين في القطاع المصرفي يجنون أرباحًا خيالية، ندفع نحن الملايين فاتورتها، بينما يتعاظم جشع هذه القلة ليقودنا إلى التخبط.
فإذا وضعنا هذه العوامل جوار بعضها؛ سنتأكد أننا نحيا في عالم تتعاظم فيه اللامساواة الاقتصادية بينما يصور لنا البعض أنها تتراجع. نحن في عالم ينظر فيه الناس بأعينهم ليس فقط تراجع مستويات حياتهم، بل تراجع قدرتهم على كسب ما يعينهم على اللحياة من الأصل. إذن؛ فليس من المُستَغرَب أنهم يبحثون عن جديد، وهو ما بدا أن ترامب والبريكزيت يقدماه.
ولابد أن لا ننسى أن الوضع الحالي – الذي لم يعمل له أحد حسابًا- جعل من عواقب انتشار السوشيال ميديا والانتشار العالمي للإنترنت: إبراز تلك الطبيعة القاسية للامساواة وجعلها واضحة للعيان، أكثر مما كان الأمر عليه في الماضي. بالنسبة لي: فإن القدرة على استخدام التكنولوجيا في التواصل كانت تجربة تحررية وإيجابية. بدونها، لما أمكنني مواصلة العمل كل هذه السنوات*.
لكنها أيضًا تعني أن حيوات الأغنياء في أكثر قطاعات العالم رفاهية صارت واضحة للعيان بشكل يشكل عذابًا لغيرهم من الفقراء، الذين يمكنهم أن يروا تلك الحياة المرفهة التي حُرموا من فُتاتِها على أجهزة هواتفهم الذكية. ولأنه وفقًا للإحصائيات فإن هناك ناس في هذا العالم لديهم هواتف ذكية بينما يفتقرون للمياه النظيفة كما في دول جنوب الصحراء الإفريقية؛ فهذا سيعني على المدى القصير لن يتمكن أي شخص على ظهر هذا الكوكب المزدحم من الهروب من وجه انعدام المساواة.
وعواقب هذا واضحة: الفقير الذي يحيا في الريف سيفر إلى المدينة، سيسعى للمدن الملونة حالمًا بفرصة أفضل للحياة، وغالبًا سيجد أن صور انستاجرام المشرقة ليست واقعية ولا وجود لها، لذا سيبحثون عنها عبر البحار منضمين للأعداد المتعاظمة من اللاجئين لأسباب اقتصادية، الباحثين عن مجرد فرصة لحياة أفضل. هؤلاء الفارين يضعون بدورهم أعباءً على البنى التحتية واقتصاديات الدول التي يفرون إليها، متسببين في تزايد الضجر وتراجع القدرة على الاحتمال وتغذية الماكينة الشعبوية الشوفينية.
بالنسبة لي فإن العنصر الأكثر إثارة للقلق هو أن الآن؛ وأكثر من أي وقت مضى في التاريخ؛ فإن جنسنا البشري بحاجة للعمل سويًا. نحن نواجه تحديات بيئية هائلة: التغير المناخي، تراجع انتاج الغذاء، تزايد السكان، والقضاء على الكائنات الأخرى، الأمراض الوبائية، وارتفاع حمضية المحيطات.
معًا، تشكل هذه التهديدات تذكرة بأننا في أخطر لحظات تطور الإنسانية. نحن الآن لدينا التكنولوجيا اللازمة لتدمير الكوكب، لكننا لم نطور بعد التكنولوجيا التي تلزمنا للهروب منه. ربما خلال بضع مئات من السنوات سيتعين علينا أن ننشئ مستعمرات بشرية بين النجوم، ولكن الآن ليس لدينا سوى كوكب واحد وعلينا أن نعمل معًا لحمايته.
ولنفعل هذا، فعلينا أن نحطم؛ لا أن نبني الحدود بين الأمم. لو أن لدينا فرصة لنفعل هذا، فعلى قادة العالم أن يعترفوا أنهم فشلوا وأنهم خذلوا المليارات من شركائهم في هذا الكوكب. فمع تزايد تمركز مصادر الحياة في أيدي القلة، علينا أن نتعلم كيف نتشارك سويًا بشكل أكبر بكثير جدًا مما يحدث الآن فعلاً.
مع اختفاء العديد من الصناعات، لا اختفاء الوظائف فقط؛ علينا أن نساعد الناس أن يتدربوا على سبل العيش في هذا العالم الجديد، وان نساعدهم ماليًا بينما يخوضون عملية التعلم هذه. لو لم تستطع المجتمعات والاقتصادات القائمة أن تتكيف مع المستويات الحالية من الهجرة؛ فعلينا أن نفعل المزيد من أجل دعم "التنمية الكوكبية" باعتبارها السبيل الوحيد لاقناع ملايين الراغبين في الهجرة، بالقبول بتطوير فرص الحياة والبحث عن المستقبل في بلدانهم.
يمكننا معًا أن نفعل ذلك، أنا متفائل جدًا للجنس البشري؛ لكن هذا التفاؤل كي يصير عقلانيًا: على النُخَب من لندن لهارفارد، ومن كامبريدج لهوليود أن تتعلم دروس العام المنتهي، أن تتعلم قبل كل شيء معايير التواضع.
أصيب ستيفن هوكينج في شبابه بمرض التصلب الجانبي الضموري الذي تسبب بشكل متسارع في فقده القدرة على الحركة والتحكم بالعضلات، ما افقده القدرة على التوصل.