في يناير/كانون الثاني عام 1899، قررت الحكومة المصرية تهجير نوبيي الشلال بسبب البدء في إنشاء خزان أسوان.
منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا، وعبر 117 عامًا دفع النوبيون المصريون أثمانًا باهظة في صمتٍ فسّره البعض، ربما من باب السذاجة، أنه تسليم بالأمر الواقع.
غرقت أراضي النوبة أثناء تشييد الخزان خلال فترة الاحتلال البريطاني الذي سعى جاهدًا لفصل السودان عن مصر، ما تبعه تقسيم الجسد النوبي الواحد بين البلدين الشقيقين.
وبعد التشييد بسنوات تمت "تعلية الخزان"وتبعها تهجيران جديدان لبعض النوبيين عامي 1912 و1913. وأخيرًا جاء التهجير الجماعي لكل سكان النوبة عام 1964 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر بسبب إنشاء السد العالي؛ لكنّ التهجير الأخير حمل معه نبأ سارًا؛ حيث قالت الحكومة إنه بمجرد استقرار منسوب بحيرة السد سيتم إعادة النوبيين مرة أخرى إلى أراضيهم. وهو وعد لم تصدق فيه حتى الآن.
بعد ذلك، دخلت مصر حربًا لاستعادة سيناء بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967. ووجب علي النوبيين الصمتُ في تلك الفترة. ثم تعرضت البلاد لمحنات اقتصادية متتالية، وبدوافع وطنيةٍ آثر أهل النوبة الصمت مجددًا في انتظار الوقت المناسب لإعادة فتح القضية.
جاء عهد حسني مبارك وتجمدت القضية، كما تجمد كل شيء في مصر لمدة 30 عامًا.
تهديد ونضال متجدد
اقتلع التهجير النوبيين من أراضيهم على ضفاف النيل وانتقلوا لبيئة جديدة لم يعتادوها.
بمرور الوقت، مثّل التهجير تهديدًا أكبر للهوية النوبية بخصوصيتها الثقافية التي ارتبطت بالأرض والنيل. وبدأت أعداد النوبيين الناطقين بلغتهم تتراجع بشكل واضح. وبعدما كان كل نوبيّ قادر على التحدث بلغته أصبح نصف أبناء النوبة على الأقل لا يعرفون لغتهم، خاصة الأجيال الشابة التي ولدت بعد التهجير. كما لم تبذل الدولة جهدًا يُذكر للحفاظ على اللغة النوبية.
هذه المعاناة ضاعفت تعلّق النوبيين بالعودة إلى أراضيهم. رأوا فيها سبيلاً للحفاظ على قيّمهم وإنسانيتهم ولسانهم النوبي، وسبيلاً لحماية تقاليدهم من الاندثار.
بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني لاحت فى الأفق بشائر عودة الحقوق لأصحابها. اختار النوبيون بوعي طريقاً محددًا لنيل حقوقهم. طريق الدستور والقانون ولا خيار آخر.
وقتها، كانت هناك اتهامات توجه للنوبيين، أقدم سكان مصر، تصفهم بالخونة. وبينما يحاول ورثة الحضارة النوبية الكوشية التي دافعت عن مصر القديمة وصدت هجوم الآشوريين والفرس، الحصول على حقوقهم كانت الاتهامات تزداد إلى حد دفع البعض لوصفهم بـ"الانفصاليين".
في المحاولة الأولى لكتابة الدستور عقب الثورة، غاب عن لجنة الـ100 المكلفة بإعداد الدستور أي ممثل للنوبة في ظل سيطرة جماعة الإخوان المسلمين على البرلمان واللجنة.
رحل الإخوان ورحل دستورهم معهم. وجاءت ثورة 30 يونيو لتُبشّر النوبيين بدستور جديد؛ ربما يكون قوامه التنوع وإعادة الحقوق إلى اصحابها.
الأديب النوبي حجاج أدول كان حاضرًا في لجنة الـ50 المسؤولة عن كتابة الدستور ممثلا لعموم النوبيين في مصر.
انتصرت اللجنة والدستور الجديد للقضية النوبية بنص حاسم؛ إذ تضمنت المادة 236 من الدستور الفقرة التالية: "..تعمل الدولة على وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكان النوبة إلى مناطقهم الأصلية وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذى ينظمه القانون".
المادة نفسها أشارت إلى ضرورة مراعاة خطط التنمية الاقتصادية والعمرانية "الأنماط الثقافية والبيئية للمجتمع المحلي".
اقرأ أيضًا: "العودة النوبية".. قافلة يحاصرها الأمن وحق دستوري تنكره قرارات جمهورية
رياح عكسية
ورغم وضوح نص المادة 236 من الدستور إلا أن الدولة أصدرت قرارات تتعارض معها، مثل القرار بقانون رقم 444 لسنة 2015 الذي يقضي بتحديد حيز المناطق العسكرية الحدودية غير المسموح بدخولها أو عبورها فضلاً عن الإقامة بها إلا بعد الحصول على إذن مسبق من السلطات العسكرية المختصة.
والتهم هذا القرار في حيثياته 17 قرية نوبية كاملة خلف السد العالي بمسافة تتجاوز عشرات الكيلومترات تقريباً.
بعد ذلك جاء قرار إنشاء شركة الريف المصرى. وما صاحبه من دخول منطقة فورقندى النوبية ضمن مشروع المليون ونصف فدان، وفتح الباب أمام بيعها للمستثمرين. هذا القرار كان بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير.
شعر النوبيون أن المعاناة التي بدأت قبل 117 عامًا تتجدد، وأنه لا سبيل لإنهائها، وأن الآمال التي علقوها على الدستور الجديد والسبل القانونية لن تتحقق.
انتشرت حملات الكترونية متعددة مثل "النوبة تريد تفعيل الدستور" وغيرها. للتأكيد على رفض النوبيون تلك القرارات؛ التى تفرغ النصوص الدستورية من مضمونها.
بعد ذلك، دعا بعض أبناء النوبة في أسوان لتنظيم قافلة جماعية من النوبيين لزيارة أراضيهم خلف السد العالي. وإبلاغ رسالة للمسؤولين مفادها أن النوبيين متمسكون بحقوقهم، ويعرفون الطريق نحو اراضيهم، مشددين على ضرورة الألتزام بالعقد الأعلى الحاكم بين الدولة والمواطنين، وإنفاذ مواد الدستور سواء بقرار جمهورى أو بقانون يصدر عن مجلس النواب.
وفى طريق "أسوان – ابوسمبل" اعترض كمين عسكري القافلة ومنعها من العبور، وقال إن هناك "أوامر عليا".
وبحسب الأخبار المنقولة عن القافلة، فإن الحديث مع عناصر الأمن لم يُجدِ، وقال أحد قيادات الأمن "اعتبروها بلطجة" ثم تم "تطويق القافلة" وفقًا لروايات بعض المشاركين بها.
قرر أفراد القافلة الاعتصام احتجاجًا على "التعنت الأمني" وقام الأمن بمنع الإمدادات عنهم لتنتشر بعد ذلك أنباء القافلة ويصل صداها إلى مدى بعيد.
ما زال الاعتصام مستمرًا حتى هذه اللحظة. وما زال الموقف الرسمي للدولة يطرح عددًا من التساؤلات: هل يُلام النوبيون على التزامهم بالدستور ومطالبتهم بتفعيل مواده؟ وهل يلامُ النوبيون على صبرهم ورفضهم إثارة الأزمات في أوقات تعرضت فيها مصر لمحن مختلفة؟ وإلى متى تظل الحلول الأمنية هي الطريقة الوحيدة لمواجهة كل الأزمات والمشاكل؟
ماذا يريدون؟
هناك ثلاثة مطالب نوبية واضحة ومحددة أعلنتها جموع النوبيين فى أسوان والقاهرة ومختلف المحافظات، وصاغتها قافلة العودة العالقة في الصحراء هي:
1- وضع المادة رقم 236 من الدستور المصرى موضع التنفيذ بإصدار قرار واضح بإنشاء الهيئة العليا لتنمية وتعمير بلاد النوبة القديمة
2- تعديل القرار رقم 444 بما يحفظ حق النوبيين فى العودة لقراهم الأصلية
3- رفع منطقة فورقندى النوبية من كراسة الشروط الخاصة بمشروع المليون ونصف فدان على أن تمنح الأولوية فى الفدادين المخصصة بمنطقة توشكى لأبناء أسوان بشكل عام.