نشر المقال بالإنجليرية في "ميدل إيست آي"
خلال الأيام العشرة الماضية؛ ظهر المصريون على موجات الهواء والفيديوهات المصورة ليقولوا "كفاية" بطريقة تستدعي الانتباه. لا يوجد انفجار قريب؛ ولكن لا شك أن هناك عملية ما قد بدأت، وتنذر بأن الصبر – سيما في الطبقات الأدني اقتصاديا- بدأ في النفاذ، وبسرعة.
في 2013؛ وقف السيسي على السطح يتحدث إلى ملايين المصريين المرحبين، وبعد سنوات ثلاث، أصبح فيها شهر العسل القصير هذا ذكرى بعيدة، نكتشف الآن أن هذا السطح من الصفيح.. وأنه يزداد سخونة.
لا يزال الكثيرون يعتقدون أن الخلاص لن يأتي بانتفاضة شعبية مماثلة لـ25 يناير. وبينما يبقى استرجاع 25 يناير في نسختها الثانية سرابًا بعيدًا؛ إلا أن هناك فيديوهات أربعة علينا أن ننظر إليها بتمعُّن، وهي تشكل مؤشرًا على أن هناك احتمال بمواجهة كاشفة ما، قد تقع في المدى المنظور.
حقًا إن المعارضة –بأكثر من 60 ألف سجين سياسي- لا تتوقع انتفاضة منظمة؛ ولكن الغضب غير المنظم الذي ينمو، بدأ يسبق التنظيمات السياسية التقليدية للمعارضة. وكما فوجئت معظم دول العالم بثورة يناير وتدفقها غير المسبوق، فإن غضبًا غير محدد الأبعاد كالذي يغلي الآن؛ قد يفاجئنا جميعًا.
العد التنازلي
العلامات حاضرة لمن يبغي النظر، عندما تجوَّل برنامج عمرو الليثي الجماهيري "واحد من الناس" في الشارع، تحوّل سائق توكتوك إلى متحدث باسم الناس، وأجاد قراءة رسالته أمير عيد، المغني في الفريق الغنائي المتبني لقيم الثورة "كايروكي"، الذي غرد قائلاً: "الإعلام عندنا استنزف كل أساليب الكدب والتطبيل اللي عنده، يعني الشعب مبقاش بياكل معاه ولا بيصدق الكلام ده، خلاص بح. ابدأ يابني العد التنازلي". مصطفى "سائق التوكتوك" هو شرارة تثبت أن المواجهة القادمة مختلفة جدًا، سيشعلها الاقتصاد، ستكون انتفاضة تتعلق بالأزمة الطبقية.
"تتفرج على التلفزيون نلاقي مصر فيينا، ننزل الشارع نلاقيها بنت عم الصومال" بهذا يبدأ مصطفى حديثه، ثم يرتفع صوته ويغلبه الانفعال "عمالين يرموا الفلوس في مشاريع قومية ملهاش لزمة واحنا التعليم عندنا متدني لأسفل ما تتخيل" يقاطعه الليثي:"إنت خريج إيه"، فيجيب "أنا خريج توكتوك".
صراحة مميزة، وطلاقة تتسق مع ما يراه المصريون، لدرجة أنه أيما توليت سواء نحو التلفزيون أو تويتر أو فيسبوك؛ فستجد الناس تردد صدى كلماته: "أول هام تلات حاجات عشان البلد تنهض: تعليم وصحة وزراعة.. البلد دي لو المواطن لقى التلات حاجات دول أقسملك بالله ما يقدر عليه غير ربنا".
اتفق أو اختلف معه، ولكن في عصر لا ينال فيه المواطن المصري العادي إلا أقل القليل، هناك حيث لا تشرق الشمس، فإن الضربات التي أوقعها هذا الرجل بصراحته القوية كالمطرقة، أشعلت النيران وقدمت لنا مثالا على موجة السخط التي ترتفع بين المسحوقين، في دولة بلغ فيها معدل الفقر 27.8%. هذه النسبة تعبر عن رقم يبلغ عشرات الملايين، غضبتهم كالانفجار النووي، لن يكون بمقدور جيش ولاقوة شرطية أن توقفها.
أما القوى المسيطرة على الإعلام، فتعرف أن الغضب ينمو. والحل؟ "إحذفوا الفيديو"، ففي اليوم التالي مباشرة، حذفت قناة الحياة الفيديو. ولكنهم حذفوا واحدًا فظهر أربعة، وعلى الفور..
"حذفت الفيديو؟ دا آخركو على فكرة.. إنت خايف مننا للدرجة دي يا سيادة رئيس جمهورية مصر العربية؟" قالتها شابة غير معروفة في فيديو آخر يرجع تاريخ نشرة لأيام ثلاثة بعد نشر فيديو سائق التوكتوك. السادة الذين يسيل منهم العرق البارد في غرف الحكم المغلقة، لا يجيدون كتم خوفهم عن المصريين، فذوي الصبر المتناقص يمكنهم تمييز الخوف عندما تدير الرقابة رأسها القبيح.
"إنتو مجرد لزق بلاستر" هكذا تصف الشابة الحكومة: "انتو عاوزين تحطوه على بقنا تكتمونا وتقولولنا نسكت". ورغم أنها لا تزال غالبًا في عشريناتها؛ إلا أن كلماتها جاءت في الصميم. فبلا جدال؛ نظام الحكم سعى لأن يعكس أجواء الحرب ومناخ الخوف المرتبط بها، مستهدفًا إسكات الجميع باسم "الأمن القومي". ولكن؛ الحرب الوحيدة القائمة هي تلك التي يشنها النظام على مواطنيه.
ما يريده الحيتان؟
بعض السلع الرئيسية كالخضر والفاكهة ترتفع أسعارها بشكل موسمي، لكن الحكومة فشلت بشكل يدعو للرثاء في التنبؤ بالمدى الذي وصل إليه التضخم، من 9% في فبراير/ شباط الماضي إلى 16.4% بعد ستة أشهر فقط. ودفعت أزمة غير مسبوقة في توفير السكر وكالة رويترز للأنباء لأن تقول إن الحكومة فوجئت "على حين غرة" على حد تعبير الوكالة.
البعض يتهم الجيش بالسعي لاحتكار السكر كما حدث مع سلع وخدمات أخرى، في الوقت الذي يتم فيه اعتقال المصريين العاديين لحيازة كيسين اثنين من السكر، ولا توجد محاسبة على سوء التخطيط الهائل، رغم أن الحكومة هي من فشلت في قراءة تفاعلات سوق السكر العالمي.
تحتاج مصر ثلاثة ملايين طن من السكر، لكنها تنتج مليونين اثنين، ويتم تغطية الباقي بالاستيراد ولكن: " لا أحد يرغب في توفير دولارات لهذا الغرض. إنه أمر مكلف للغاية"، كما قال أحد التجار لرويترز. وكالعادة؛ فالحكومة تلد المشاكل وتتبرأ من المسؤولية عن إيجاد الحلول. لذا؛ تدور الدائرة ويغذي الغضب محركات الاتجاه لصراع جديد.
عندما يحدد المواطنين العاديين بدقة شديدة إخفاقات السياسة العامة التي يرتكبها من يتولون السلطة، فتأكد أن "ثمّة شيء عفن في الدولة المصرية "، مع الاعتذار لشكسبير. "الكبار ماصين دمنا بقالهم 50 سنة ..النهاردة، إحنا هنسرق بعض كل واحد عاوز يمد إيده في جيب اللي جنبه"، تصرخ ربة المنزل المسؤولة عن أربعة أبناء التي استضافها أحد المواقع ذات الصوت المعارض.
ولأنها تعرف بالرقابة الموجودة في مصر سألت السيدة محاورها: "دلوقت بس الكلام اللي بنقوله دا هيوصل ولا مش هيوصل؟". وبعد تأكيده لها أنه سيذيع ما ستقول، انفجرت: "بص لنا" وهي تشير للجمع المتحلق حولها، والذين يظهر عليهم جميعًا تواضُع الحال، " تلات تربع (3/4) مصر الشعب دا". لكن ثقتها في الحيتان الذين يحكمون الإعلام والسياسة في مصر تبلغ الصفر: "كلهم كذابين ومنافقين وأفاقين، وبياخدوا ملايين على قفا الشعب الغلبان دا".
بينما لعبت مشكلات المجتمع الاقتصادية دورًا في 25 يناير، فإن وضوح الفوارق الطبقية في الإعصار الذي يتولد حاليًا؛ لا يشكل –فحسب- عاملاً مهمًا للمحللين المتنبهين لرسم العلاقة بين تلك الثنائية (الخلل الطبقي والثورة)؛ لكنه يشكل كذلك نقطة فارقة لأولئك الضحايا الذين يعانون تحت وطأة حكم طبقة الصقور، الذين يولون كل اهتمامهم لأولوية وحيدة: القضاء على جماعة الإخوان المسلمين.
هذا الهوس السياسي الأناني بالجماعة، ساعد السيسي على حصد التأييد الشعبي، لكنه كما خلق شعورًا بتهديد الأمن القومي، أسهم كذلك في تصدُّعات جديدة في مجتمع منقسم بالفعل. الإسلام السياسي -ودون ذرة شك- يستحق الكثير من النقد الحاد لفشله في الحكم. ومع ذلك؛ فإن حل "السيسي" جعل حد السكين يقترب من عنق هذه الدولة أكثر. في الحقيقة فإن مقالًا نشرته صحيفة فورين أفايرز مؤخرًا يطرح أن "مصر بقمعها للإخوان المسلمين قامت بتصدير مشكلتها المركزية الداخلية لدول الجوار، لتحدث تأثيرًا مدمرًا".
كلمة ممثل الصعيد
هذا النقص الشديد في تحديد الأولويات لم يقع لشرشوب همام ابن صعيد مصر، الذي ترك وراءه الدبلوماسية والخوف خلال حديثه في الفيديو الذي ظهر مؤخرًا: "إحنا بنشحت، وحضرتك طالعلي في التلفزيون كل يوم: واحد يسيبلي فكة.. واتبرع من أجل مِصر؟"، مُظهرًا عينًا سياسية لماحة. ويشرح: "مفيش بلد حكمها العسكر بتنجح، النجاح بييجي لما كل واحد يبقى في تخصصه، كل واحد يشتغل في تخصصه".
ورغم أن العديدين – ومنهم أنا- نتشكك فيمن وراء الدعوة للتظاهر في 11/11؛ فهذا الرجل تحديدًا لم يخش خوض المياه الخطرة: "الرئيس دا مجرد موظف في الدولة.. إحنا تعبنا.. مبقيناش قادرين ناخد نَفَسنا.. [للسيسي]: إن ممشتش بالرضا؛ هتمشي بالعافية. هنخرج 11/ 11… إحنا حنروحوا مكفنين جاهزين". من غير الوارد أن نعرف من يقف خلف 11/11 على وجه التأكيد؛ ولكن لا يمكنك الشك في الغضب المستعر البادي في كلام هذا الرجل، ولدى القطاع الذي يعبر عنه.
يختم شرشوب كلامه بالقول: "الثورة قالت عيش وحرية وعدالة ومشوفناش حاجة من دول".
وبينما نحاول فهم ما ينتظر مصر في المستقبل، فلنعلي هذه الحقيقة فوق ما عداها: إن التعويم المتوقع للجنيه المصري لا يزال أمرًا ينتظر الحدوث، وعلى الرغم من هذا؛ فالعملة على وشك الانهيار.
وبينما تتجه العملة نحو الحافة أسرع من سيارة سباق؛ فالتضخم الذي حول مصر إلى قدر يغلي يغني بحماس نشيد جلوريا جاينور "سوف أحيا".
المشكلة الآن: هذه التفاؤل، تحت الظروف الحالية، يبقى مجرد أمل قد يكون غير قابل للتحقق.