ليس سهلا أن يتحدث – أو يكتب – كاتب "مسيحي" مصري عن الاحتقان والتعصب الديني في مصر بدون أن يراجع نفسه مرات حول الكتابة أو الكلام.
بداية؛ حتى تستقيم الكتابة هنا وتظهر مقاصدها، علينا أن نعترف بخجل وغضب وحزن وأسف؛ أن التعصب الديني الموجود في مصر قديم قِدم "فتح " جيش عمرو بن العاص لمصر منذ بضع وألف سنة.
وقد استخدمت المصطلح الإسلامي – متقصدًا بدلا من اصطلاح "غزو"، باعتبار أن احتلال مصر عربيا/ إسلاميا آنذاك، كان لهدفين لا ثالث لهما: أولهما؛ تأسيس إمبراطورية إسلامية بعد وفاة الرسول بحوالي 15 سنة. ثانيا؛ "نشر" الدين الإسلامي الذي كان منذ يومه الأول "دين ودولة".
أنا – باعتبار جذوري المسيحية - مُستقبِل للتعصب الديني أولا، ثم العِرقي ثانيًا. فمنذ بدأت أعي أنني جزء من جماعة دينية مختلفة عن الجماعة السائدة -كان هذا في السودان- لم يفارقني هذا الإحساس حتى اليوم: إحساس الاختلاف عن الآخرين: "الأغلبية".
فأنا "عربي" أعيش في دولة غربية، وأنتمي – بالرغم مني – إلى أقلية عرقية هنا، كما كنت بالسودان أنتمي الى أقلية دينية وعرقية.
بالتالي أعرف طعم التَعَنْصُر بأشكاله المختلفة المكشوفة والمُقنَّعة، وأحترم أشكاله المكشوفة الغليظة عن تلك المقنعة التي ترتدي مسوحا ناعمة، والتي تخفي ذات السم والحنق والعداء تجاه المختلفين الآخرين.
صدمة المذبحة
وقت حدوث المذبحة كنت في أمستردام حيث أعيش. تابعتها عبر الميديا الأوربية. وقد هالني ما حدث، لكني أزحته بعيدًا داخل خزائني العقلية و"العاطفية" التي أضع فيها أشياء كهذه يمكنها أنها تربك توازناتي السياسية والشخصية. فطوال حياتي السياسية التي بدأت وأنا في حوالي الثامنة عشرة من عمري (1955) - وحتى الآن وأنا أخطو حثيثا للثمانين- لم أحِد عن قرار قديم لي بأني غير مُمَارِس دينيا. واتفقت مع زوجتي التي تقاربني في هذا الاتجاه أن لا نفعل بأولادنا ما فعله والدانا بنا. أي نترك الأولاد يقررون أية ديانة يريدون، أو يختارون أن يكونوا بلا ديانة أصلاً.. هم أحرار متى بدأوا في الإدراك.
لماذا أطيل السرد هنا وأنا غير مطالب بأن "أعرض أحشائي" على القراء؟
سافرت بعد المذبحة بشهور إلى أسوان، والتقيت هناك كالعادة بيوسف فاخوري الذي أدين له باضاءات قام هو بها لي، منها تعريفي على بعض المبدعين الهامين في أسوان كأحمد أبو خنيجر وأسامة البنا وقسمة كاتول وغيرهم.
هكذا ذهبت للقائه لأجده في وضع نفسي وصحي صعب ومُقلق.
وبعد فترة اعترف لي وهو الضنين بالحديث عن دواخله: أنه مر ولا يزال يمر بأكثر من أزمة صحية ونفسية منذ أن شاهد هو الآخر المذبحة على الهواء.
من ضمن ما قاله: إنه مَرِضَ وهو يتابع المذبحة في التلفزيون المصري، وسقط من فوق الأريكة في شقته التي يعيش فيها وحيدا. الشقة المتوسطة الأسوانلية؛ بابها لا يزال يحتفظ بالنحاسة التي تشير إلى اسم والده.
عفوًا.. مرة أخرى أزحت المذبحة جانبا.. كنت قد انتهيت من روايتي قبل الأخيرة "زجاج معشَّق" وأحس بإجهاد الكتابة لمن هم في مثل عمري، وبالعزوف عن التفكير بعمق فيما أعلم أنه من المحظورات علي؛ أي إعلان موقفي السياسي/ الإبداعي عبر إدخال "خانة" الاحتقان والتعصب الديني في عمل إبداعي أو حتى مقال سياسي.
كنت كمن ينطبق عليه المثل: "اللي اتلسع من الشوربة؛ ينفخ في الزبادي"، لكني كنت أريد أن أكتب "رواية" ما عن ثورة 25 يناير. قمت بتجميع المادة من أشخاص أعرفهم، سألتهم عن الثورة وقمت بقراءة عدد من الكتابات- غير الأدبية – عنها.. إلخ.
كنت أريد أن أكتب عن خمسة وعشرين يناير بعيدًا عن أقباط مصر ومسيحييها، فسقطتُ كيونس في بطن الحوت، وليس لي رب أستغفره سوى قلبي أستشيره، فأشار علي بالتوبة فتبت وخرجت من بطن الحوت ذاهلا، لكني بالغ التصميم أن أكتب "كل ما يعن لي" عن الثورة.. وعن المذبحة.
أردتُّ الوصول إلى "عين عاصفة" التعصب الديني المصري. وهكذا جمعتُ المراجع التاريخية التي كُتبت عن أهل الذمة في بداية "الفتح" العربي الإسلامي. اتخذت قرارا وحيدا هنا: أن أركز في مراجعي على ما كتبه أساتذة التاريخ الإسلامي المصريين في الجامعات المصرية وهم – بالصدفة أيضا- مسلمون، مثل سيدة إسماعيل الكاشف وهويدا عبد العظيم رمضان وغيرهما..
استعنت أيضا بالترجمة الأنيقة الجزلة من محمد فريد أبو حديد لكتاب ألفريد بتلر وغفرت للمترجم تلاعبه بعنوان الكتاب عندما ترجم Conquest إلى "فتح". غفرت له بسبب أسلوبه وحصافته.
هكذا توفرت لي مادة مهولة عن "التعصب" الذي كنت أبحث عن جذوره التاريخية في الشخصية المصرية الفرعونية، ثم القبطية، وأخيرا الإسلامية، ووصلت الى بضع قناعات أساسية: إن التعصب هو سمة أساسية في الأديان الثلاثة التي يقال عنها "سماوية"، طبقا لنظرية أن كل دين لاحق يبغي القضاء على الدين السابق. وهذا مبدأ بشري أقدم من الأديان السماوية، ذكره عالم الأنثروبلوجيا البريطاني، وواحد من مؤسسي هذا العلم "جون فريزر" في كتابه الغصن الذهبي، وفي التحول من حاكم نبي إلى نبي حاكم.. إلخ
أستطيع أن أقول بثقة أن التعصب ينفجر إذا كان من يحكم مصر يوفِّر له وسائل الانفجار، وذلك بالسماح له بالتسرب وبالتالي بالانفجار.
أضرب لك مثالاً من عهد الحاكم بأمر الله فقد كان يشجع المتعصبين على "القبض على النصارى الذين لا ينفذون تعليق الصلبان النحاسية، ونساء النصارى اللائي لا تنفذن التعليمات بارتداء فردتي حذاء مختلفتي الألوان والتنكيل بهن في الشوارع". وأباح هدم بعض الأديرة والكنائس والاستيلاء على ما بها (المرجع: أهل الذمة في العصر الفاطمي الأول – تأليف د. سلام شافعي – تاريخ المصريين – رقم 75 – الهيئة المصرية العامة للكتاب- 1995)
هل توقف التنكيل الآن في القرن الحادي والعشرين في مصر؟
الإجابة معروفة وواضحة عن تواتر الأنباء بحرق بيوت النصارى في بعض القرى وتهجيرهم بالقوة، والاستيلاء على ممتلكاتهم بل و"تجريس" بعض نسائهم.
هذا؛ بالرغم من تواجد ترسانة من قوانين حماية الوحدة الوطنية وعدم ازدراء الأديان.. إلخ. أما السبب في عدم تنفيذها بل وتعطيلها وتجميدها؛ فهي الدولة بذات قوامها الهُلامي، ابتداء من الخفراء وصولا إلى بعض المحافظين ومديري الأمن كما في المنيا.
أما لماذا تعطل لدولة هكذا قوانين وتُفضِّل الاحتكام إلى المجالس العرفية؟ فالإجابة هي "ترويض" الأقباط المصريين المسيحيين، وتحفيزهم لدعم الدولة ونظام حكمها بأن الخطر قائم وعلى الأبواب، وأن هناك من يرغب في إيذائهم، وأن الدولة هي الوحيدة التي تستطيع حمايتهم (رغم التناقض الواضح في المنطق)، وهي الدولة التي تقاوم- الآن ولأمد طويل- الإسلاميين المتعصبين في شبه جزيرة سيناء والأجنحة والخلايا العسكرية النوعية للإخوان المسلين في الوادي كله.
إنها رسائل ملتبسة أيضا إلى الغرب -المسيحي والمهتم حقوق الإنسان- بأن المسيحيين المصريين يعيشون تحت تهديد الجماعات الدينية مسلحة كانت أو غير مسلحة، وأنها معركة طويلة الأمد سوف تتواصل لسنوات!
فليس من اللائق من الغرب الحديث عن حقوق إنسان الآن. وتصريحات السيد رئيس الجمهورية في هذا الصدد معلنة رسميا.
المدهش أنه في الحقبة الناصرية، ورغم إعدام بعض قيادات الإخوان؛ إلا أن المسيحيين الأقباط المصريين لم يواجهوا هكذا تهديدات حتى رحل ناصر وتولى السادات، وتفجرت "أحداث" الزاوية الحمراء، فهو حسب تصريحه "رئيس مسلم لدولة مسلمة".
والسبب في عدم ظهور حوادث طائفية في الحقبة الناصرية هو – في اعتقادي- أن الشعب كله كان في حالة تعبئة لمواجهة خطر خارجي "لا يعلو صوت فوق صوت المعركة"، وبالتالي فالدولة- رغم هشاشتها - كانت في مواجهة مصيرية وجودية: أن تكون أو لا تكون.
هذا ما أريد إثباته بقولي إن: الدولة المصرية كنظام سياسي وبيروقراطي هي المسؤولة بالأساس عن الانفجارات الطائفية الدموية. لا جدوى مثلاً من "تجديد وتثوير الخطاب الديني"، إسلاميا كان أم مسيحيا؛ طالما أن الدولة يعشش في أعماقها منطق: إضرب المربوط يخاف السايب".
ومثال مجزرة ماسبيرو واضح لكل منطق: فالدولة أيامها كانت المجلس العسكري، والتلفزيون دائما "خاضع لحماية الجيش". والأخبار التي بثها التلفزيون الرسمي لساعات طوال، هي عن اعتداء الأقباط على أفراد القوات المسلحة، بل ومطالبة المصريين بنجدة قواتهم المسلحة!
أي استفزاز مطلوب أكثر من هذا؟
إني واحد من الذين لم ينتخبوا مرسي ومن لف لفه. انتخبت شفيق باعتباره يمثل الدولة ولا يأتِ بتفويض إلهي. وأعتقد أن معظم المسيحيين فعلوا "فعلتي" هذه. ثم كنت ولا أزال أعتبر أن وجود الدولة وجودًا قويًا هو المظلة الآمنة للأقليات الدينية والعرقية والجنسية في مصر.
رقابة غير مسبوقة
حينما كتبت الرواية ( أنهيتها عام 2016)، كنت أضع في نهاية كل فصل هوامش بالمراجع. وفيما يخص المرجع المتعلق " بكشف العذرية على بنات المتحف "وهن البنات والسيدات اللاتي تم اعتقالهن بواسطة الشرطة العسكرية في ميدان التحرير آنذاك. طُلِب مني في "دار العين" الناشرة للروية أن أحذف المصدر، وقد كان لينكات من تصريح المتحدث الرسمي العسكري، وكذا لينكات أخرى من شهادات لبنات كانت منشورة على الإنترنت. واستجبت وحذفت المراجع باعتبار أن ما حدث لا يزال حيا في الذاكرة.
ثم طُلب مني في الدار أيضا حذف تقرير المجلس القومي المصري لحقوق الإنسان فيما يخص " المظاهرة " ومذبحة ما سبيرو، وأخبار التلفزيون والمذيعة رشا مجدي التي كانت آنذاك مسؤولة عن التحريض ضد الأقباط والتي كذبت وادعت الاعتداء على الجيش من الأقباط، وكنت قد أعدت نشر التقرير كاملا. وقد وافقت على الحذف، بعدما قيل لي أن هناك سقفا لدور النشر لا يمكن تخطيه.
ثم حدث أن عمال المطبعة "الخاصة " اعترضوا على فقرة في المقدمة، وهي الشكر لآلهة أسلافي: إيزيس وأوزير وحورس، وطالبوا بحذفها وإلا أحالوا الرواية كلها إلى "الأمن"، باعتبار كما قالوا: أن لا اله الا الله.
وعملت مساومة عبر الدكتورة البودي مؤسسة دار العين أن أُبقِي على "السيدة زينب وسيدي أبو الحسن الشاذلي" في الإهداء المكتوب في الرواية.
وكذا الإهداء الذي أبقيته هو: "إلى أسلافي الذين حملوا هوياتهم فوق أعناقهم وصدورهم وواصلوا البقاء في مصر".
لقد أحسست بالخطر وبالخوف لأول مرة من "دولة مصر" التي انتخبتها لما سمعته وما شاهدته من تغول الأمن بأنواعه، وقضمه للحريات البسيطة التي منحها الدستور لنا، علما باني لم أواجه عبر كل رواياتي التي نشرتها في مصر هكذا محاذير أو تهديدات حتى في زمن مرسي الذي نشرتُ فيه حواراتي مع أبي زيد بواسطة "دار الثقافة الجديدة".
وأستطيع أن أقول ومن خبرتي في النشر في مصر؛ أن "السقف" الحالي لما هو مسموح به قد ضاق وهبط كثير عن عهدي مبارك ومرسي.
للأسف !
امستردام 7- اكتوبر 2016