تصميم: يوسف أيمن- المنصة

لام طائفية

اعتذار واجب لصناع "لام شمسية".. فالواقع أسوأ بكثير

منشور الاثنين 5 مايو 2025

لأن دورية كتابتي للمقالات شهرية، انتويت في كل مقال أن أتناول أحد مسلسلات الموسم الرمضاني الفائت. وكانت خطتي لهذا الشهر أن أتناول مسلسل ولاد الشمس. لكنَّ مستجدات الأحداث المتلاحقة دومًا في مصر حدت بي إلى تأجيل ذلك، لأقدَّم اعتذارًا واجبًا لصُنَّاع مسلسل لام شمسية.

فبعد أن اتهمتهم في السابق بالمبالغة في الكآبة، والإفراط في مراكمة الأحزان طوال 15 حلقة، ظنًا منِّي بأن كل تلك الآلام يمكن توزيعها بين عدة أعمال، بدلًا من تضفيرها بالشكل الذي خرج عليه المسلسل، وقع حدث في دمنهور ثم انفجر على السوشيال ميديا، علَّمنا أن ما عرضه المسلسل مجرّد نزر يسير مخفف متفائل من الواقع الذي نحياه.

أنا هنا لأعتذر

لا شك أن "لام شمسية"، من حيث الصنعة، عمل متقن، مترابط. أحسَنت فيه مجموعة الكتاب القادمين من ورشة مريم نعوم للسرد، ثم المخرج كريم الشناوي، استخدام أدواتهم الدرامية من حيث البناء والتصعيد والطَرْقِ على البؤر الشعورية شديدة الحساسية لدى المشاهد، لدرجة جعلته ينغمس حتى أذنيه في العمل ومعايشة الدراما المقدمة حد تلبس أحداثها والاندماج مع شخصياتها.

هذه الشخصيات أداها ببراعة كل من شارك في هذا العمل من الممثلين، فخرج العمل قويًا، مؤثرًا، يبقى عالقًا في ذاكرة المشاهد مُنتجًا لأثره حتى بعد انتهائه. لكن الفقيرة إلى الله، كاتبة هذه السطور، انتابها انزعاج طفولي من فرط قتامة المعروض على الشاشة، فطفقت تردد: لا لا لا لا لا، لا لا لا لا لا، كتير، كتير، لأ مش قادرة، كتير، كتير.

 

لا خلاف على أن لام شمسية يترك أثرًا غير محمود، وطاقة سلبية، في نفسية مشاهديه. فبسبب إتقان حلقاته التي تبلغ مدة الواحدة منها نحو خمسين دقيقة، وهذه مدة طويلة بالنسبة لحلقة في مسلسل تليفزيوني، لا يتسرب الملل إلى الجمهور ولو للحظة، غير أنها جرعة غير مخففة ولا رحيمة بالمشاهد من الألم النفسي والتوتر والغضب والقمع والقهر.

نتجت هذه المشاعر من التنقل بين حالة الطفل الخانقة وهو يتعرض للتحرش الجنسي من معلمه، أقرب أصدقاء والده، ثم "نطاعة" الأب المتفرغ لنزواته، وقلة حيلة زوجته المتعاطفة مع ابن زوجها، وحماقاتها أحيانًا، ومعاناتها من التشنج المهبلي الناتج عن تجربة تحرش ألقتها في غياهب النسيان. دون أن ننسى الأم المتخلية، وعشيقة الأب المتبجحة، وزوجة المتحرش المكتئبة إلى درجة محاولات الانتحار المتعددة، وابنة المتحرش التي تجهل حقيقته وتظنه سندها الوحيد، وأجواء المدرسة التي تشبه معسكرات النازي، ومديرة المدرسة ذات الشخصية الجوبلزية.

كل ذلك دفعني إلى التعبير عن اعتراضي على جمع هذه الأحزان ثم صبها فوق رأس المشاهد، وكذلك على اختيار أغنية "اسلمي يا مصر" الوطنية لختام الحلقة الأخيرة، لأنني ارتأيت أنها خارج السياق.

وأنا هنا لأعتذر والله.

فبعد مرور أقل من شهر على انتهاء عرض المسلسل، علمنا من السوشيال ميديا أن طفلًا تعرض لهتك العرض، وفق توصيف النيابة العامة، في مدرسة الكرمة بدمنهور، وهي مدرسة ذات شأن وبال، لا يدخلها إلا أبناء الصفوة، بعد إجراء اختبارات ذكاء للأطفال، ثم اختبارات لقياس أهلية الأسرة ولياقتها بأن يلتحق أطفالها بمدرسة تشترط ما لا يشترطه ربك عليك لدخول الفردوس.

لم يبق من هذه القضية سوى ندوب وجروح طائفية أخذتني إلى خسارة معارف من أبناء الدينين

ولكن هذه المدرسة، ومديرتها، واثنتين من العاملات فيها، وجدوا فجأة أنفسهم في مرمى سهام اتهامات السوشيال ميديا بالتواطؤ مع المتهم، وكذلك محاولات التستر عليه، بإعطائه عصًا ليضرب بها "عمو" الذي كان يغتصبه. 

أخبرتنا السوشيال ميديا الكثير من القصص عن تهديدات تعرَّض لها الطفل ومغريات عُرضت على أبويه، وتدخل بعض النافذين على الخط لحماية المؤسسة التعليمية، بعضها حقيقي وبعضها الآخر فيه ما فيه من بهارات، إلى أن أطلقت الأسرة نداءها للجميع بالصمت انتظارًا لحكم المحكمة، حتى لا تخرِّب الضوضاء رحلتهم القانونية الشاقة، وهي تصل محطتها الأخيرة. 

لم يكونوا سوداويين كالواقع

ما لم يجُل بخاطر ورشة سرد وكريم الشناوي صناع مسلسل "لام شمسية"، الذين اتهمتُهم بالسوادوية، هذا العفن الطائفي الذي سرى في المجتمع بشكل يبعث على القيء. ما إن أثير الأمر على السوشيال حتى انفجر في وجوهنا جميعًا قنبلة طائفية، نضحت علينا بما تأنف الطبيعة البشرية من تصوره، فضلًا عن مواجهته.

انقسم الناس ما بين "شوفوا المسيحيين بيعملوا إيه في المسلمين" و"دي مؤامرة إخوانية على الكنيسة". تناسى الأوَّلون أن حوادث مشابهة ارتكبها محفظو قرآن وشيوخ، وقع بعضها في حمامات المساجد. وتناسوا أن امرأة مسيحية هي من أنقذت طفلة مسلمة من براثن رجل تعلو جبينه زبيبة الصلاة. واتهم الآخرون طفلًا لم يتجاوز السادسة بالكذب، وأمًّا بعرض ابنها على النيابات والطب الشرعي، لأنها إخوانية حاقدة على المسيحية!

ولمَّا دخلت أصوات عاقلة في هذا النقاش القبيح، مُذكِّرةً طرفيه بأن دين هاتكي الأعراض لا يهم، وأن الأطفال لا يختلقون اتهامات التحرش لأنه خارج خبراتهم وتخيلاتهم، بدأ كل طرف في لعبة "ما هم اللي بدأوا الأول". وأنا الآن أشعر ببغض عميق لكليهما، وبخجل من صُنَّاع مسلسل "لام شمسية"، فقد ظهر أن الواقع أكثر قتامة وسوداوية.

بحمد الله، وبفضل شجاعة الأم والطفل وبطولتهما، عندما وقفا أمام القاضي يرويان ما حدث بأفضل مما فعل محامي الطفل، صدر الحكم بسجن المتهم سجنًا مؤبدًا، ورد الله أرواح الأمهات الملتاعات، وأنا منهن، وبرَّد قلوبنا جميعًا. 

ولم يبق من هذه القضية سوى ندوب وجروح طائفية أخذتني إلى خسارة معارف من أبناء الدينين. فما كنت أظن أن الطبيعة البشرية قادرة على إنتاج كل هذا الشر.

أيها الناس، ما كان الأمر يستحق أن تخرجوا علينا بعوراتكم النفسية الطائفية بهذا الشكل المهين للجنس البشري.

كان أجدر بمن هددوا الطفل في المدرسة، قتلة الطفولة، أن يهرعوا إلى الأم بدلًا من تحريض الطفل على إخفاء ما يحدث عنها.

وكان أفضل لمديرة المدرسة، وأكرم لها، أن تأخذ الطفل من يده، فور سماعها بالواقعة منه، وتحرر بنفسها محضرًا ضد المتهم، وتخابر الأم من قسم الشرطة، وتخبرها بنفسها بالأمر مع تقديم كامل الدعم والمساندة لها، وكان الناس سيشكرونها والله لفعلتها.

وكان أقوم أن يتذكر بعض المسيحيين أن لهم أطفالًا وأعراضًا. وكان أنزه أن يتذكر بعض المسلمين أن منهم من أجرم نفس الجرم ولم يُشِر أحد لدينه. 

إخص عليكي يا دنيا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.