
مستقبل السودان.. لا رايات بيضاء ربما أعلام جديدة
غياب الحلول السياسية يعيد شبح تقسيم البلاد إلى الواجهة
دخلت الحرب في السودان عامها الثالث، وبينما كانت تميل الكفةُ ناحية القوات المسلحة وحلفائها بقيادة عبد الفتاح البرهان على حساب الدعم السريع وحلفائه بقيادة حمدان دقلو حميدتي، بعد استعادة السيطرة على العاصمة الخرطوم، استيقظ سكان بورتسودان، في الشمال الشرقي للبلاد، المقر المؤقت للحكومة وقيادة الجيش، على صوت دوي انفجارات وتصاعد كثيف لألسنة اللهب والدخان.
الفوضى التي ضربت بورتسودان من جراء الهجمات المباغتة بالمسيرات الانتحارية التي شنتها الدعم بدءًا من 4 مايو/أيار الحالي، بدت كأنها إعلان رفض للاستسلام وتأكيد على أنها لا تزال تمتلك القدرة على التأثير ومواصلة الحرب.
انقسام أو وحدة
الحرب التي اندلعت في الخامس والعشرين من أبريل/نيسان 2023 نتيجةً للصراع على قيادة البلاد في المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط نظام البشير، خلقت أزمة إنسانية وصفتها الأمم المتحدة بـ"الأسوأ عالميًا"، إذ تسببت في أكثر من 150 ألف قتيل و12 مليون نازح.
قسَّمت آلة الحرب والنار وحسابات القبلية والتحالفات القديمة البلاد بين الطرفين إلى جزر، بعضها معزول وأخرى متداخلة يتنازعها الطرفان. وفق آخر المستجدات على الأرض، يبدو السودان منقسمًا إلى نصفين: الشمال والشرق والوسط في يد الجيش وحلفائه من الحركات المسلحة، والجزء الغربي الجنوبي في يد قوات الدعم السريع. فهل ينتهي مصير السودان إلى تقسيم جديد، ليس بين الشمال والجنوب، كما حدث في السابق، ولكن بين الشرق والغرب، كما الحال في ليبيا؟
الحديث عن انقسام البلاد لا يراه أستاذ السياسة العامة والإدارة بجامعة لونج آيلاند بنيويورك، بكري الجاك، سيناريو تخيليًا لكنه أمر واقع، فالأرض تمسك بها 3 إلى 4 سلطات فعلية.
يوضح بكري الجاك لـ المنصة أن هناك سلطةً في ولاية جنوب كردفان بدأت في التوسع، تفرضها الحركة الشعبية لتحرير السودان-شمال، التي لم تعلن انحيازًا واضحًا لأحد طرفي الصراع الجيش/الدعم، بالمقابل تخضع ولايات الخرطوم والجزيرة، والنيل الأزرق، وسنار، والقضارف، وكسلا والبحر الأحمر، لسيطرة الجيش، إلى جانب المناطق التي تسيطر عليها الدعم السريع.
في مقابل هذا الطرح يقلل الأكاديمي والخبير في شؤون القرن الإفريقي حسن مكي من مخاوف تقسيم السودان، مفضلًا توصيف الواقع على الأرض بأنها سيطرة مراكز قوى لحين التوصل إلى اتفاق سلام شامل ينهي الحرب.
ثروات السودان تتركز على ضفتي النيل وشرقُها يتحكم في التصدير وتجارة جيرانها
يؤكد مكي لـ المنصة أنه سواء ظل الدعم السريع موجودًا أو هُزم تمامًا أو اكتفى بالسيطرة على مدينة الضعين، عاصمة ولاية شرق دارفور، والحاضنة الأساسية له، لا بد أن نصل إلى اتفاق سلام يشمل جميع الأطراف، لأنه حتى القوات المُنكسرة والخلايا النائمة تظل تُهدد السلام والأمن المجتمعي إذا لم تحتوها السلطة المركزية.
ينظر الخبير في شؤون القرن الإفريقي إلى قوات الدعم السريع لا باعتبارها نواةَ نظام جديد، لكن منظمة أو حركة مسلحة "لن ينتهي شرها وعدوانها، إلا بعد اتفاقية سلام تحصل من خلالها على نصيب من السلطة".
لا يشبه السودان ليبيا، "فثرواته موزعة على النيل، والشرق يتحكم بالتصدير"، يستند مكي في تفاؤله بابتعاد شبح السيناريو الليبي عن بلاده إلى تشابك المصالح، واعتماد دول مثل تشاد وجنوب السودان على مواني السودان في تجارتها.
ويذهب إلى أن السيناريو المستقبلي الأقرب أن يواصل ما تبقى من هيكل الدولة السودانية العمل بشكل جزئي من خلال احتكار سلطة إصدار الأوراق الرسمية مثل الجوازات وبطاقات الهوية وتوثيق الزواج والطلاق، وكل ما يتعلق بشؤون المواطنين، وأن يستمر هذا الوضع ما لم يحدث انهيار للمناطق التي تخضع لسيطرة الجيش لتتحول إلى مناطق نزاع.
فيما يرى الخبير العسكري المعز العتباني أن مخطط تقسيم السودان قديمٌ، وليس نتاج صراع على السلطة، ويؤكد لـ المنصة أن هذا المخطط سبق وفشل بسبب قوة نفوذ المجموعات القبلية في الشرق والشمال والوسط ومجموعات من الغرب ورفضها تقسيم البلاد.
ويحذر من أن الأثر التي قد ينتهي له تغيير الديموغرافية السودانية بتسكين المرتزقة في جميع قرى ومدن السودان، متهمًا "قوات الدعم السريع بأنها في سبيلها لمحاولة الاستيلاء على السلطة جنَّدت أكبر عدد من كل قبائل الغرب وعززت قوتها بمرتزقة من عرب دول وسط وغرب إفريقيا، وهو ما تسبب في التغيير الديمغرافي في التركيبة السكانية".
أصابع الإمارات وأيادي إيران
لم تقف القوى الإقليمية الفاعلة موقفَ المتفرج السلبي، فمنذ بدء الحرب بادرت لدعوةِ طرفي الصراع أكثر من مرة إلى التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق سلام.
جرتْ ثلاث جولات تفاوضية رئيسية في جدة، برعاية السعودية والولايات المتحدة، لكنها فشلت في تحقيق وقف دائم لإطلاق النار، إضافة إلى محاولات أخرى في المنامة وجنيف، ركزت على تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المدنيين، لكن الجيش قاطعها، متهمًا الوسطاء بالانحياز، كما دعا الاتحاد الإفريقي طرفي الصراع إلى حوار سياسي بين السودانيين، من خلال مبادرة إيقاد لكنها لم تحقق تقدمًا ملموسًا.
وفي 10 أبريل الماضي، جددت الولايات المتحدة والسعودية دعوتهما لاستئناف المفاوضات، ودعتا إلى فتح ممرات إنسانية وحماية المدنيين، لكن إصرار كل طرف على شيطنة الآخر وتخوينه وعدم وجود حسم واضح على الأرض كانا سببًا أساسيًا في إجهاض كل محاولات التوصل إلى حل سلمي ينهي الحرب.
في مقابل جهود الوساطة، يتبادل كلا طرفي الحرب اتهام قوى إقليمية بتأجيج الصراع، ودعم الطرف الآخر بالسلام والمال، وهو ما يزيد من امتداد أمد الحرب، ويؤجج مخاوف انقسام السودان، فبينما يتهم الجيش والحكومة، الإمارات، بتوفير الغطاء المالي والعسكري لقوات الدعم السريع، فإن الأخيرة تتهم أطرافًا خارجية أيضًا بدعم الجيش السوداني، مثل مصر وإيران.
الاتهامات التي تبنتها حكومة السودان ترجمتها إلى رفع دعوى ضدها في محكمة العدل الدولية، رفضتها المحكمة في 5 مايو الحالي، لعدم الاختصاص، ما أسفر عن قرار سوداني بقطع العلاقات مع الإمارات واعتبارها دولة معادية.
بقاء السودان في حالة ضعف يخدم مصالح بعض الدول ويسهل سرقة موارده
وقبل أن تتجه حكومة السودان التابعة للجيش إلى المحكمة الدولية، أقدم حميدتي على مناورة ذكية قد تغير من موقعه كحركة مسلحة متمردة إلى حركة مسلحة بمشروع سياسي، إذ دعا في منتصف أبريل الماضي إلى تشكيل حكومة موازية عبر "تحالف مدني واسع يمثل الوجه الحقيقي للسودان"، والبناء على اجتماعات العاصمة الكينية نيروبي بين الدعم السريع وحلفائها من الحركات المسلحة.
كما أعلن التوافق على 15 اسمًا لتشكيل مجلس رئاسي، يتم اختياره من مختلف أقاليم السودان المختلفة ليكون "رمزًا للوحدة الطوعية".
سودان ضعيف.. سودان ممزق
لم تلق دعوة حميدتي لتشكيل حكومة موازية استجابة إقليمية واضحة، ربما سبب ذلك إدراك دول الجوار والقوى الإقليمية وبما فيها الإمارات، خطورة الاتجاه لتقسيم السودان، لأن ذلك لن يخدم مصالح أي دولة.
لكن وفق ما يراه الجاك فإن بقاء السودان في حالة ضعف وخوار وشل قدرته على الاستفادة من موارده المائية وثروته الحيوانية، يخدم مصالح بعض الدول ويسهل الاستغلال بشكل واسع.
فيما يتوقع حسن مكي أن يجد الدعم السريع نفسه في ظروف صعبة، لافتًا إلى أن الدول الإفريقية التي استقبلت قائده حميدتي سابقًا لن تكون قادرةً على مقاومة الضغوط ودفع ثمن حمايته في حال استعادت الدولة السودانية سلطتها وهيبتها.
ويختتم بأن سيناريو التقسيم غير وارد، وإن كانت الحرب أكملت عامها الثالث فإن التعافي وإزالة آثارها يحتاجان إلى أكثر من هذه المدة.