
بين مستقبل المدن وماضيها
أصبح شريط الشواطئ المصرية، سواء المطل على البحر المتوسط أو الأحمر، وبسبب الأزمة الاقتصادية الطاحنة، هدفًا لمشروعات استثمارية أجنبية ومحلية عديدة حولته إلى إقطاعيات طبقية، بجانب الآثار البيئية التي ترتبت بالفعل، أو ستترتب، على هذه المشروعات.
يمثل هذا الشريط هبة الطبيعة والموقع الجغرافي الاستثنائي لمصر، وعلى مدار التاريخ الحديث، بحكم استثنائيته أو قوانين البيئة التي سُنَّت فيما بعد؛ جرى التعامل معه كمحميات بيئية يُمنع البناء عليها لما بها من موارد طبيعية نادرة، وتوازن بيئي.
يمتد هذا الشريط بطول 950 كيلومترًا على البحر المتوسط، و1900 كيلومتر على البحر الأحمر، والأخير، على سبيل المثال، يحتوي العديد من المحميات الطبيعية، بالإضافة لاحتضانه قبائل البجا، وهي من أقدم الشعوب الإفريقية التي استقرت هناك منذ آلاف السنين، واتخذت نمط حياة شديد الجمال والخصوصية، سواء في أساليب التفكير أو سبل العيش وأدواته، ربما يوازي في تفرده ندرة واستثنائية المكان نفسه.
جيتوهات أجنبية
تهدف هذه الاستثمارات في الأغلب لإقامة مدن سكنية، أو مشروعات ترفيهية وتجارية. على سبيل المثال، مشروع تخطيط مدينة رأس الحكمة في الساحل الشمالي الغربي المقدم من مجموعة "مدن القابضة" الإماراتية، ومشروع بناء فندق سياحي في الجنوب الشرقي على شاطئ راس حنكوراب، بمحمية وادي الجمال بمرسى علم، والذي أثار العديد من التساؤلات، كون المحمية تخضع لقوانين تمنع البناء عليها، لاحتوائها أنواعًا نادرة من الشعب المرجانية وأماكن تعشيش لسلاحف مهددة بالانقراض عالميًا.
مثل هذه المشروعات، بجانب مخالفتها لقوانين البيئة، ستتحول في المستقبل إلى ملكيات خاصة غير متاحة للناس العاديين، أصحاب الحق الأصيل، هم وآباؤهم وأجدادهم، في الاستمتاع بهذا الأثر الجغرافي النادر.
لم تتوقف الاستثمارات على السواحل، بل امتدت قبلها داخل المدن، مثل ما حدث مع شريط شاطئ الإسكندرية الذي استُغلِّت غالبيته لصالح مشروعات استثمارية وترفيهية، حتى أن جزءًا منه أصبح يُستخدم جراجًا للعربات.
إقطاعيات حديثة
تمثل هذه المدن الجديدة المقترحة، بجانب مدينة العلمين بالجديدة ومن قبلها النموذج الأم دبي، نموذج مصري لمدن الجيل الرابع؛ محميات طبقية نقيضة، مصممة لصالح مجتمعات خاصة أو إقطاعيات حديثة بتعبير عاطف معتمد أستاذ الجغرافيا في كتابه صوت المكان. ومع الزمن، ستتحول تلك الاستثمارات الآتية من خارج مصر إلى جيتوهات أجنبية تعيد رسم خريطة الاستعمار القديمة، لكن بصورة تجارية.
أحيانًا يصعب عليَّ تخيل صورة مصر في المستقبل، وبداخلها كل هذه الأسوار الذي تقسمها إلى كانتونات.
لم تعد الأسوار تخص فقط الكومباوندز والقرى السياحية الممتدة بطول الساحل الشمالي، لكنها توسعت لتحوط المدن. وحتى في غيابها، أصبح الفارق الطبقي بين داخل المدن وخارجها ملموسًا، مثل برزخ مرج البحرين! فالفوارق الطبقية وأنظمة العيش المميكنة أصبحت نموذجًا لأجيال المستقبل التي لم تعرف من الحياة سوى هذا النمط، المقطوعة علاقته تمامًا بالبيئة والتاريخ.
مآل السكان الأصليين
على المدى القريب، والبعيد أيضًا، سيكون تعمير هذه الأماكن وتحويلها إلى مدن حديثة ومنتجعات سياحية، سببًا في القضاء على الاختلاف الذي تمثله القبائل القليلة التي تسكنها. فالطبيعة لا تقتصر على الأرض والبيئة، رغم أحقيتها، ولكن تختار هذه الطبيعة/البيئة إنسانًا شبيهًا بها، صُنع على عينها، وله قدرة على التحمل وقراءة أفكارها، والتساوي معها أخلاقيًا، فصارت هناك لغةُ تبادل بين إنسان هذه الأماكن والطبيعة.
ربما يعكس هذا الاختلاف الصورة التي تكونت بها المدن، تاريخيًا، ليس بالاتساق بين الإنسان والمكان/الطبيعة، بل بانفصام العلاقة بينهما، فتحولت المدن إلى ماكينات استنساخ بشرية تُعمِّق أكثرَ مساحةَ عدم التوافق بين الإنسان وحياته، وفقدت لغة التواصل بينهما.
بدلًا من القنص يجلس السكان الأصليون الآن على موائد الروليت يتابعون مصائر الكرات الدوارة
هناك تجربة حديثة، في القرن التاسع عشر، عاشتها شعوب حضارتي الأزيتك والمايا، بعد انتهاء الحرب الأمريكية المكسيكية. فقد سُمِح لهم بالعيش داخل مقاطعات صغيرة بولاية كاليفورنيا، التي كانت أرضهم قبل الحرب، ليديروا ملاهي القمار، وتحولت حياتهم كلها إلى مزار سياحي منقطع العلاقة مع الماضي.
في إقامة فنية أدبية في لوس أنجلوس عام 2009 امتدت لشهرين ونصف الشهر، قمنا، زوجتي وأنا، برحلة إلى صحراء موهافي التي تقع جنوب شرق كاليفورنيا، على بعد حوالي 70 كيلومترًا من المكسيك. سرنا في طريقنا بمحاذاة سلسلة جبال سان جابرييل بألوانها المتدرجة من الأحمر للرمادي حيث كان السكان الأصليون.
وصلنا أولًا إلى مدينة سان برناردينو أو مدينة الأراضي الحمراء، مررنا في الطريق بمزارع عملاقة للبرتقال وفنادق القمار في منطقة كابازون، ومن أشهرها فندق وكازينو مورونجو الذي يملكه الآن نسل السكان الأصليين الذين كانوا يسكنون هذه الجبال الوعرة، وبدلًا من القنص، أصبحوا يجلسون على موائد الروليت يتابعون مصائر الكرات الدوارة والأرقام وحركة القواشيط.
أرمي ببصري على قمة الجبل مراقبًا الزمن الذي سيهبط منه الهندي الأحمر على حصانه، ليدخل في زمن القمار.
عام 1936 ودَّ الشاعر والمسرحي الفرنسي أنتونان آرتو أن تكون رحلته إلى المكسيك، حيث أرض المسيح، على ظهر حصان، عابرًا بكل هذه الصحاري المقدسة.
كتب قبل السفر واصفًا الرحلة بأنها "رحلة إلى أرض الدم الناطق"، ويضيف في مذكراته "جئت إلى المكسيك هربًا من الحضارة الأوروبية". ويضيف في محاضرة ألقاها بجامعة المكسيك "لقد مزّقت أوروبا الطبيعة بعلومها المنفصلة". قضى هناك 10 شهور، عاش خلالها في الجبال، بعيدًا عن المدينة، مع السكان الأصليين، وشاركهم طقوسهم المقدسة.
الصحراء حافظت على الاختلاف
وسط السياق الاستثماري الجارف في مصر، تُستَوعب هذه الثقافات المختلفة؛ فلم يعد لقبائل أولاد علي الحضور نفسه في الصحراء الغربية، كما كان في الماضي القريب.
كنت أراقب حياتهم، في مراحل عمرية مختلفة من شباك السيارة الخاصة، أو الأوتوبيس العام، أو العربة البيجو 7 راكب، في طريقي لمرسى مطروح. ألمح هذا الشريط الأسود من النساء البدويات بملابسهن ذات الألوان القوية، والطُرح السوداء التي تغطي شعورهن المصبوغة بالحناء، يجلسن على قارعة الطريق في انتظار من ينقلهن لمكان آخر، ومن خلفهن بيوتهن الملونة ذات الأحواش التي يخرج منها صريخ الأطفال وأصوات أمهاتهم.
أهل هذه الأماكن النائية دفعوا ثمن هذا الاختلاف
أيضًا في القصير ومرسى علم والشلاتين وحلايب وأبو رماد وجبل علبة، حيث تعيش قبائل البشارية والرشايدة والعبابدة، تحولت الأماكن إلى منتجعات وقرى سياحية تحاصر حياة سكانها الأصليين، ربما يستقبلونها فرحين بالرزق الضنين، ولكن مع الوقت يكون الرهان هو الثقافة نفسها، التي أصبحت مادة المقايضة.
هذه القبائل التي رعت وحافظت على الصحراء على اختلافها، ومن ورائهم جاءت الاستثمارات والشركات الباحثة عن الذهب، لتستيقظ المنطقة على واقع جديد.
عندما زرت منذ عدة سنوات مدينة القصير، على سبيل المثال، شعرت بأن المدينة التي كانت إحدى نقاط الحج القديم، تحتفظ بهدوئها الملحوظ، وكأنها تجلس خارج الزمن أو على حافته المبتورة، كأنها طفل تربى في الغابة بعيدًا عن المدنية، مثل طفل ابن طفيل في حي بن يقظان.
هذا الشريط من المشاهد التي تمر أمام عيني كأنه حدث في الماضي، كأنني في رحلة إلى الماضي أسترجع بها إحدى حيواتي المتكررة في قانون الكارما.
ربما يجب أن يظل هناك من يمثل هذه الثقافة القديمة حتى ولو لم تتطور، فوجودها ضروري ليكون حلقة وصل إنسانية مع الماضي.
قيمة الماضي في هذه الثقافات مهم جدًا لأنه حي ومتحرك، حتى ولو كانت حيلته ضعيفة أمام الحاضر المتحضر الذي يحوطه من كل جانب.
ثمن الاختلاف
دفع أهل هذه الأماكن النائية ثمن الاختلاف. كان بينهم وبين المدينة/التحضر مسافات طويلة. هذه العزلة كانت ثمنًا، ولكنها عزلة مختارة ليست إجبارية، لذا كان أي ثمن يدفعونه مشفوعًا بالرضا، لأن هناك حياة أخرى يحافظون على بقائها، فكانوا مثل ممثلين لأنواع نادرة من البشر مهمتها الحفاظ على الاختلاف من أجل ثراء البشرية، وليحفظوا للعالم القادم والمضطرب بعضًا من حضارات الماضي، ليكونوا بمثابة ذاكرة مؤقتة عندما نفقد، في المستقبل، ذاكرتنا مع الماضي.
في هذه الأماكن هناك انفتاح نفسي ووجودي على الطبيعة، مما منحهم إنتاج أساسات بقائهم، بل ويمنحون هذا الإنتاج والبيئة، معًا، بصمتهم الخاصة، مرورهم الإنساني، بكل مخاطِره، وسرعة زواله؛ هذا الوجود المادي شديد الرقة والجمال، المتجسد في أدوات حياتهم وطرق عيشهم.
بدون أي تعال أو شفقة أجد في هذا السلوك دورًا أكبر يقومون به عن طيب خاطر، لصالح مفهوم التعدد والاختلاف.
غرائبية أصيلة
لا غضاضة في الغرائبية التي تمثلها هذه المجتمعات بالنسبة لمجتمعات المدن، لو أنها تعيش مخلصة لزمنها، ولم تتحول بعد إلى سلعة، أو بازار سياحي.
قابلت محمد البشاري في طريقنا إلى جبل علبة، وهو واقف أمام باب المَضْيفة المصنوعة من فروع أشجار الأكاسيا، ودعانا لنجلس معه ونشرب شراب الجَبَنة. كان يرطن مع سائق عربتنا بالبجاوية، وشاركناه حدثًا مهمًا، من أحداث حياته، فقد كان يغيِّر اتجاه باب المضيفة مع تغير اتجاه الريح، يسد بابًا ويفتح آخر، مع تغير الفصول.
إنها غرائبية مخلصة لزمنها، أن تكون امتدادًا طبيعيًا للماضي، موصولة به، وهو الشيء النادر الآن. فطالما لم نقدر على قطع علاقتنا مع الماضي معرفيًا، فعلى الأقل نعيد استيعابه كجزء من حاضرنا، كأسلوب حياة، وأسلوب مقاومة.
الغرائبية الحقيقية أن نتماهى مع الحاضر بكل حذافيره، أو ما يدبره لنا المستقبل، تبعًا للتحديث الذي يجري، في استسلام تام، ونضع وراء ظهورنا هؤلاء الأقرب لنا، الذين يمثلون زمنًا مختلفًا عن زمننا.
في أسفار قديمة، وبدون أن أدري، كنت أحمل نظرة استعلاء لهؤلاء، ليست مباشرة، ولكن تظهر في نوع الشفقة التي كنت أكنها لهم، لهؤلاء الذين لا يزالون يعيشون في كهف زمني، كما كنت أتخيل، كأني رسول المستقبل، أحمل لهم إجابات، وأرى مستقبلهم الذي سيهجرون فيه حياتهم، بينما هم رُسل الماضي.
حتى الآن ظل هناك من يتمسك بالماضي، ليس كتاريخ ولكن طريقة حياة ولو في نواحٍ مجتزأة. ظل هناك بينهم من سيشفق عليَّ، عندما أجلس بين يديه، كأنه هو رسول مستقبلي بشكل ما، وسألجأ إلى هذه الطريقة الغرائبية يومًا ما كأحد الفراديس المفقودة.
ظلَّ حلمُ أن يكون لنا، زوجتي وأنا، بيتٌ في سيوة قائمًا طوال 25 عامًا. اشترينا الأرض ولم نبنِ البيت، بسبب ظروف حياتية مرتبطة بعلاقتنا بالمدينة. لم نخطُ هذه الخطوة الفاصلة ولم نقطع الخيوط. ولكن هذا الحلم الحقيقي فتح الطريق أمام نظرة جديدة لسيوة، وغيرها من الأماكن. ربما نظرة عادلة، كونك أصبحت، عبر الحلم وما يمثله، جزءًا منها، ولست منفصلًا عنها، أو باحثًا فقط عن هدوء العيش، بل عن منفذ ومساحة للنجاة من وطأة مدننا ومستقبلها.