نُشر المقال بالإنجليزية في موقع "ديلي نيوز إيجيبت"
ترجمة فريق المنصة
الق نظرة على مسار التاريخ وسوف تجده ممتلئًا بالرجال الأقوياء الذين لم ينتبهوا لأجراس الإنذار الاقتصادية. "إنه الاقتصاد يا غبي" هذه هي الجملة التي صُكت أثناء حملة بيل كلينتون الناجحة ضد جورج بوش، وهي جملة تنطبق بدقة على مصر اليوم.
معدل بطالة مرتفع بين الشباب؟ هذه "كش" واحدة بمصطلحات الشطرنج. أزمة في العملة؟ هذه كش مزدوجة. ارتفاع الأسعار؟ هذه كش ثلاثية. السياحة الغارقة؟ نعم يا سيدي. قناة السويس فاشلة؟ هذا صحيح. سياسة مالية فاشلة؟ هذا واضح. ولكن هل هذه هي أكثر الأمور المخيفة في مصر؟! من المرعب أن نقول لا. العملة والنظام المصرفي هما مقياسان على ما هو أكثر من الاقتصاد، ومن الصحيح أنهما في الأوقات التي تسبق الانهيار يكونان مؤشران على الشيء الذي يهدم الدولة: عدم الثقة العامة. وفي أيامنا هذه، لا يمكن أن نضع "الثقة" و"الحكومة المصرية" في جملة واحدة.
حتى نبحر في قاع هذا المستنقع، علينا أن نوجه أعيننا نحو الخليج. هؤلاء الذين يفككون الطريقة التي تُدار بها الأعمال في المنطقة يفهمون شيئين عن الدول التي يحكمها الملوك، وهي أن النفط والمحافظة السياسية وفيران فيهما. في اللحظة التي فجّرت فيها الشعوب برميل البارود عام 2011، بدأ سماسرة السلطة في الثورة المضادة في العمل من القاهرة ومن عواصم الخليج. كان من قبيل المنطق التفكير فيما يُطلق عليه "الربيع العربي" إذا لم يتوقف، فسيحل الدور على الأسر الملكية في الكويت والسعودية والإمارات. الأرجح أنهم رأوا أنه من الواجب عليهم أن يعيقوا المد الثوري. في النهاية، هذه هي مصر نفسها، التي تنقل العدوى للمنطقة كلها بحسب شهادة التاريخ. فبينما وقع العديد من الناس في غرام المعسكر الثوري الناجح، استدعت السلطات الميكيافيلية ثورة مضادة تتكون من خطوتين.
الخطوة الأولى هي أن توضع جماعة الإخوان المسلمين الجائعة للسلطة على رأس الحكم، مع المعرفة التامة بأن الجماعة تنقصها خبرات الحكم، إذ إن قيادة دولة في النهاية لا يشبه قيادة المشروعات الاجتماعية والاقتصادية الصغيرة، كانت الخطة هي الانتظار ومراقبة الجماعة وهي تنهار.
مع بزوغ الشمس المُعاقبة لشهر يوليو/تموز عام 2013، كان الجزء الثاني من الخطة مُعدًّا للتنفيذ، يظهر فرعون جديد: عبد الفتاح السيسي. وبمزيج من عدم الأهلية والسذاجة السياسية، لم تكن جماعة مرسي قادرة على إيقاف مد القومية العسكرية المتطرفة للسيسي. كان السيسي عملة وجدها الغرب والخليج مألوفة، إذ يتيح بعض الحريات، يحقق بعض الأمن، ويخوض في المستنقع الاقتصادي بمساعدة العديد من الحلفاء الذين تقودهم الملكيات المحافظة.
بعد مرور تسعة أشهر من عهد السيسي، أقيم مؤتمر اقتصادي كبير لدعم الجنرال السابق. الاستثمارات المعلن عنها والمبالغ فيها والتي وصلت إلى 138 مليار في أول 48 ساعة من المؤتمر، قدمت أملًا زائفًا. احتفلت الصحافة المحلية، التي يسيطر عليها أسلوب لا يختلف عما كانت عليه في زمن عبد الناصر، بالنجاح المذهل، وكان خطأ الرجل القوي الأول هو الاقتناع بما تقوله صحافته. قال السيسي في ذلك الوقت: "مصر محتاجة مش أقل من 200 لـ 300 مليار عشان يكون فيه أمل للتسعين مليون يعيشوا بجد". ولكن كثيرًا ما يقود سراب تلك المؤتمرات إلى أقل مما تعد به. تأثرت الأحلام الاقتصادية بالكوابيس البيروقراطية على أرض النيل. ما تبع ذلك أثبت أن الوعود شيء مختلف عن الواقع في عهد الفرعون الأخير.
"العوائق الملحوظة أمام الاستثمار قائمة" هكذا ذكر تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية لعامي 2015-2016 عن مناخ الاستثمار في مصر، على الرغم من حقيقة أن واشنطن-للمفارقة- تنظر بشكل إيجابي للغاية لـ "ترامب المصري". وبغض النظر عما يدور بداخل السيسي، وسواء سَجِن وقَتل الآلاف أم لا، فأمريكا تتعاون مع السيسي، على الرغم من إخفاقاته الواضحة. من ضمن النقاط الضعيفة لدى السيسي هي عدم قدرته على تغيير البيئة الاقتصادية القديمة. "يمكن أن يكون هناك تأخير لعدة أشهر لتنفيذ تحويلات للعملات الأجنبية". وفي حالة الدوران حول هذا الجدار ووفقًا لوزارة الخارجية الأمريكية، يجب علي المستثمرين الدوليين الاعتماد على القوة العاملة المحلية، و التي لا تتناسب كثيرا مع المستويات الدولية، وذلك بنسبة 90% في العموم، ونسبة 75% في المناطق التجارية الحرة. وعلى الرغم من أن الاستثمار الأجنبي المباشر له أولوية قصوى لدى النظام، يستمر الواقع في التكشير عن أنيابه. في وقت تعاني فيه مصر من نقص العملة الصعبة بسبب كون السياحة تترنح على منحدر الإرهاب، وتأذي قناة السويس من انخفاض أسعار النفط، يقترب الاستثمار الأجنبي من التوقف. وانتهت أحلام الـ 138 مليار دولار الخرافية التي أُعلن عنها مؤتمر التنمية الاقتصادي في مصر، ولم يحل محله سوى الواقع القاسي المتعلق بالاستثمار الأجنبي المباشر في التسعة أشهر الأولى بين عامي 2014 و2015، والذي لم يتجاوز الـ 6 مليارات دولار. تكشف تلك الأرقام عن قلة ثقة المستثمرين في العالم – وهناك سبب حقيقي لهذا.
إذا لم تستطع أن تجلب الاستقرار والممارسة المنضبطة لسوق العملة المحلية، كيف يمكن أن تأمل في الحصول على ثقة المستثمرين، والمنظمات الدولية، والشعب؟ يبدو أن السيسي يفتقد الفهم الأساسي للدمار الاقتصادي والسياسي الكامن الذي يمكن أن يؤديه ارتفاع سعر الدولار الأمريكي للاقتصاد المصري المنهار. في اليوم الذي حلف فيه الرئيس اليمين ، في يونيو/حزيران 2014، كان سعر الدولار 7,15 جنيه مصري. الآن، وبعد مرور 26 شهرًا فقط، تقلص سعر العملة المحلية ليصل إلى حوالي النصف، بينما زاد الدولار، لأول مرة متعديًا سعر الـ 13 جنيه الأسطوري، وذلك في السوق السوداء المزدهرة في مصر. تحت إدارة السيسي، قيل عن الجنيه مؤخرًا وفقًا لوكالة بلومبرج: "من أسوأ العملات أداءً في العالم".
لنتوقف وننظر إلى ذلك من خلال عيون المصريين. لديك رئيس يمهد الطريق لإجراءات تقشف قاسية، وبالإضافة إلي ذلك يعترف محافظ البنك المركزي المصري أن سياسة مصر المالية في مواجهة الدولار كانت "خطأ فادحًا"؛ بالتالي هناك إمكانية للنظر إلى فوهة بندقية سياسات صندوق النقد الدولي العقابية كثمن للاحتياج المُلّح لاقتراض 12 مليار دولار. كيف يمكنك أن تتحلى بالثقة؟ ولِم عليك أن تتحلى بالثقة؟
كان السيسي على حق من احدي الجهات: "الإشكالية الموجودة في بلادنا على مدى 30 و40 سنة هي جسر الثقة" بين المسؤولين والمواطنين. ولكن في الفقاعة الصغير المكونة من رجال ونساء موافقين دائمًا، لا يدرك السيسي أن الإخفاق الاقتصادي المنظم يخلخل من الحد الأدنى من الدعم على الجبهتين الداخلية والخارجية، ذلك الدعم الذي يحتاجه من أجل نجاته الشخصية.
حتى وهو يحاول إنقاذ نظامه المتخبط، يناقض الزعيم المصري نفسه. في خطاب له في أغسطس/آب أكد على الحاجة إلى "توصيل حجم المعرفة" للمواطن لقبول الإجراءات القاسية المنتظرة. ولكن هل فَعَل السيسي ذلك؟ معالم فترة رئاسة السيسي تُظهر قرارات مثل "تيران وصنافير"، والمليارات التي أنفقت على مشروع فاشل لقناة السويس، والآن الحصول على 19 مليار دولار كقرض من صندوق النقد الدولي ومصادر أخرى، كل هذه القرارات مرت بدون نقاش وطني قبل تنفيذها.
في هذه العلاقة، يتصرف الحاكم باعتباره الأب "الذي يعرف الأفضل"؛ ولكن بالنسبة للملاحِظ العابر، فالأب لا يعرف الكثير عن ألف باء الحكم، وعن النقاش الضروري مع الشعب الذي يعتمد إيمانه الطيب على أنه سينهي فترته الحالية فحسب.
هناك آلاف الأسباب التي جعلت غلاف الإيكونوميست الشهر الماضي يحمل عنوان "تدمير مصر" ويستمر ليقول "القمع وعدم الكفاءة يغذيان الانتفاضة القادمة". يؤذي السيسي جيوب المصريين ويحرق هذا رباط الاستقرار السياسي.
أي شخص يستمتع بالمطبخ المصري سيخبرك عن مكونين دائمين في الغذاء المصري اليومي هما: الأرز والخبر. عندما حاول السادات أن يرفع الدعم عن الأخير عام 1977، حدثت "انتفاضة الخبز". في تقرير حديث للبنك المركزي المصري نكتشف أن الحاكم الحالي ليس دارسًا ماهرًا للتاريخ. زيادة سعر الأرز "بمعدل 47,49% في الشهور الستة الأولى لعام 2016" هو رقم فلكي بالمقارنة بـ 4,52% في عام 2015. وبالنسبة لرئيس يعتمد على نوع آخر من "الأرز" القادم من الخليج، ربما تؤدي هذه المشكلة إلى قصم ظهر السيسي، أضف إلى ذلك معدل البطالة المخيف الذي يصل إلى 40% وسط الشباب. يمكن أن نقول بثقة إن السيسي لم يستمع لتحذير: "إنه الاقتصاد يا غبي". في التقرير نفسه ذُكرت بشكل عابر إحصائية تعكس تدهور ثقة السعودية في إدارة السيسي. وباعتبار السعودية هي داعمه الأكبر، فهي تَجُبّ كل المتبرعين الخليجيين، بتقديم 6 مليار دولار منذ عام 2013، العام الذي صار فيه السيسي الحاكم الحقيقي. ولكن بشكل كاشف فهي لم تقدم بنسًا واحدًا في عام 2016. ليست السعودية الاستثناء؛ إذ تحولت إقامة مؤقتة بالقاهرة لمجموعة استشارية اقتصادية إماراتية إلى أمر لا يطاق، بعدما اصطدمت المجموعة بـ "البيروقراطية المتصلبة والقيادة العقيمة"، وفوق تلك الكعكة البشعة هناك حبة الكريز المسمومة، وهي معدل التضخم الذي يصل إلى 14% والمستمر في الصعود.
عندما يأتي الحديث عن الأمن القومي، كثيرًا ما يتحدث السيسي عن الأعداء الخارجيين أو "أهل الشر" أكثر مما يتحدث عن سوء الإدارة الاقتصادية، ولكن عدم الثقة والغضب العامين هما اللذان يتزايدان، وذلك الذي يمكن أن يسرّع من سقوط السيسي.
مربط الفرس هو الاقتصاد، وإذا لم يفهم الفارس ذلك، ستركض مصر إلى الهاوية.