في الثلث الأخير من الثمانينات؛ تلقى عاطف عبدالله (مدير المطبعة السرية لوزارة التربية والتعليم حينها)، مكالمة هاتفية من مكتب وزير التعليم فتحي سرور تطالبة بالحضور فورا لمقابلته.
لم يكن استدعاء موظف كبير مثله لمكتب الوزير ليلاً أمرًا معتادًا، ما دفعه لإجراء عدة اتصالات مستفسرًا عما يحدث، وكانت الإجابة: "بيقولوا السرية انضربت يا أستاذ عاطف". وضع مدير المطبعة السرية سماعة الهاتف، وارتدى ملابسه على الفور منطلقًا صوب مكتب الوزير.
عند وصوله لمكتب سرور؛ وجد الوزير جالسًا بصحبة الراحل مصطفى شردي، رئيس تحرير جريدة الوفد حينها (ووالد رئيس تحريرها الحالي)، الذي تلقى ورقة من أحد القراء، أثارت قلقه ودعته للاتصال بجهاز أمن الدولة، الذي وجهه بدوره للقاء وزير التربية والتعليم بصحبة ضابطين في الجهاز، كانا جالسين في كامل توترهما وأناقتهما في ملابسهما المدنية في مكتب فتحي سرور، عندما وصل مدير المطبعة السرية.
دون كلام، مد الوزير يده بالورقة نحو الوافد الجديد على الغرفة ثم سأل: "ده امتحان الفرنساوي يا عاطف؟" بعد نظرة سريعة رد الرجل نافيًا، فاسترخت الوجوه القلقة المتجهمة وارتاح ممثلو الدولة لنجاة السرية الغالية.
قدس أقداس الدولة
لو لم تكن الواقعة سالفة الذكر كافية لتدلل على أهمية سرية امتحانات الثانوية العامة، بالنسبة لقوة الدولة وهيبتها في نظر مسؤوليها؛ فعليك بتأمل نص قرار رئيس الوزراء رقم 2016 لسنة 2016، المعلن عنه يوم الأربعاء 27 يوليو/ تموز، والصادر في عدد الجريدة الرسمية رقم 29 مكرر (ب) الحامل لتاريخ 24 يوليو.
يعلن القرار أخيرًا عن تشكيل اللجنة التي بشّر بها وزير التربية والتعليم الحالي "الهلالي الشربيني" في يونيو/ حزيران الماضي. والمكونة من 20 عضوًا، منهم 9 من وزارة التربية والتعليم، منهم اللواء محمد عمرو الدسوقي رئيس الإدارة المركزية للأمن.
كما تضم اللجنة ثلاثة ممثلين لهيئة الأمن القومي (إحدى الوكالات التابعة لجهاز المخابرات العامة) يذكرهم القرار بأسمائهم دون مناصبهم، ومقدمان بالقوات المسلحة لا يعرِّف القرار مناصبهما. ثم ثلاثة أخرين يحملون رتبة مقدم، اثنان منهما من جهاز الأمن الوطني والثالث من قطاع التكنولوجيا والاتصالات بوزارة الداخلية. وممثلان عن وزارة الاتصالات وممثل واحد عن وزارة العدل.
يشير هذا التشكيل لقلق الدولة البالغ من وقائع تسريب الامتحانات والغش الإلكتروني، حتى أنها حشدت سبعة من ممثلي أرفع أجهزتها الأمنية الموزعة بين الشرطة والقوات المسلحة والمخابرات، ليشرفوا على "تطوير المناهج ومكافحة الغش الإلكتروني"، وتطوير شكل ورقة امتحان الثانوية العامة بحسب نص القرار.
ورقة امتحان الثانوية العامة – على ما يبدو- تعتبرها الدولة مظهرًا من مظاهر الهيبة والسيادة والسيطرة، حتى أنها ترى "ضرب السرية" (مصطلح يعني في الجهاز البيروقراطي تسريب الامتحانات) تهديدًا للأمن القومي، يستدعي حشد كل تلك القيادات الأمنية من الجهات التي توصف في الإعلام بكونها "سيادية".
لغز التسريب
لايزال تسريب الامتحانات، حتى اللحظة التي يواصل فيها الطلاب التقدم بأوراقهم لمكتب التنسيق اليوم، لغزًا. فرغم تحركات وزارتي التربية والتعليم والداخلية، في محاولات لحصار عملية التسريب وإيقافها بالقبض على العديدين وتوزيع الاتهامات على طلاب وموظفين بوزارة التعليم وحتى اتهام جماعات سياسية؛ إلا أن كل تلك الإجراءات لم تمنع تسرب الامتحانات الذي استمر حتى نهايتها.
حتى الآن، الثابت أنه تم القبض على موظف بالمطبعة السرية يدعى عاطف ع.م، بعد اتهامه بتسريب الامتحانات. يجدر التوقف عند معلومات نشرتها جهات التحقيق تفيد بأن "عاطف" هذا -وهو المسؤول عن كتابة الامتحانات- سجله الوظيفي ليس ناصع البياض. فقد صدر ضده حكم من المحكمة التأديبية بعد ثبوت تورطه في إهدار المال العام، ليصدر قرار بمنعه من الالتحاق بأي عمل له علاقة بالامتحانات، ووقف ترقيته لمده عامين. ورغم صدور هذا الحكم القاطع إلا أن "قدس أقداس الوزارة" كان بين يديه.
القبض على عاطف لم يحل دون استمرار التسريبات، ولم تجد الوزارة بدًا من طبع الامتحانات في مطابع جهة سيادية، على أن يتولى الجيش بنفسه تأمينها كما اُعلن رسميا. وهي سابقة ذات دلالة مهمة، فبصدور هذا القرار تعترف الوزارة ضمنيًا بعجزها عن تأمين الامتحانات داخل مطبعتها السرية، مما يشير إلى أن التسريب ربما يتم من داخلها، وإن كان يجزم بأن الوزارة مُخترقة وغير قادرة على تأمين الحدث الأهم لديها.
بالفعل؛ طُبِعَت الامتحانات في ذمة الجيش الذي نجح في تأمينها حتى وصلت اللجان. لكن بعد عشر دقائق من بدء الامتحان؛ كانت الأسئلة والأجوبة على صفحات التواصل الاجتماعي، لترد الوزارة كالمعتاد: "هذا ليس تسريب بل غش إلكتروني". وبعيدًا عن المسميات؛ فالثابت أننا أمام حالة "عجز"، يكشف فداحتها؛ أن نتتبع مسار ورقة امتحان الثانوية العامة، ومدى حرص الدولة بكامل قوتها الأمنية على تأمينها.
مسار الامتحان
في أحد المقاهي القريبة من نطاق الوزارة، التقت "المنصة" باثنين من موظفي إدارة الامتحانات، بعدما تعذَّر لقائهما في مكتبيهما؛ نظرا للكتاب الدوري الصادر عن وزير التعليم يوم 28 مايو/ أيار الماضي بمنع العاملين بالوزارة من الحديث مع الصحافة هذا العام. حتى أن المتحدث الرسمي باسم الوزارة، بشير حسن، والذي تقتصر مهام وظيفته على التواصل مع الإعلام؛ لم يرد على مكالماتنا أو رسائلنا النصية، وقد حاولنا التواصل معه مرارًا لنقل تعقيب الوزارة على هذا التحقيق، دون أي استجابة.
ووافق موظفان مطلعان على مسار عملية امتحانات الثانوية العامة على الحديث معنا شريطة ألا نذكر اسميهما.
بصوت خفيض بينما يتلفت حوله قلقًا، همس السيد محمود (اسم مستعار): "مسار ورقة امتحان الثانوية العامة معروف ومحدد، ومتابعته ممكنه لكشف مواطن الخلل".
يتابع الموظف في إدارة الامتحانات بالوزارة: يبدأ إعلان الطوارئ من لحظة وضع الامتحان، والتي تتم بمعرفة اللجنة الفنية لواضعي امتحان الثانوية العامة، وتتشكل بإشراف مستشار المادة (منصب بالوزارة يحتله مدرس ذو خبرة كبيرة في تدريس تلك المادة) وتضم عدد من المدرسين الأوائل والموجهين، ويتفاوت عدد أعضاء اللجنة من مادة لأخرى.
تجتمع اللجنة في مقر المطبعة السرية، وهي المطبعة المنوط بها طباعة امتحانات الثانوية العامة والدارسين بالخارج، ومقرها "المنيرة" أمام حزب الوفد القديم بوسط القاهرة. يضع أعضاء اللجنة الأسئلة بشكل منفرد على قصاصات من الورق، ثم تكتب على جهاز كمبيوتر خاص بمدير المطبعة السرية "محمد مصطفى" الذي تم نقله لوظيفة أخرى عقب التسريبات الأخيرة، تم تُعدم الأوراق الخاصة بالأسئلة بمعرفة مدير المطبعة شخصيًا. وعندما يكتمل وضع الامتحانات؛ تبقى نسخها الرقمية المكتوبة على كومبيوتر رئيس المطبعة في حوزته وحده، حتى تجري عملية الطباعة قبل الامتحانات بأيام قلائل لضمان السرية.
يلتقط سعد (اسم مستعار) الموظف بالإدارة نفسها الحديث ليضيف: "تضم المطبعة حوالي 40 موظفًا أغلبهم من المدرسين. ويُختارون للعمل بالمطبعة بعد تحريات أمنية مشددة يقوم بها جهاز أمن الدولة (الأمن الوطني حاليًا)".
ويوضح سعد أن العاملين بالمطبعة لا يتاح لمعظمهم الإطلاع على الامتحانات، فمنهم إداريون وموظفون للأمن وعمال نظافة. ويبلغ عدد هؤلاء حوالي نصف الموظفين. أي أن من يشتبك مع الامتحانات هم حوالي 20 موظفًا فقط. هؤلاء الموظفون مطالبون كل عام بتقديم إقرار للوزارة بأنهم لا أبناء لديهم أو أقارب من الدرجة الأولى يدرسون في الثانوية العامة. فإن كان لديهم أقرباء بالثانوية العامة يتم انتدابهم لمكان آخر بالوزارة؛ على أن يعودوا لمقر عملهم بعد انتهاء هذا الظرف.
يقول سعد: "مكافآت العاملين بالمطبعة السرية مجزية جدا، وهي الأعلى في الوزارة (2000 يوم)، وهو مبلغ سخي حتى لا يرتشي أحدهم بدافع العوز".
بعد طبع الامتحانات توزع على المظاريف المحددة لكل لجنة، ثم توضع تلك الأظرف في صناديق مُحكَمَة. وقبل ساعات من بدء الامتحانات داخل اللجان، ترسل تلك الصناديق في حماية قوات الشرطة والجيش إلي ما يعرف باسم "مراكز توزيع الأسئلة" البالغ عددها ٧٥ مركزًا، موزعة على مختلف محافظات الجمهورية.
مهمة تلك المراكز، التي تتولى الشرطة تأمينها أيضًا، أن تكون حلقة وصل بين المطبعة ولجان الامتحانات المختلفة في الدولة، البالغ عددها 1581 لجنة (مدرسة) تستوعب 560 ألف طالب هذا العام (نظام جديد) فضلا عن ثلاثة آلاف طالب (نظام قديم).
ما إن يفرغ الطلاب من أداء الامتحان، حتى تجمع كراسات الإجابة بواسطة المديريات التعليمية ثم ترسل في حراسة الجيش والشرطة أيضًا إلى لجان النظام والمراقبة (الكنترول)، وعددها 11 كنترول في كل أنحاء الجمهورية. وطوال تلك المدة؛ يظل نموذج الإجابة الذي يجري التصحيح بموجبه قابعًا في المطبعة السرية حتى يتنهى الطلاب من أداء الامتحان، حينها يرسل في سرية تامة إلى "الكنترولات".
نحن نتحدث عن عملية معقده يشتبك معها ثلاث وزارات (التعليم والداخلية والدفاع). التعليم في الشق الفني الخاص بوضع وتصحيح الامتحانات وتأمينها داخل المطبعة، والداخلية في الشق الأمني: تأمين المطبعة من الخارج ونقل المظاريف، فضلا عن تأمين لجان الامتحانات، أما الجيش فيقوم بنقل الامتحانات للمحافظات النائية. ببساطة؛ نتحدث عن العملية الأكبر على مستوى الجهاز البيروقراطي المصري. عملية يتجاوز عدد المساهمين فيها 80 ألف موظف ما بين مراقب وملاحظ ومصحح وفرد أمن.
لكن هل كل هؤلاء لديهم سلطه أو نفاذ يسمح لهم بتسريب الامتحان؟
الاجابة لا؛ فأغلب المشتبكين في العملية لا يرون الأسئلة إلا بعد وصولها ليد الطلاب. فكيف إذن وقع التسريب؟
قصة التسريب
صبيحة امتحان اللغة العربية انتشرت أسئلة الامتحان وإجاباتها على صفحات التواصل الاجتماعي، وفورًا مارست الوزارة الإنكار، لكن نفي الوزارة لم يصمد طويلاً خصوصًا بعدما نشر الطلاب صورًا للتسريبات على الإنترنت بجوار صورة ورقة الامتحان، ما أظهر تطابقًا بين الاثنين.
ارتبكت الوزارة ولم تعلق، ثم أعلن الوزير باقتضاب أن الوزارة ستقارن عينات عشوائية بحثًا عن إجابات متطابقة، "وإن حدث هذا أو وُجد طلاب حاصلون على درجات نهائية بشكل فج، سنلغي الماده ونعيد الامتحان"، ثم أتبع ذلك بتصريح آخر قال فيه إن العينات أثبتت عدم وجود تطابق مع نموذج الإجابة، "ولم يحصل أي من الطلاب على الدرجات النهائية رغم ارتفاع نسبة النجاح".
لكن صفحات التواصل شهدت صفعه جديده للوزارة، حين قام عدد من المدرسين بتصوير كراسات إجابات قاموا بتصحيحها وكلها تحمل إجابات نموذجية لطلاب عديدين حصلوا على الدرجات النهائية 80/80 رغم نفي الوزارة. ثم اكتملت الملهاة بقيام مدرس في أحد الكنترولات برفع صورة لإجابة طالب كتب فيها أحد الطلاب بخط يده إلى جوار الإجابات "توزيع الدرجات" أي الدرجة التي تستحقها كل إجابة من إجابات الأسئلة، ما يشي بأنه نقل- أو اطلع على - نموذج الإجابة الموجود لدى المطبعة السرية والكنترولات فقط.
ما نشره ذلك المدرس كشف عن أن الامتحانات لم تتعرض للتسريب وحدها، بل تسرب معها نموذج الإجابة أيضًا، الذي يفترض أنه لا يخرج من المطبعة السرية إلا بعد انتهاء الطلاب من الامتحان وتسليم كراسات الإجابة ووصولها للكنترولات، وعندها فقط يتحرك نموذج الإجابة من المطبعة السرية للكنترولات. وهو ما لم يحدث في هذه الحالة. فقد خرج نموذج الإجابة قبل بدء الامتحانات إلى يد أحد أو بعض الطلاب. وبذا؛ ضاعت محاولات الوزارة للإنكار.
أما امتحان التربية الدينية الذي تسرب يومها أيضًا؛ فتقرر تأجيله. وعليه؛ قرر "المسرب المجهول" أن يلاعب الوزارة فيما هو آت، لذلك فإن المسرب الخفي لم يسرب امتحان اللغة الانجليزية هذه المرة، لكنه سرب نموذج الإجابة قبل الامتحان بساعة تقريبا.
ورغم انتشار الأجوبة النموذجية على الشبكات الاجتماعية قبل بدء الامتحان؛ إلا أن الوزارة نفت أن هناك تسريب للامتحانات، وادعت أن ما حدث كان مجرد غش إلكتروني لا تسريب.
والغش الإلكتروني مصطلح يدلل على تمكن الوزارات المتدخلة في عملية إدارة امتحانات الثانوية العامة من الحفاظ على سريتها، وأن الطلاب تمكنوا من الحصول على الاجابات بعد بدء الامتحانات في اللجان بالفعل، بينما يعني التسريب: أن الأسئلة والأجوبة تسربت من بين أيدي الوزارات المعنية.
تشبثت الوزارة بهذا الادعاء، خاصة بعدما تحرك رئيس الوزراء بنفسه ليرى ما يحدث في غرفة عمليات الثانوية العامة.
استمر التسريب بعدها، لكن بفجاجة أكثر في مادتي الاقتصاد واللغة الفرنسية، هنا تم تسريب الامتحانات قبل بدء اللجان بساعات. الوزارة لم تعلق، واكتفت بالتعليق المقتضب المتكرر: "سنصحح عينة عشوائية (5%) ونرى".
شهد امتحان الديناميكا حلقة أخرى من مسلسل التسريب، وهنا –فجأة- قررت الوزارة إعاده امتحان الديناميكا وتأجيل باقي الامتحانات، ليستشيط الطلاب غضبًا، وتنطلق المظاهرات الرافضة التي واجهتها وزارة الداخلية بقوة متذرعة بقانون التظاهر.
https://www.youtube.com/embed/Umtt79gL_Icبسؤال أحد كبار المسؤولين في الوزارة (تحتفظ المنصة باسمه) لماذا لم يتم إلغاء امتحان اللغة العربية أيضًا رغم ثبات تعرضه للتسريب؟ كانت الإجابة لافتة: "إذا كانت الديناميكا التي امتحنها 105 ألف طالب فقط قلبوا الدنيا، فما بالك لو أعدنا امتحان العربي اللي امتحنه 560 ألف؟ كانت الدنيا ولعت يا أستاذ!". قالها المسؤول مبتسمًا، كاشفًا أن استباب الأمن وضمان السيطرة على غضب الطلاب، أهم لدى الوزارات المعنية وأجهزة الدولة من الحفاظ على سرية الامتحانات.
مشروع جمال مبارك يبعث من جديد
في الثامن من يونيو/ حزيران الماضي، بعد ثلاثة أيام فقط من بدء امتحانات الثانوية العامة؛ بث التلفزيون المصري خبرًا عاجلاً: مجلس الوزراء يقرر تغيير أسلوب الامتحانات وطريقة القبول بالجامعات. هكذا دون شرح أو تفاصيل. لكن هذه الكلمات المقتضبة استدعت من أرشيف الصحفيين المهتمين بشؤون التعليم أخبارًا قديمة كان بطلها جمال مبارك بنفسه.
في السنوات الأخيرة من حكم مبارك، كان نفوذ الوريث المنتظر يزداد، وظهرت ملامح توجهاته جلية، وبدا للجميع أن الرجل يرغب في تغير "شكل" البلد.
الشياكة والميل نحو "مظاهر النجاح" كان طاغيًا: تاكسي أبيض بديلاً عن الأسود المتهالك، جمهور ذي ملامح أوروبية يملأ مدرجات استاد القاهرة، ليحول بين الجمهور التقليدي ومشاهدة بطولات كأس الأمم الإفريقية المقامة على أرضه. إعلانات جيل المستقبل تُظهر شبابًا في أبهى صورهم لا تستطيع تحديد هويتهم من فرط الوسامة والأناقة غربية الطابع. باختصار كانت مصر "بتتزوق" كي تليق بمقدم الحاكم الشاب المنتظر.
وتزامنا مع الصعود الصاروخي لنفوذ جمال ورجاله؛ بدأت أفكار جديده تُطرح منها: تعديل آلية القبول في الجامعات المصرية.
النيوليبرالية الوافدة ارتأت وقتها أن نظام التنسيق الحالي نظام بالِ، وأن فكرة المجموع والدرجات غير كافية. وأنه آن الأوان لتطبيق أفكار "أكثر حداثة" للقبول بالجامعات، أفكار تتماشى مع "مصر بكرة وجيل المستقبل"، التي تبشر بها مجموعة السياسات بالحزب الوطني التي يقودها الوريث الشاب، وإن كانت قد تقضي على البقية الباقية من مفهوم العدالة الاجتماعية الذي أنشئ لأجله "مكتب التنسيق".
هنا ظهر الدكتور هاني هلال وزير التعليم العالي، حينها، وأحد أبرز المقربين من جمال مبارك والمسوقين لأفكاره. قرر هاني هلال في 2008 انشاء "المركز القومي للقياس والتقويم" واختير له مقرٌ هادئ في شارع أحمد عرابي بمنطقة المهندسين ليعمل على تحقيق مهام محددة، أهمها وضع صيغة جديدة للقبول بالجامعات المصرية، صيغة لا يكون "المجموع" هو الفيصل فيها، بل تشمل اختبارت ذكاء "وتفكير خارج الصندوق" ومهارات مختلفه تناسب مع كل كلية على حدة.
هذا المركز عينه يسعى وزير التعليم الحالي لإعادة انشائه، وإن لم تعلن الوزارة بعد عن الأهداف.
في 2010؛ صدر قانون ينص على أن الثانوية العامة ستصبح "شهادة منتهية"، بمعنى أنها تمكن للطالب الحاصل عليها من الالتحاق بالعمل بموجبها، أو يدخل الجامعة خلال خمس سنوات من الحصول عليها، لكن؛ بعد إجراء اختبار يقيس قدراته الإبداعية واستعداده للعمل فى مجال التخصص الذي يختاره.
لكن هذا القانون الذي بدا وكأنه دبِّر بليل من فرط التعتيم عليه حينها، لم تصدر له لائحة تنفيذية، فصار الجزم بما يعنيه تعبير "شهادة منتهية" أمرًا لا يملكه سوى من وضعوا هذا القانون وحدهم دونًا عن باقي حوالي 80 مليون فرد شكلوا تعداد السكان حينها، كما ظلت طبيعة الاختبارات التي ينص القانون على أنها ستقيس القدرات الإبداعية للطلاب سرًا غامضًا آخر.
ثم أتت ثورة 25 يناير لتوقف قطار جمال وأفكاره، ويتوقف معها العمل في "المركز القومي للقياس والتقويم"، ويعود كل العاملين فيه لأماكنهم بالجامعات المختلفة ويتوقف الحديث عن "المشروع".
ولكن بعد "30 يونيو" عادت الفكرة القديمة للظهور، وعاد الحديث عن تطوير التعليم الجامعي وتعديل نظام القبول في الجامعات.
في أكتوبر 2014؛ تقدم المجلس الأعلى للجامعات بمشروع قانون للحكومة، مفاده أن المجموع والدرجات ليسا كافيين للاتحاق بأية كلية. فمثلا الطالب الراغب في دخول كلية الطب؛ عليه أن يحصل على مجموع 70% في الثانوية العامة، أما الـ 30% الباقية فستعتمد على "اختبار قبول" يحوي أسئلة غير مباشرة وإعمال العقل والتفكير النقدي، فضلا عن اللغة الأجنبية. وسيكون الامتحان (صواب وخطأ - واختيار من متعدد).
الدرجات والحفظ والاستظهار لم تعد كافية إذن لدخول الكلية التي يرغب فيها الطالب، ولكن ماذا فعلت وزارة التربية والتعليم لتأهيل طلاب المدارس التابعة لها (لا المدارس الدولية) على هذه الطريقة في التفكير والتعلُّم؟.
في مكتبه بضاحية 6 أكتوبر، التقت "المنصة" بالدكتور أشرف حاتم أمين المجلس الأعلى للجامعات، الذي تحدث عن المشروع شارحًا: إن اختبارت القبول المزمع تطبيقها ستكون على الكمبيوتر، "ولن يكون هناك تدخل للعنصر البشري مطلقا". مضيفا "إحنا مش هنخترع العجلة، في ناس سبقونا في ده. لذلك دخلنا في شراكه استراتيجية مع المجلس الاستشاري البريطاني، الذي سيساعدنا في تطبيق هذة التجربة خلال 3 سنوات حال تصديق البرلمان على المشروع".
المشروع الجديد وإن بدا براقًا وجذابًا ككل أفكار جمال مبارك؛ إلا أنه مبدئيا يقصي الطالب الفقير الذي لا يجيد الإنجليزية، والذي لم يتمكن والداه من إلحاقه بمدارس ذات تعليم متميز أو يوفروا مالاً كافيًا لإعطائه دورات في مراكز معتمدة للغات. وهنا يجيب أشرف حاتم: "من لم يدرس إنجليزي بالمدارس فليتعلمها من على الإنترنت. العيال كلها معاهم سمارت فون".
وبعيدا عن إشكالية اللغات الأجنبية، ومأزق غياب العدالة الاجتماعية الذي قد يزيد النظام الجديد من حدته، فمضمون المشروع نفسه يعتمد على طالب مختلف، طالب تعلّم كيف يفكر خارج الصندوق، كيف يناقش ويحلل ويصل لاستنتاجات بعيدا عن الحفظ. في حين أن هذا الطالب أمضى عمره كله في نظام تعليم يعتمد على الحفظ والاستظهار.
يتحدث أشرف حاتم عن أن نظام التعليم الثانوي يجب تغييره ليلائم المشروع المنتظر تطبيقه بعد ثلاث سنوات فقط، وربما يتوقع الخبير التعليمي أن ثلاث سنوات كافية لتأهيل كافة الطلاب المنتظمين في التعليم المصري من الحضانة للثانوية العامة، كي يتمكنوا من التعامل مع هذا النظام الجديد.
صدفة لافتة
تزامن هذا السعي المحموم لتغيير نظام القبول في الجامعات مع تضخم أزمة تسريبات امتحانات الثانويه العامة، مما يدفع للتساؤل إن كانت هناك صلة بين الحدثين، وإن كان حدوث تلك التسريبات التي أظهرت فشلاً في منظومة الامتحانات والتنسيق الحالية، يهدد بمقدم نظام جديد، يفتح أبواب الجامعات أمام طلاب ينتمون لطبقات اجتماعية واقتصادية تمنحهم تعليمًا يؤهلهم لمثل هذا النوع الجديد من الاختبارات؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه فشلاً وتخبطًا في قلب الدولة المركزية المصرية؟