في عام 1788، كان كارل أكسل ما يزال ضابطًا صغيرًا في الجيش السويدي، عندما اكتشف، أثناء تجواله على رأس سرية عسكرية في قرية يتربي Ytterby الواقعة على جزيرة ريسارو بالسويد، صخرة سوداء لامعة ظن أنها معدنًا غريبًا، لكنه لم يعرف أن ما أمسكه بيديه وتعجب لشكله المدهش، سيشعل بعد أكثر من مائتي عام حربًا واسعة بين الدول العظمى.
اكتشف كارل صدفة، ما يعرف اليوم، باسم "العناصر الأرضية النادرة"، التي تدخل في كثير من الصناعات الهامة والاستراتيجية التي تهيمن على مسار عصرنا الحديث، وتمثل الصين الدولة الأكبر من حيث امتلاكها مناجم التنقيب عنها وشركات تنقيتها من الشوائب وإعدادها للاستخدام الصناعي، وهي مكانة تخول لها الضغط على الدول الصناعية الكبرى وتمنحها قوتها الاستراتيجية الحالية. ولكن ما هي تلك العناصر وفيم تستخدم وكيف تستمد الصين قوتها الاقتصادية من التحكم فيها؟
حجر أكسل السحري
عندما وجد الملازم السويدي الشاب، المهتم بالمعادن، حجره غريب الشكل، أرسله إلى صديقه يوهان جادولين، أستاذ الكيمياء في الأكاديمية الملكية في توركو بفنلندا، الذي اعتقد في البداية أنه أحد خامات معدن التنجستين، لكن التعرف إلى ماهية ذلك المعدن الغريب احتاج سنوات كثيرة، أنفقها الباحثون في الدراسة حتى اكتشفوا أنه يتكون من خليط من ثماني أكاسيد لعناصر جديدة، وفي القرن التاسع عشر، اكتشف علماء في السويد والنمسا، خمسة عناصر أخرى ذات صفات مشابهة، لكن التعريف الدقيق بتلك العناصر، جاء على يد الفيزيائي البريطاني هنري موزلي (1887-1915)، الذي نجح في عان 1913، عن طريق استخدام التحليل الطيفي للأشعة السينية الصادرة عن العناصر، في تأكيد أن عدد العناصر الأرضية النادرة 15 عنصرًا، تمثل معًا ما يسمى بسلسلة "اللا نثانيدات" في الجدول الدوري للعناصر، وتتراوح أعدادها الذرية بين 57 و 71.
ووفقًا للاتحاد الدولي للكيمياء البحتة والتطبيقية، فإن هذه العناصر هي: اللانثانيوم، السيريوم، البراسيدوميوم، النيوديميوم، البرومثيوم، السماريوم، اليوربيوم، الجادولينيوم (الذي سمي نسبة إلى جادولين صديق أكسل)، التيربيوم، الديسبروسيوم، الهولميوم، الإربيوم، الثوليوم، الإيتربيوم، واللوتيتيوم. ويظهر عنصرا اليتريوم والسكانديوم خصائص كيميائية مشابهة لهذه العناصر، لذلك يعتبران أيضًا ضمن العناصر الأرضية النادرة، ليصبح العدد الإجمالي سبعة عشر عنصرًا.
ورغم أنها سميت "العناصر الأرضية النادرة"، لكنها ليست نادرة في منظور علم الجيولوجيا، حيث تتواجد خاماتها في القشرة الأرضية بوفرة نسبية، وفي كثير من المناطق حول العالم، فعناصر مثل اليتريوم واللانثانيوم والسيريوم والنيوديميوم، يزيد متوسط وفرة كل منهما عن الذهب بأكثر من 100 مرة، لكن السبب في وصف تلك العناصر بالندرة هي أنها لا توجد منفردة في الطبيعة، أو بتركيزات مرتفعة، بل تختلط مع بعضها البعض، ومع عناصر أخرى بعضها مشع مثل الثوريوم واليورانيوم، ويجعل ذلك عمليات فصلها وتنقيتها صعبة ومتعددة المراحل ومكلفة، حيث تستخدم طرق التعدين الحالية كميات كبيرة من المواد الخام لإنتاج كميات قليلة من هذه المعادن، وتخلف عمليات التعدين والفصل والتنقية كميات كبيرة من النفايات الضارة، منها الأحماض والغازات السامة والمياه المشعة.
ما هي العناصر الأرضية النادرة؟
ماذا نفعل بتلك العناصر.. أو من هنا جاءت الولاعة
في بداية القرن العشرين درس عالم الكيمياء النمساوي كارل أوير فون ويلسباخ (1858-1929) الخصائص الضوئية المميزة لعدد من هذه العناصر، وكان أول من يطور استخدامًا صناعيًا وتجاريًا لها، في صورة مصابيح تستخدم في الإضاءة، وفي سنوات قليلة تم إنتاج ملايين المصابيح التي تعتمد على العناصر الأرضية النادرة، لكن ظهرت بعض العيوب في هذه التقنية، حيث كان من الصعب استخدام هذه المصابيح لفترات طويلة، وكانت أكوام النفايات المتبقية من صناعتها عرضة للاشتعال والحريق، ونجح ويلسباخ في حل المشكلة عن طريق خلط النفايات بمركبات الحديد، وكانت النتيجة هي الـ"فيروسيريوم"، أو ما يعرف تجاريًا باسم "حجر الصوان"، الذي يطلق شرارة عند الاحتكاك، ويستخدم الآن، وعلى نطاق واسع، في صناعة ولاعات السجائر و أجهزة الإشعال في صناعة السيارات.
.. وجاء المفاعل النووي
وفقًا لموقع معهد تاريخ العلوم، اكتسبت هذه العناصر أهمية علمية وجيوسياسية أكبر بعد اكتشاف ظاهرة الانشطار النووي في عام 1939. ففي سياق السباق النووي بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق، أنشأت الولايات المتحدة منجم "جبل باس" في صحراء موهافي بولاية نيويورك، بهدف الحصول على اليورانيوم والثوريوم، لكن الخامات التي حصلوا عليها لم تكن مناسبة للغرض، لأن وجود نسبة من العناصر النادرة في تلك الخامات، يعوق امتصاص النيوترونات، وبالتالي، يوقف التفاعل النووي المتسلسل الضروري لإنتاج الطاقة النووية، سواء في القنابل النووية أو في المفاعلات النووية.
كانت عمليات فصل وتنقية العناصر النادرة تتم ضمن عمليات استخلاص وتخصيب اليورانيوم، واكتشف الأمريكيون أن العناصر النادرة يمكن استخدامها في صناعة قضبان التحكم التي تستخدم في المفاعلات النووية.
وأدى سباق التسلح ذلك إلى زيادة هائلة في تمويل بحوث العناصر الأرضية النادرة، وفي الستينيات ابتكر باحثون في القوات الجوية الأمريكية مغناطيسًا جديدًا، مصنوعًا من السماريوم مع الكوبالت، هذه المادة الجديدة تظل محتفظة بخصائصها المغناطيسية القوية حتى عند تعرضها لدرجات حرارة مرتفعة، ما يجعلها مناسبة للاستخدام في صناعة الرادارات الأكثر كفاءة.
.. والتلفاز
في نفس الفترة، بدأ إنتاج أجهزة التلفزيون الملونة، وشهد الطلب على العناصر الأرضية النادرة، خصوصًا اليوروبيوم، ارتفاعًا حادًا، لأنه العنصر الأساسي في إنتاج الصور الملونة. وكان مصدره الرئيسي منجم جبل باس، وظل هذا المنجم، الذي كان مملوكًا لشركة مولي كورب Molybdenum Corporation، مسيطرًا على إنتاج وتصدير العناصر الأرضية النادرة في العالم حتى نهاية القرن العشرين.
..والهادر ديسك
في الثمانينيات، استخدم علماء المعادن السوفييت السكانديوم مع الألمونيوم، في صناعة سبائك قوية وخفيفة، رفعت من كفاءة الطائرات السوفييتية المقاتلة من طراز "ميج-29"، وفي نفس الفترة تقريبًا، اخترع باحثون في شركة جنرال موتورز الأمريكية مغناطيسات من النيودوميوم مع الحديد والبورون، وأنتجت شركة ماجنيكوينش مغناطيسات خفيفة وقوية ودائمة استخدمت في صناعة أقفال الأبواب ومحركات السيارات ومحركات مساحات الزجاج، ومع انتشار الكومبيوتر الشخصي في العالم في الربع الأخير من القرن العشرين، وجدت الشركة سوقًا رائجة في بيع المغناطيسات الصغيرة اللازمة لصناعة محركات الأقراص الصلبة (الهارد ديسك) لشركات الكومبيوتر.
.. ثم كل شيء تقريبًا
وبحسب مقال عن "عناصر الصراع" منشور على موقع جامعة بوسطن الأمريكية، حدثت طفرة في استخدامات العناصر النادرة في القرن الجديد، حيث صارت تدخل في صناعة كل شيء تقريبًا، فأدت بحوث البصريات إلى ابتكار ليزر عقيق اليتريوم مع الألمونيوم، الذي استخدم في تقنيات تحديد المدى والأهداف للأسلحة الموجهة، وإلى ابتكار مصابيح "ثنائي القطب الباعث للضوء"، المعروفة تجاريًا باسم مصابيح "ليد" (LED)، ودخلت العناصر الأرضية النادرة في صناعة الزجاج والسيراميك والمرايا والعدسات وكاميرات التصوير.
وقادت التجارب التي أجريت على اللانثانيوم والبراسيدوميوم، إلى ابتكار بطاريات صغيرة يمكن حملها وإعادة شحنها بالطاقة لعدة مرات، التي أصبحت شائعة الاستخدام في الإلكترونيات المحمولة، واستخدمت في صناعة السيارات الهجينة، مثل تويوتا بريوس، التي ظهرت عام 2000.
وزاد استخدام العناصر الأرضية النادرة في صناعة الإلكترونيات بعد نجاح مختبرات شركة بِل الأمريكية في ابتكار ألياف ضوئية مطعمة بالإربيوم، الذي نجح في تعزيز وتقوية نقل الإشارات، الأمر الذي سمح بمد شبكة من الألياف الضوئية التي حسنت من جودة الاتصالات وخفضت أسعارها، والآن، تنقل بيانات الإنترنت إلى جميع دول العالم.
وعندما ظهر أول إصدار من هاتف آيفون عام 2008 كان علامة على مدى التقدم الذي وصلت إليه بحوث وتطبيقات العناصر الأرضية النادرة، حيث إن الهواتف والأجهزة اللوحية الذكية تستخدم اللانثانيوم للحد من تشوه الصور، وتستخدم النيوديميوم لتحسين الصوت في مكبرات الصوت الصغيرة، كما تستخدم اليتريوم والإربيوم في صناعة الألوان في الشاشات الموفرة للطاقة.
وتدخل العناصر النادرة كمكون أساسي في عدد كبير من الصناعات العسكرية والاستراتيجية، مثل محركات السيارات الكهربية والهجينة، والطائرات والمدرعات والمركبات الفضائية، والبطاريات النووية، وفي تكرير البترول وصناعة الكيماويات، ووسائل الاتصالات والنظم الجغرافية و الـ GPS واجهزة الاستشعار عن بعد، والمفاتيح الإلكترونية، و أجهزة الرؤية الليلية، والرادارات، والأسلحة الموجهة، والطائرات التي تستخدم تقنيات التخفي من طراز: F-35. وفي أجهزة الأشعة السينية المحمولة، وأجهزة الرنين المغناطيسي، وعلاج بعض أنواع السرطان، وكذلك في صناعة توربينات توليد طاقة الرياح، ومحطات توليد الطاقة الشمسية، والمواد فائقة التوصيل الكهربي.
من يقدر على الصين؟
طوال معظم القرن العشرين كانت الولايات المتحدة الأمريكية أكبر مصدر للسلع المصنعة في العالم، وبعد الحرب العالمية الثانية، روج الأمريكيون لاتفاقيات التجارة الحرة، بهدف فتح أسواق خارجية جديدة أمام المنتجين الأمريكيين. وساعد تحرير التجارة، وانخفاض تكاليف الشحن والاتصالات، وأجور العمال المنخفضة في الدول النامية، في خفض تكاليف الإنتاج إلى الحد الأدنى، وزيادة الأرباح إلى الحد الأقصى، و أدت هذه الخطوات إلى خفض أسعار السلع للمستهلكين الأمريكيين، لكنها أدت أيضا، إلى فقدان الوظائف وإغلاق عدد من المصانع والمناجم في الولايات المتحدة.
في الوقت الذي تم فيه تطوير استخدامات جديدة للعناصر النادرة، أدت التغيرات في الاقتصاد العالمي إلى حدوث تحولات هامة في مواقع الإنتاج والتصنيع. وفي الوقت نفسه، اعتمدت التنمية في اليابان وكوريا الجنوبية وهونج كونج وسنغافورة وتايوان، على سياسة التصنيع من أجل التصدير، ولما كانت هذه الدول فقيرة في مواردها من العناصر الأرضية النادرة، اعتمدت على الاستيراد، وكذلك اعتمدت دول الاتحاد الأوربي على استيرادها، خصوصًا من الصين.
لماذا تسيطر الصين على العناصر الأرضية النادرة؟
مع دخولها في مجموعة متنوعة من الصناعات الإلكترونية ومنتجات الدفاع والطيران، زاد الطلب على العناصر النادرة بدرجة كبيرة، وارتبط تطور صناعة العناصر الأرضية النادرة في الصين ارتباطًا وثيقًا بعودتهًا إلى التجارة الدولية.
أنتجت الصين كميات اقتصادية في الثمانينيات، وبحلول التسعينيات أصبحت المنتج الأول في العالم، زاد إنتاج الصين بمعدل 40% سنويًا خلال الفترة من 1978 إلى 1995، وزادت صادراتها خلال نفس الفترة، ما تسبب في انخفاض حاد في الأسعار، ومع انخفاض الأسعار، خفض كثير من المنتجين إنتاجهم بشكل حاد، أو خرجوا من المنافسة لعدم قدرتهم على البيع بالسعر الصيني، فأغلق منجم جبل باس في كاليفورنيا، وأفلست شركة مولي كورب المالكة للمنجم.
بالإضافة إلى كونها أكبر منتج للعناصر الأرضية النادرة، فهي في الوقت نفسه أكبر مستهلك لها، حيث تعتمد عليها في كثير من الصناعات سواء للسوق المحلية أو للتصدير، لذلك سعت وتسعى الصين إلى تأمين إمدادات العناصر النادرة الضرورية للصناعة المحلية والتصدير ولبسط نفوذها على السوق العالمية.
في هذا السياق، يمكن أن نفهم العلاقة الاستراتيجية بين الصين وميانمار، حيث تزود ميانمار الصين بحوالي 17% من وارداتها من العناصر النادرة، وتستورد الصين كميات أقل من فيتنام وماليزيا.
كما اشترت الصين حصصًا حاكمة في أسهم شركات تعدين العناصر النادرة في عدد من الدول على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ففي عام 1995 اشترت شركتان صينيتان أسهمًا حاكمة في شركة ماجنيكوينش، واشترطت السلطات الأمريكية لإتمام الصفقة الاحتفاظ بعمليات الشركة داخل الولايات المتحدة الأمريكية لمدة خمس سنوات على الأقل، وبعد يوم واحد فقط من انتهاء تلك السنوات الخمس، نقل الملاك الجدد مصنع الشركة فورًا إلى الصين.
في عام 2009 اشترت شركة China Non-Ferrous Metal Mining Company، الصينية حصة حاكمة في شركة ليناس الأسترالية التي تمتلك أكبر مناجم لإنتاج العناصر الأرضية النادرة خارج الصين، كما قامت الشركة أيضًا بشراء منجم بالوبا في زامبيا، كما تشارك الشركات الصينية في مشروعات لتعدين العناصر الأرضية النادرة في مصر وناميبيا. وبعد ما أعلنت شركة مولي كورب المالكة لمنجم جبل باس إفلاسها في عام 2015، قدمت الصين عرضًا لشرائها، لكن الصفقة لم تتم لرفض السلطات الأمريكية، التي يبدو أنها تعلمت الدرس من أزمة العناصر النادرة في العام 2010.
ماذا حدث في 2010؟
عندما ألقى خفر السواحل اليابانيين القبض على صياد صيني في بحر الصين (أو بحر اليابان)، ردت الصين بوقف تصدير شحنات من العناصر الأرضية النادرة إلى اليابان، التي تعتبر ثاني أكبر مستهلك للعناصر النادرة بعد الصين، فيما تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الثالثة، وبحكم موقعها المهيمن، فرضت الصين قيودًا على تصدير خامات أكاسيد العناصر النادرة، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة.
أحكمت الصين قبضتها على السوق، وبلغت الهيمنة الصينية ذروتها في عام 2010، كانت الصين تسيطر على حوالي 95% من إنتاج العناصر الأرضية النادرة في العالم. وبدا الأمر كما لو أن الصين تمارس نفوذًا جيو-سياسيا من خلال تقييد صادرات العناصر الأرضية النادرة.
وكيف حاول العالم تجاوز الأزمة؟
بدأت اليابان والولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا في القلق بشأن إمدادات هذه المواد اللازمة لصناعة الطائرات والأسلحة والمنتجات الضرورية الأخرى، مما دفع الأولى للاستثمار في شركات التعدين الأسترالية، لكن المناجم الأسترالية لم تنتج سوى 2-3% من الإنتاج العالمي، وبدأت شركات صناعة السيارات اليابانية مثل تويوتا وهوندا خططًا لإعادة تصميم السيارات بحيث تستخدم كميات أقل من هذه العناصر.
وفي الولايات المتحدة أعادت شركة مولي كورب تشغيل منجم جبل باس في عام 2012، واستثمرت 500 مليون دولار في إجراءات لضبط التلوث ومعالجة النفايات، ولكن إنتاج الولايات المتحدة في عام 2013 لم يزد على 4% فقط من إنتاج العناصر النادرة في العالم.
الهيمنة الصينية والأسعار المرتفعة والخوف من نقص الإمدادات، دفعت ببعض الاقتراحات الجريئة إلى الظهور، فطالب البعض بمشروعات لإعادة تدوير المنتجات التي تدخل فيها هذه العناصر، وطالبت شركات بتنفيذ مشروعات للتعدين في غابات الأمازون في أمريكا اللاتينية، وأعلن الاتحاد الأوربي عن خطط لاستغلال مناجم العناصر النادرة في جزيرة جرينلاند، ودعى بعض المغامرين إلى البحث عن هذه العناصر على سطح القمر، لكن لم يثبت حتى الآن أن هذه الخطط ممكنة أو ذات جدوى.
لم تستمر الأسعار المرتفعة لفترة طويلة، بناء على شكوى قدمتها اليابان والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي لمنظمة التجارة العالمية، فرضت منظمة التجارة العالمية تخفيض حصص الصادرات الصينية، الأمر الذي فتح الباب لزيادة الإنتاج، وبالتالي، انخفضت الأسعار إلى مستويات قريبة لما كانت عليه قبل عشر سنوات.
وكانت النتيجة الطبيعية أن توقفت كل الخطط الطموحة للحصول على العناصر النادرة. وأفلست شركة مولي كورب، واشترتها شركة إم بي ماتريالز، التي ترسل خاماتها المستخرجة من منجم جبل باس حاليًا للمعالجة النهائية في الصين، وبحلول عام 2015، أصبح من الصعب على أي منتج، باستثناء الصينيين، أن يحقق ربحًا من بيع العناصر الأرضية النادرة.
ماذا ينتظر العالم؟
وفقًا لتقديرات الأسواق لعام 2020، بلغ حجم الإنتاج العالمي 240 ألف طن، أنتجت الصين منها حوالي 140 ألف طن، بنسبة تزيد على 58%، تلتها الولايات المتحدة 38 ألف طن، بنسبة 15.8%، ثم ميانمار بـ30 ألف طن بنسبة 12.5%، ثم أستراليا بـ17 ألف طن بنسبة 7%. واللافت هنا، هو مدغشقر، التي حلت في المركز الخامس، بإنتاج 8 آلاف طن، بنسبة 3.3% من الإنتاج العالمي.
وتتوقع هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية أن يزيد استهلاك العناصر الأرضية النادرة خلال العقد القادم بنسبة 2.6% سنويًا، وترى أن الاحتياطات أكثر من كافية لتلبية الطلب في المستقبل. وتقدر الهيئة احتياطيات العالم القابلة للاستغلال اقتصاديا بحوالي 120 مليون طن، تمتلك الصين وحدها حوالي 36.7% منها، تليها ناميبيا 22%، ثم فيتنام بحوالي 18.3%، ثم البرازيل بحوالي 17.5%، ثم الولايات المتحدة 15%، ثم روسيا بحوالي 10%.
ونشرت مجلة العلوم الأمريكية تقريرًا كان عنوانه لا داعي للخوف بشأن العناصر الأرضية النادرة. لكن يبدو أن هذه التقديرات غير دقيقة، فقد شهدت السوق خلال السنوات الماضية نموًا هائلًا، وارتفعت الأسعار إلى عنان السماء، بحسب موقع ذي كونفرزيشن "تضاعف استخدام العناصر الأرضية النادرة خلال الخمسة عشر عاما الماضية".
وثائقي عن النيوديميوم
وتتوقع تقارير أسواق المعادن ومرصد الأسواق أن يستمر الطلب على العناصر النادرة في الارتفاع خلال السنوات العشرة القادمة على الأقل بسبب ضرورتها الملحة لبعض الصناعات العسكرية والطبية، وعدم وجود بدائل مناسبة لها، كذلك ضرورتها لتطوير تقنيات الحد من الانبعاثات وأجهزة تنقية الهواء ومواجهة تغير المناخ.
ومع التحول إلى الطاقة النظيفة، يتوقع أن يرتفع الطلب على محطات طاقة الرياح، ما يعني زيادة الطلب على النيودوميوم والديسبروسيوم، حيث يلزم لتشغيل توربين رياح واحد فقط، حوالي 600 كيلوجرامًا من العناصر الأرضية النادرة، والتوربينات الكبيرة قد تتطلب حوالي 2000 كيلوجرامًا من هذه العناصر، وفقًا للمصدر نفسه.
ومن المتوقع أن يرتفع الطلب العالمي خلال العقد المقبل على السيارات الكهربية والهجينة والإلكترونيات الاستهلاكية ووسائل الإضاءة الموفرة للطاقة والمحفزات، وعلى البطاريات القابلة لإعادة الشحن، ومن المتوقع أن تؤدي التطورات الجديدة في التقنيات الطبية إلى زيادة استخدام الليزر والتصوير بالرنين المغناطيسي، وأجهزة الكشف والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني، كل هذه الصناعات تستخدم العناصر الأرضية النادرة بكثافة، لذا يتوقع أن يظل الطلب عليها مرتفعًا خلال السنوات القادمة.
وتتوقع التقارير أن يرتفع حجم سوق أكاسيد العناصر النادرة من 5.3 مليار دولار هذا العام، ليصل إلى 9.6 مليار دولار في عام 2026. وأن ترتفع أسعار جميع أكاسيد العناصر النادرة، خصوصا أكسيد النيوديميوم من 107 ألف دولار للطن في عام 2018، ليصل إلى 150 ألف دولار للطن في عام 2025، و سعر أكسيد الأوربيوم من 712 ألف دولار في عام 2018، ليصل إلى 800 ألف دولار للطن في عام 2025.
لسوء الحظ، لا يوجد طريق سريع لتشغيل منجم جديد للعناصر النادرة، يمكن أن يستغرق الوقت بين إصدار القرار وبدء الإنتاج سنوات طويلة، لذلك، علينا أن نتعامل مع الصين باعتبارها الدولة أو الشركة- المسيطرة على السوق لعشر سنوات قادمة على الأقل.
الوجه الآخر للمعدن
لا ترى شركات التعدين في ارتفاع الأسعار ونمو الطلب سوى فرصة مناسبة لتحقيق المزيد من الأرباح، ولا تقيم هذه الشركات وزنًا للآثار البيئية والاجتماعية التي تنتج عن تعدين العناصر النادرة، ولا تلتزم التزامًا صريحًا بمعالجة النفايات، التي قد تحتاج معالجتها إلى ملايين الدولارات وعشرات السنوات.
ولمواكبة الطلب المتزايد تخطط الشركات لفتح مناجم جديدة لتعدين العناصر النادرة لكن في الدول الفقيرة، غير أن نقل عمليات التعدين ومراحلها الخطرة والضارة إلى الدول الفقيرة مخيف ويفتقر إلى العدالة، فالآثار البيئية والاجتماعية لتعدين العناصر النادرة واضحة ومآساوية في منغوليا الداخلية، وفي جنوب شرق الصين، وفي الهند وماليزيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وفي السويد نفسها التي كانت مهد اكتشاف تلك المعادن، وبحسب دراسة عن الآثار الاجتماعية والبيئية لتعدين العناصر النادرة، تضررت بعض المناطق في الصين لدرجة يصعب معها إعادة تأهيلها قبل قرن كامل، وأن تكاليف معالجة النفايات وإعادة التأهيل أكبر بكثير من الأرباح التي حققتها مشروعات التعدين.
عندما واجهت شركة التعدين الأسترالية ليناس للمواد المتقدمة صعوبات في استمرار أعمالها في أستراليا، نقلت عملياتها الخطرة إلى منطقة كوانتان بماليزيا، وعندما أدرك العمال والسكان الماليزيون حجم المخاطر التي يمكن أن تسببها النفايات المشعة والغازات السامة، احتجوا وطالبوا الشركة بتحمل مسؤوليتها في معالجة النفايات التي خلفها التعدين، لكن الشركة لم تستجب، فلجأ المتضررون إلى القضاء الذي أصدر بعد سنوات حكمًا بوقف الترخيص للشركة، وجدير بالذكر، إن إحدى الشركات الأسترالية تشارك في مشروع لتعدين العناصر الأرضية النادرة في مصر.
وفي إقليم تاميل ناداو بالهند لم تلتزم شركة في في الهندية بمعالجة النفايات المشعة التي خلفها نشاطها للتعدين في إحدى المناطق، ورغم اعتراض العمال والسكان واصلت الشركة أعمالها بلا مسؤولية، وأخيرًا وبعد سنوات من التقاضي، أصدرت محكمة هندية حكمًا بإغلاق المنجم، دون أن يلزم الشركة بتكاليف معالجة النفايات، والجدير بالذكر هنا، هو أن الشركة المذكورة، نقلت أعمالها إلى أفريقيا واشترت منجمين وحصلت على ترخيص لتعدين العناصر النادرة في كل من كينيا وتنزانيا.
ربما إذا كانت عجلة الزمن تقدمت بالملازم الشاب كارل أكسل ليرى كل ما نتج عن اكتشافه العفوي، لاحتفظ بالحجر الغريب ضمن مجموعته النادرة من الأحجار دون أن يسعى لمعرفة اسمه أو مكوناته لتجنيب العالم كل ذلك الصراع والدمار البيئي، ولكنه إذا فعل هل كنا سنستخدم الأجهزة نفسها التي نستخدمها الآن لقراءة حكايته الشيقة؟