ليست مبالغةً أن نطلق لقب "زرياب سوريا" على صباح فخري. فكما تشبَّع أبو الحسن علي بن نافع بالموسيقى حدَّ الثَّمالة، آخذًا علوم الغناء ومهارات العزف على العود، قبل أن يضيف وتره الخامس، من إبراهيم الموصلي وابنه إسحق وبعدهما منصور زلزل، فعل صباح، بدايةً من تتلمذه على يد الأستاذ الشّيخ علي الدّرويش وابنيه إبراهيم ونديم في حلب وبعدهما الشيخ عمر البطش في المعهد الموسيقي بدمشق.
ونَهل صباح مادّة النّظريات الموسيقيّة والصّولفيج الغنائي والإيقاعي والعزف على العود من الأستاذ مجدي العقيلي، وكذلك حفظ المقامات الشّرقيّة والغربيّة واستوعب مختلف مساراتها على يد الأستاذ عزيز غنّام، وكان يحضر باستمرار حلقات الأذكار التي كان يقيمها والده في البداية ثم منها عرف مشاهير هذا الفنّ أمثال الشّيخ عمر البطش ومحمّد رديف وصبحي الحريري والشّيخ بكري الكردي والحاج مصطفى الطرّاب.
ومثلما رفض زرياب قوالب الموسيقى التقليدية، والقداسة التي كانت تُغلِّفها، كذلك فعل فخري، فعلى أهمية التُّراث الموسيقي بالنسبة إليه، إلا أنه لم يستكِن له، بل صَبَّ جُلَّ معرفته للخروج من عباءته وإضفاء نكهة مُعاصرة عليه، من خلال "ارتجالات تُغني الجُمَل اللّحنيّة وتجرّدها في آن، بحيث لا يملّ المستمع من التكرار، وبأسلوب سهل ممتنع، مع ألحان مناسبة للمعاني والمواقف والحالات النّفسيّة، أضف لذلك مراعاة حَبْكِ الأسلوب والتطريب والمفاجآت اللحنية والقفلات، والانتقالات الصّوتيّة البارعة والاستعراض الكبير للمساحات الصّوتيّة" كما يُشير إلى ذلك الدكتور صالح المهدي، وفقًا لما نقله عنه الياس بودن في مقال نشره بمجلة الموسيقى العربية التي تصدرها جامعة الدول العربية.
أي أن صاحب "خمرة الحب اسقنيها" تمكَّن من إعادة صوغ التراث الحلبي بعين أخرى، من خلال اللعب على الاحتمالات المفتوحة للموسيقى، وتحطيم السلّم الموسيقي التقليدي للقدود والموشّحات ومعنى الإنشاد بحد ذاته، وإذا به يتحوّل إلى منجم موسيقي لا ينضب، وأرشيف للكنوز النفيسة، مع إضافته بصمته الخاصة والمفارِقة عليها.
سيرة زرياب، مثلما صباح، لم تخلُ من العقبات والمنغصات، وإن تمايزت أشكالها؛ ابتداءً من غيرة مُعلِّمه اسحق الموصلي بعدما بَزَّهُ في الغناء والعزف على العود في مجلس الخليفة هارون الرشيد، وتهديده له بالقتل إن بقي في بغداد، مرورًا بطرده من قبل أمير الأغالبة المزاجي زيادة الله بن الأغلب من القيروان، بعدما ذاع صيت زرياب واستبد به غرور الفنان المبدع، فاضطر للرحيل إلى قرطبة، وهناك نال أقصى درجات المجد، إذ أسس أول أكاديمية موسيقية في عصره، تقوم بتعليم الطلاب أصول الغناء والعزف.
بمعنى أن زرياب بصوته العذب ومعرفته وسعة اطلاعه وحبّه الشديد للموسيقى تمكَّن من تجاوز جميع العقبات التي وقفت في طريقه، ومثله فعل صباح الذي واجه منغصات من نوع آخر، فبعد أن اكتشف جماليات صوته وشغفه بالغناء، كانت حنجرته أول العوائق في طريقه، إذ إن انتقالها من مرحل الصبا إلى الشباب ترك فيها حشرجة، جعلت من صوته مبحوحًا، وكلما حاول أن يغني شعر بأن هناك إنسانًا آخر يغني عبر حنجرته، وهذا جعله يعتزل الغناء مُكرهًا في سن الخامسة عشرة، وراح يبحث عن لقمة العيش في قرى الريف الحلبي، مرةً كمُعلِّم وثانيةً موظفًا في أوقاف حلب.
ولكن حدث أن حنجرته عادت إلى ألقها المعتاد لما استقرت هرمونات رجولته ورجع إلى صوته صفاؤه ونقاؤه، ليتابع مسيرته في الغناء والتلحين، وكما أن زرياب لقي من يدعم موهبته ويسخّر له الكثير ليستمر في عطائه، مثل الموصليين الأب والابن، وسخاء الولاة والأمراء وأبرزهم عبد الرحمن الثاني، فإن فخري كذلك إضافة إلى معلِّميه الأوائل، أخذ من عازف الكمان سامي الشوا وعازف العود محمد رجب جناحين لحنيّين له، ساهما في تكوينه وزيادة شهرته عبر إشراكه في جولاتهما الموسيقية، وهناك أيضًا فخري البارودي الذي تبنَّاه، ومنحه اسمه، ومهَّد له الدرب للدخول إلى معهد الموسيقى الشرقية، وإلى الإذاعة وبعدها التلفزيون وأوصله أيضًا إلى القصر الرئاسي عندما كان شكري القوتلي رئيسًا للجمهورية العربية السورية، وهكذا استطاع مع الزمن أن يُسجِّل بالصوت والفيديو ما بات يعتبر مكتبة هائلة لمن يحب التَّبحُّر في "أكاديمية صباح فخري" كما يحب بعض الباحثين تسميتها.
وثّق صاحب "فوق إلنا خلّ" الأعمال الغنائيّة التّقليديّة بصوته من خلال مشاركته في مسلسل تلفزيوني عنوانه نغم الأمس، حيث أفرد لكلّ مقام موسيقي عدّة موشّحات وقصائد وأدوار وبعض القدود الحلبيّة والمواويل والأغاني الشّعبيّة الفلكلوريّة والمدائح الدّينيّة، وقام بتسجيل ما يقرب عن مائة وستّين مقطوعة من القوالب الغنائيّة العربيّة وبشرح مفصّل لكلّ تلك القوالب بقصد تثبيتها وأرشفتها لتبقى راسخة في أذهان المستمعين، وبذلك أصبح هذا المسلسل التّلفزيوني نغم الأمس، الذي يحوي أروع الألحان والأنغام الشّرقيّة الأصيلة التي أحبّها وردّدها النّاس في جميع أرجاء الوطن العربي بعد غنائها من قبل صباح فخري، يعتبر مرجعًا هامًّا بالنّسبة للمشتغل في الموسيقى العربيّة وكذلك للمستمع العادي.
يقول صباح الدين أبو قوس في أحد لقاءاته إنّ "ما حققته في غناء القدود الحلبية والموشّحات والأدوار، هو ثمرة رحلة طويلة وشاقّة، إذ كنت أول من عمد إلى تطوير التراث الغنائي الحلبي وإزالة الغبار عنه. كنت مثل الصائغ الذي يلمّع الجوهرة ليظهر جمالها بما يتناسب مع الذائقة العصرية، ولم أتوقف يومًا عن نبش التراث وتطويره".
ربما ذكاء ودهاء صباح فخري طيلة مسيرته الفنية التي امتدت إلى ما يقارب الستين عامًا، جعلاه يعرف أنه الأكثر معرفةً وقدرةً على امتلاك ناصية حراسة التراث من الضياع، وتوثيق ذلك على الصعيد العالمي، أضف إلى ذلك إدراكه أن وصوله إلى كل بيت عربي، وتجاوز ذلك إلى العالمية، لن يكون بالتغريب الذي لجأ إليه الكثير من الفنانين العرب بحكم العولمة وتأثيراتها، بل من خلال الإمعان بالمحلية، والتَّجذُّر أكثر على مستوى الهوية الفنية، من دون أن يعني ذلك بقاءه أسيرًا للموروث ودمغاته.
لذلك لم يحد عن اللغة العربية، العامية منها والفصحى، وعلى صعوبة اختياراته الشعرية، إلا أنه تمكَّن من جعلها على كل لسان، وهو ما لم يحسنه سواه، من خلال صوته وأدائه الساحرين، وعبر النَّبض الخاص الذي كان يُغلِّف فيه كل ما يُغنيه، ما جعل أهمّيته تكمُن، كما تقول الباحثة الموسيقية اللبنانية هالة نهرا "في قُدرته الكبيرة على الوصل، في الموسيقى والغناء والشعر، بين التُراث والعصر الحديث، بين الماضي والحاضر. إذ يُشكِّل، بحضوره الرهيب ونتاجه، جسرًا فنيًا وثقافيًا يُمَكّن التراث من العبور إلى الغد بسلامةٍ وسلاسةٍ وتفنُّنٍ. لا سيما أن الجنوح إلى النَهْلِ من التُراث الفنّي العربي عنده ليس ميلًا ماضويًّا، بل يكتنف صونًا لذاكِرةٍ نهضويةٍ وجماليةٍ، ولمخزونٍ إبداعيّ وإنفتاحيّ أخّاذ. التُراث مُشرَّعٌ طبيعيًا على التجديد والتنويع والابتداع والاستكمال والتتابُع".
وربما هذا ما جعل الاهتمام به يتعدى الوطن العربي باتجاه العالم، فنرى التكريمات والجوائز تتجاوز إطارها عربيًا، نحو الاحتفاء العالمي به، فعلى سبيل المثال قام فخري بجولة فنّيّة في بريطانيا، قدّم خلالها حفلات غنائيّة ومحاضرات عن الموسيقى والآلات العربيّة في كلّ من لندن ووورك وكارديف وبرمنجهام وشيسترفيلد ومانشستر وكوفنتري، فنشر الغناء العربي الأصيل وأنجز الكثير من الأسطوانات الّتي راجت بشكل هائل في جميع أنحاء العالم.
وفي عام 1973، أقامت جامعة UCLA في لوس آنجلوس حفلًا تكريميًّا له، وقدّمت له شهادات التقدير لأنّه يحمل ولا يزال لواء إحياء التّراث الغنائي العربي الأصيل، ولأنّه صاحب مدرسة عربيّة في الغناء، وتعتبر أشرطته وسائل إيضاح في الجامعة يطلع عليها دارسو الموسيقى والفنّ عمومًا، علمًا أنّ تلك الجامعة لم تكرّم من الفنّانين العرب إلاّ صباحًا ومحمّد عبد الوهاب. كما كرّمته كلّيّة الفنّون في جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلس الأمريكيّة سنة 1992 باعتباره أحد روّاد الفنّ في العالم العربي، وتقديرًا له على إنجازه المتميّز في هذا الميدان.
غنّى صباح فخري الذي يحلو للبعض تسميته "قلعة حلب الثانية"، حوالي 376 أغنية، وساهم في تلحين ما يقارب السبعين منها بنفسه، أما تكوينه الفني الذي جعل منه حالة فريدة يصعب تكرارها، فهو مساحة صوته الكبيرة، التي تتّسع إلى ثلاثة دواوين، أي عشرين درجة موسيقية، من درجة قرار الدّوكاه إلى جواب الأوج، فضلًا عن تشبّعه بكلّ أصول الطّرب القديم.
وساعده في ذلك أنه ترعرع في بيئة دينيّة صوفية، وحفظه للقرآن الكريم كاملًا في سن العشر سنوات، أي أنّه دخل ميدان الطّرب عبر مدرسة التّجويد، التي تهتمّ بتبليغ المعنى من خلال الحرف والكلمة واللّحن والإيقاع معًا، ما يستوجب دراسة معمّقة ودقيقة للّغة ولأحكام التّجويد وأصول البيان وقواعد اللّفظ وتقنيات التّنفّس، وممّا يكوّن أيضًا ذاكرة قويّة.
هذا التّكوين اللّغوي الصلب يفسّر حبّ صباح فخري للشّعر الفصيح وعودته المستمرّة إليه كمرجع أساسيّ لاختيار كلمات الأغاني والقصائد الّتي يؤدّيها، ثمّ إنّ أداءه السّلس لهذه المختارات الشّعريّة هو الّذي جعل المتلقي يستقبلها بنشوة وطرب ودون عناء في كافة الأقطار العربيّة، ولعلّ أوّل خصائص فنّه تكمن في "المساهمة بقسط كبير في محو المسافة بين المستمع العربي والعديد من النّصوص الشّعريّة الّتي يتكوّن منها تراثه، وتمكينه من التّلذّذ بجماليّة الفصحى من خلال الاستمتاع بغناء يعطي الكلمة مداها ويؤدّي معناها بفضل النّطق السّليم المتناسب مع مخارج الحروف وتناسق الإيقاع اللّحني مع الإيقاع الشّعري" كما يقول بودن في مقاله السابق، مضيفًا فيه بأن "المدرسة القديمة، على مستوى النّغم، تعتمد دقّة الاسترسال المقامي، ولا شكّ أنّ صباح فخري قد استنبط منها أسلوبه في بناء المقام عند الارتجال والغناء، فهو يتدرج في اللّحن ببسطه لعقودِ مقامِ الأغنية وفق ترتيب منتظم من منطقة القرارات إلى منطقة الجوابات حتى يضع الأغنية في إطارها. وهذا التّدرّج يستوجب تشبّعًا عميقًا بروح المقام، وبكلّ المراحل الّتي تؤدّي إلى ما يسمّى بالسّلطنة، وهي حالة الشّجى القصوى الّتي يبلغها المطرب فيوصلها إلى من يستمع إليه بفعل عذوبة الصّوت وحسن الأداء".
سيبقى "صباح فخري" بانخطافه الوجداني أثناء غنائه، ويديه المفتوحتين إلى أقصاهما، حاضرًا في ذاكرة محبيه وحاضرهم ومستقبلهم، رمزًا للفرح والطرب والأصالة المعاصرة القادر على مغالبة الزمن وقهره رغم خسارات غيابه الأخير.