تبدو الساعات العشر التي قضاها صباح فخري وهو يغني ويرقص في كاراكاس عام 1968 حتى أدخلته موسوعة جينيس، بما فيها من دلالات تلخص عالميته وقدرته وانفتاحه في آن، مدخلًا جذابًا لرثاء فنان رحل، ولكنها ليست بالضرورة مدخلًا لفهمه، لأن القصة الحقيقة تبدأ وتنتهي في حلب.
سيرة صباح الدين أبو قوس لم تنفصل يومًا عن مدينته، فالتشابك بينهما يبدو بعيدًا عن محاولة فضه. كلما ذهبتَ أبعد في صباح؛ ستغوص أكثر في حلب، وكلما تغلغلت في أزقة المدينة العتيقة الراسخة؛ ستجد مزيدًا من صباح.
لم يفعل صباح إلا ما كان يفعله الآخرون من حوله. يحكي في مقابلة تلفزيونية كيف كان يحضر، في الأربعينيات بينما كان طفلًا، حلقات الأذكار ويستمع إلى المنشدين فيها، بينما تتذكر الكاتبة السورية هيا المويل كيف أن الحلبيين خلال الثمانينيات كانوا يجدون متنفسهم في المحلق، وهو طريق تتناثر الحدائق والمروج الخضراء على جوانبه، حيث تختلط رائحة الشواء بصوت الغناء، وأشارت بالذات إلى صوت صباح فخري.
يحتل الطرب مكانةً راسخةً لدى الحلبيين؛ ليس فقط كحدث عابر يمتد ساعة أو اثنتين خلال اليوم ثم ينتهي لكنه خلفية مستمرة تصاحب كل نشاط يومي، ولا كمستمعين يتلقّون ما يُلقى عليهم فحسب لأن الغناء نشاط جماعي، يشارك فيه الجميع، ولا يكاد بيت حلبي يخلو من عود يعزف عليه واحد أو أكثر من أبناء الأسرة، في سهرات السمر والشواء التي تجري وقائعها على جانبي المحلق أو في "أرض ديار" بيوتهم العتيقة.
هنا انبثق صباح ووجد في هذه البيئة متنفسًا لصوته العريض، قضى طفولته متنقلًا في الجامع المجاور بين حلقات الأذكار التي يقيمها المنشدون وكانوا وفقًا لقوله من "القادرين والمتعلمين والمتفقهين". ولأن الخط الفاصل بين الإنشاد الديني والغناء في حلب لا يكاد يُرى فإن ما يبدأ بالإنشاد دائمًا ما ينتهي بقصائد الغزل، وما كان أوله تواشيح كثيرًا ما انتهى بصاحبه إلى الموشحات، سماعًا وغناءً.
تلقي حلب بلعنتها الموسيقية على الجميع، أصابت هذه اللعنة في مطلع القرن العشرين الشيخ سيد درويش البحر عندما قضى عام 1914 هناك بضعة أشهر تعلم خلالهم من عمر البطش، الذي سيرد اسمه لاحقًا في هذا الملف كأحد معلمي صباح فخري، تلحين الموشحات والقدود فصنع لنا أجملها؛ "يا بهجة الروح" الذي أسهم البطش في تلحين خانته "هاتِ كاس الراح"، وكذلك "يا شادي الألحان" وطقطوقة "سيبوني يا ناس" وغيرهم. لاحقًا، سيكبر الشاب صباح أبو قوس ويصبح اسمه صباح فخري، ويمنح ألحان الشيخ المؤسس ما تستحق من أداء يغزله مع ألحان أخرى، مثلما أدمج طقطوقة "سيبوني يا ناس" في إحدى حفلاته مع لحن أحمد صبري النجريدي البديع لأم كلثوم "الفل والياسمين والورد".
هذا "الغَزْل" الذي ينتقل به المؤدي من موشح إلى آخر، طابع حلبي، تجده مع حسن حفار في حفله الشهير في فرنسا، ويقوم به صباح فخري في جميع حفلاته، فهو لا يتوقف عن الغناء بين موشح وآخر بل يحيل المستمع بموال أو فاصل موسيقي إلى ما سيلي، لينتهي الأمر بحفل لا يتوقف الغناء فيه، حرفيًا، مع أداء تصاعدي يصل بصاحبه إلى ما يشبه النيرڤانا، يسمح له بالغناء ساعات متواصلة بلا توقف، ولكنَّ الفضل في ذلك كله يعود إلى حلب، التي تحضر في هذا الملف، عبّر كُتّابها وحكاياتها وغنائها، وفنانها الأول الذي شكّل صوتها إلى العالم.
علاء السيد
بوفاة صباح فخري، رحل آخر الرموز الحية للـ "الإسلام الحلبي". على الأرجح أن هذا المصطلح لم يُستخدم بعد، خاصة مع رواج مصطلح "الإسلام الشامي" الذي يشير إلى التدين المنفتح المعتدل في بلاد الشام، ولكن "الإسلام الحلبي" يمتاز عن "الشامي" باعتماد الفن، وخاصة الغناء والموسيقى، أساسًا للتواصل مع الخالق ولقبول الآخر مهما كان دينه ومعتقده.
صهيب عنجريني
حلب - شتاء 2013
ندخل المدينة في الواحدة صباحًا بعد رحلة استمرت ثلاث عشرة ساعة. الظلام يبتلعُ كلّ شيء على جانبي الطريق الذي تنيره أضواء سيارتنا. يطلق أبو عمر تنهيدة طويلة، يناولني سيجارة من دون أن ينظر إليّ، ويقول "والله وصلنا بالآخر، الحمد لله ع السلامة، خدلك وحدة حمرا". أتناول السيجارة وطنية الصنع، وأقول ضاحكًا "إي والله وصلنا، الحمد لله ع السلامة، ويعطيك العافية يا أبو عمر".
بديع صنيج
ليست مبالغةً أن نطلق لقب "زرياب سوريا" على صباح فخري. فكما تشبَّع أبو الحسن علي بن نافع بالموسيقى حدَّ الثَّمالة، آخذًا علوم الغناء ومهارات العزف على العود، قبل أن يضيف وتره الخامس، من إبراهيم الموصلي وابنه إسحق وبعدهما منصور زلزل، فعل صباح، بدايةً من تتلمذه على يد الأستاذ الشّيخ علي الدّرويش وابنيه إبراهيم ونديم في حلب وبعدهما الشيخ عمر البطش في المعهد الموسيقي بدمشق.