عُرف عن صلاح عيسى إسهامه الغزير في حياته، حيث نشر ثلاثة وعشرين، أكرر الرقم، ثلاثة وعشرين كتابًا ومجلدًا في التاريخ والسياسة والصحافة، كلها معتبرة، ويعدُّ بعضها مرجعًا في مجاله، ولكن الأكثر غرابة أن إسهام الرجل لم ينقطع بوفاته، إذ ترك عددًا كبيرًا من الكتب الجاهزة والمعدّة للنشر، صدر منها أخيرًا أفيون وبنادق.. سيرة سياسية واجتماعية لخُط الصعيد الذي دوّخ ثلاث حكومات الشهر الماضي عن دار المحروسة.
كان عيسى نشر هذا الكتاب بالفعل على شكل حلقات مسلسلة خلال عام 1979 في مجلة 23 يوليو التي كانت تصدر في لندن، وظلّ الكتاب في أدراج الكاتب. وهنا أبادر بالشكر والامتنان للأستاذة أمينة النقاش الصحفية ورفيقة رحلة صلاح عيسى لاهتمامها بنشر تراثه الذي لم ير النور في حياته، وهي من جانبها وجّهت شكرًا خاصًا للباحث وليد حسن الذي تطوع بالبحث والتقصي في دوريات أربعينيات القرن الماضي ليحصل على هذا القدر الوفير من الصور والوثائق المنشورة في الكتاب.
وعلى الرغم من اهتمام عيسى الفائق بالخُطّ نفسه، وتتبعه لتفاصيل جرائمه، ومحاولات الشرطة للإيقاع به، وانشغال الجميع به، بما في ذلك الملك فاروق نفسه، لكنه أضاف أيضا تحليلًا سياسيًا واجتماعيًا للجرائم بوصفها تعبيرًا عن واقع المجتمع والحُكم والحاكمين. ولم تكن مصادفة أن موجة "الأشقياء" و"أولاد الليل" و"المطاريد" التي خلّد بعضها الوجدان الشعبي في قصة أدهم الشرقاوي على سبيل المثال كلها وقعت أحداثها عقب هزيمة الثورة العرابية. وحسب عيسى فإن الكثير من هؤلاء الأشقياء وجّهوا رصاصهم ضد الذين خانوا الثورة وباعوها، فقد ثبت مثلا أن السلاح "بقية ما وزعه عرابي من أسلحة على الفلاحين للمشاركة في صدّ الغزو".
ويلفت عيسى النظر إلى أنه عثر على الخطوط الأولى لكتابه أثناء رصده لملامح موجة العنف السياسي في العقد السابق على قيام نظام 23 يوليو مباشرة حيث لاحظ أن "حياة أولاد الليل (أبطال موجة العنف الجنائي) هي الوجه المكمّل لهذه الظاهرة"، وقد أدركتُ على الفور الارتباط بين وجهي هذه الموجة، ومن هنا كان اهتمامي بسرد وتحليل قصة زعيم أولاد الليل محمد محمود منصور الشهير بـ "الخُطّ"، حسبما قرر عيسى في مقدمة كتابه.
من جانب آخر، فإن اهتمام الكاتب بالجرائم الكبرى في تاريخنا الحديث يشكّل ملمحًا أساسيًا من إسهامه الفكري والسياسي، فقد أصدر مجلدًا ضخمًا عنوانه رجال ريا وسكينة عن الجريمة الشهيرة التي هزّت البلاد في أوائل القرن الماضي، وفي شاعر تكدير الأمن العام يقدم غوصًا استقصائيًا في الملفات القضائية التي حوكم بموجبها الشاعر أحمد فؤاد نجم، وأصدر كذلك مجلدًا نفيسًا هو البرنسيسة والأفندي الذي ينتهي بجريمة القتل المروعة التي ارتكبها رياض أفندي غالي بإطلاق الرصاص على زوجته البرنسيسة ابنة الملك فؤاد وشقيقة الملك فاروق وانتحاره، ومأساة مدام فهمي عن جريمة القتل التي ارتكبتها الزوجة الفرنسية لأحد المنتسبين للعائلة المالكة في ثلاثينيات القرن الماضي.
وفي أفيون وبنادق، ومثلما فعل في سائر كتبه السابق الإشارة إليها، تكون الجريمة مدخلًا لدراسة واسعة وشاملة للمجتمع والحكام والمحكومين والقوى السياسية المختلفة والصراعات الاجتماعية الدائرة. وإذا كانت الجريمة معروفة سلفًا، وهي السلسلة الطويلة من القتل والسرقة والهجوم على رجال الشرطة وترويع الأهالي وتسميم المواشي وحرق المحاصيل وفرض الإتاوات التي ارتكبها محمد منصور الشهير بـ "خُطّ الصعيد"، إذا كان ذلك كذلك، فإن عيسى أعاد قراءة كل ماكُتب في الصحف والمجلات والمذكرات، وعلى الأخص التحقيقات التي نشرها صحفي الحوادث الشاب آنذاك محمد حسنين هيكل في مجلة آخر ساعة ولفتت إليه الأنظار بقوة، إلى جانب المذكرات التي كتبها ضابط البوليس الذي تولى القضية محمد أفندي هلال الذي طارد الخُطّ لأكثر من سنة واقتنصه في نهاية الأمر، غير أنه هجر البوليس واشتغل بالصحافة، من هذا وذاك خرج عيسى برواية جديدة هي الأدق والأشمل للخُطّ.
على أي حال، فإن المسرح السياسي والاجتماعي، الذي دارت على خشبته قصة الخط في بدايات الحرب العالمية الثانية، كان مشتعلًا وحافلًا بالأزمات والمشاكل، حيث شهدت البلاد على سبيل المثال موجة رهيبة من العنف، لم تقتصر على الجرائم الجنائية كالخطف والسرقة والقتل، بل تعدّت ذلك إلى جرائم العنف السياسي ممثلًا في حوادث نسف المباني ودور السينما والمؤسسات الاقتصادية التابعة لجيش الاحتلال، بينما كانت السلطة في يد حكومات الأقلية المكروهة من الشعب، وفي الوقت نفسه انتشرت الأوبئة مثل الملاريا وبعض حالات الطاعون، كما ارتفعت الأسعار واختفت السلع الأساسية، ومات الناس جوعًا، حرفيًا وليس على سبيل المجاز، بينما أثرى المضاربون والأفاقون، أما الشرائح العليا بين الطبقات المالكة فعرفت جنونًا في الإنفاق، وانزلقت بنات الأسر المستورة إلى هوّة البغاء الذي كان مرخصًّا ويمارس في ظل حماية القانون.
وخلال الحرب العالمية الثانية، كانت معسكرات الحلفاء انتشرت في طول البلاد وعرضها، وتسرب منها مدد لا ينتهي من الأسلحة والذخائر، وتشكّلت عصابات منظمة لتهريبها وبيعها في الأسواق، بل يشير عيسى إلى أن بعض المعسكرات كانت تبيع قطع السلاح والرصاص بالمزاد العلني، ولم يكن غريبًا أن يكون السلاح الذي تستخدمه الخالة فضة أم الخط مدفع تومي جن، تحرسه به في الوقت المختلس الذي يمضيه في بيته أحيانًا.
أما الظاهرة نفسها، أي ظاهرة المطاريد الذين يتحولون إلى عصابات يسكنون الجبل ويفرضون الإتاوات، فبدأت بالهاربين من الثأر، أولئك المحكوم عليهم من جانب عائلاتهم والعائلات المناوئة لهم في سلسلة طويلة، ولا يكون أمام الهارب من الثأر إلا توقع الموت في كل لحظة، والمكان الأكثر أمنًا بالنسبة له هو الجبل، ويضاف إلى هؤلاء الأخيرين الأشقياء ومرتكبو الجرائم الجنائية الهاربون من الحبس.
للظاهرة جوانب أخرى يلفت عيسى النظر إليها، حيث لاحظ مثلًا أن معظم التقارير من جانب وزارة الداخلية، لا تخلو من الشكوى من الأعيان الذين يعرقلون جهودها في القبض على الأشقياء، والثابت أن ثمة تحالفًا تم بين أولاد الليل وأولاد البيوتات، بينما وقفت الجماهير الغفيرة من الفقراء على الحياد، ولم تقدّم عونها للبوليس خوفًا من أولاد الليل من ناحية، وأملًا في الحصول على عطاياهم من ناحية أخرى.
ما سبق هو المسرح السياسي والاجتماعي الذي غطى عيسى كل جوانبه قبل أن ينتقل للخُطّ نفسه: محمد منصور صياد السمك الفقير وابن قرية درنكة. كان جده فقيهًا ومعلّم قرآن ينحدر من أسرة بالغة الفقر. وتتعدد الروايات التي أوردها الكاتب حول حياة الخط وتحولاته وأسباب لجوئه لحياة أبناء الليل الممطاريد، لكن أقرب رواية للحقيقة تشير إلى أنه بعد انتهاء طفولة محمد منصور كُلّف برعي أغنام العائلة، وفي أحد الأيام التي خرج فيها وراء الغنم، منعه شيخ الخفراء من الرعي في مكان بعينه، وصفعه صفعة زلزلت الصبي الذي كان على مشارف الرجولة، وتملكه الغضب وأسرّ في نفسه ما ينتويه للرد على إهانته على هذا النحو. وفي اليوم التالي ردّ محمد منصور الصفعة برصاصة استقرت في قلب ابن شيخ الخفراء، وسرعان ماجاء الرد التالي من جانب شيخ الخفراء بقتل كبير عائلة الخط وهو عم محمد منصور. وعلى مدى أسبوع قتل الخط تسعة من عائلة شيخ الخفراء، ثم خرج مع إخوته إلى الجبل لتبدأ مرحلة جديدة. وهنا ليس معروفًا متى عمل محمد منصور صيادًا للسمك، وربما كانت صفعة شيخ الخفراء في وقت تال، وعمومًا فإن هناك عدة روايات لنشأة وبدايات محمد منصور.
لا يقتصر عيسى على تقديم حياة الخط وعصابته من أولاد الليل، بل يقدم بانوراما واسعة حية لعصابات تلك المنطقة في ذلك الزمان، مثل عصابة عواد، طالب الأزهر الفاسد الذي وصلت جرأته إلى التردد على الملاهي والأفراح، بل وكان يغشى دار السينما الوحيدة في أسيوط، في الوقت نفسه الذي يكون فيه مدير المديرية وأسرته في البنوار المجاور يشاهدون الفيلم، دون أن يجرؤ أحد على الوشاية به. ويفرد صفحات لمغامرات قرصان النيل أحمد عبد الغفار الذي كان ميدانه ومجاله نهر النيل.
في عام 1940 وقرب اضطرار مصر للتورط في الحرب العالمية الثانية إلى جانب حليفتها إنجلترا التي كانت تحتلها، قررت حكومة علي ماهر اعتقال الأشقياء في معتقل الطور. وهناك التقت عدة عصابات، كان من بينهم عصابة الخط وعصابة عواد. وفي عام 1943 نفذّت العصابتان خطة للهروب من المعتقل، واندمجتا بزعامة الخط الذي حكم مناطق شاسعة في عالم أولاد الليل. ويفرد الكاتب الصفحات تلو الصفحات في تناول الجهود التي بذلتها عدة وزارات متعاقبة في حصار مطاريد الجبل، وشاركت بعض فرق الجيش من معسكراتها في منقاد بأسيوط في مطاردة الخط تحديدًا، وقامت الطائرات بغارات كثيفة على الجبل دون جدوى. وفي عام 1946 تشكّلت مجموعة خاصة باسم "فرقة المطاردة"، ظلّت تتنقل على مدى سنة بين القرى والمراكز وراء البلاغات، لكن الخط كان يفلت في اللحظة الأخيرة.
أما الضابط محمد أفندي هلال الذي أسندت إليه القضية، فخاض الأهوال حقًا، وزار الخالة فضة أم الخط و رشيدة زوجته، بل وتخفى في ملابس بلدية واصطحب زميلًا له إلى أحد بيوت البغاء والتقى بسميرة عشيقة الخط، وحاول استمالتها بعرض مبالغ مالية للمساعدة في تسليم الأخير، لكنها رفضت تمامًا، بل وتحملت ضربات السياط على يد المعلمة صاحبة بيت البغاء، وطُردت وأهينت دون أن تستسلم.
يخطف صلاح عيسى القارئ وهو يحكي المطاردات والخطط الفاشلة، ولهاث فرقة المطاردة الخاصة، وأوكار اختفاء العصابة، والعالم السري ممثلًا ببيوت البغاء القانونية، والتحالف مع الملاك والأغنياء والإتاوات التي كانت العصابة تحصل على قيمتها، والسيطرة المطلقة لمطاريد الجبل. القارئ أيضا أمام وثيقة اجتماعية حية ونادرة، وليس أمام جريمة أو عصابة.
على أي حال، لم يكن ممكنا الإيقاع بالخط إلا بالخيانة، حيث لعب عمدة القرية التي كان الخط اختبأ فيها الدور الأول، فهو مرشد للبوليس من ناحية، وصديق للخط من ناحية أخرى، وأبلغ محمد افندي هلال بالوقت والمكان المحددين لتسليم قيمة فدية كان الخط فرضها على أحد أبناء القرية، وتم تصفيته على الفور وشاركت الفرقة الخاصة جميعها في إطلاق الرصاص عليه، وعندما جاءت أمه الخالة فضة، حسب أوامر الحكومة للتعرف عليه، كانت المرأة قوية إلى الحد الذي جعلها تتمكن من النظر لجثة ولدها وتنكر معرفتها به وهي ثابتة الجنان، وكان كيد الحكومة التي قتلت ابنها والانتقام منها أقوى من أية مشاعر، وهي تعلم جيدًا أن عدم اعترافها بأن الجثة تخص ابنها سيعطل القضية بعض الشيء، لكنها اعترفت بعد مماطلة استمرت وقتًا لابأس به.
تلك سيرة الخط الذي دوّخ ثلاث حكومات، ورواها صلاح عيسى على نحو مشوّق بالفعل، لكنه كاشف للعصر والمجتمع والحاكمين والحكام في الوقت نفسه.
بقيت إشارتان سريعتان؛
- الأولى تتعلق بتاريخ المقدمة التي كتبها عيسى لكتابه وتحمل تاريخ أغسطس/ آب 1973، بينما تذكر الأستاذة أمينة النقاش في التذييل الذي وضعته في نهاية الكتاب أن صلاح عيسى ألّف كتاب أفيون وبنادق سنة 1979 ونشر فصوله مسلسلة في مجلة 23 يوليو الأسبوعية التي كانت صدر في لندن. والسؤال: هل كتب صلاح الكتاب عام 1973 ثم انتظر ست سنوات كاملة قبل أن ينشره أم أن هناك خطأً ربما يكون مطبعيًا؟
- والثانية أن الكتاب يخلو تمامًا من الإشارة للمراجع وتوثيق الكثير مما أورده في متنه، من عناوين ودور وسنوات نشر أو إصدار الكثير من الكتب والمذكرات والأوراق الرسمية.