يسكت السرد في ألف ليلة وليلة عن أبعاد شخصية شهرزاد باستثناء تبحرها في حكمة وحكايات الأمم. ماذا عن عاداتها الشخصية، عن تفضيلاتها في الطعام ومهارتها في الطبخ على سبيل المثال؟ وهل كان بمقدورها أن تحافظ على فضول الملك الغاضب طبخة بعد طبخة؟
حتى لو استفادت من دعم دنيا زاد في نهاية كل وجبة "ما أحسن طبخك يا أختاه وأعذبه" وردَّت عليها كما يجب أن ترد "فأين هذا مما أطبخه لعشاء الغد إن أحياني الملك" ما كان بوسعها أن تحمله على إرجاء موتها يومًا آخر؛ فالطعام، على خلاف السرد، لا يترك للشبعان فضولاً لوجبة قادمة. كما لا يمكنها أن تتكئ على حيلة الإرجاء من خلال طبخة لا تنضج أبدًا، لأن الجوع يحمل على الغضب لا الفضول.
هكذا فاتنا أن نختبر تأثير طبخ سيدة الحكايات على شهريار، وفاتنا أن نتذوقه نحن القراء، لكنها قدَّمت لنا امرأتين تمكنت إحداهما من اصطياد ثلاثة أعداء وحبيب بطبق حلو، واستطاعت الأخرى إنقاذ شرفها بمائدة من تسعين طبقًا.
حكاية علي شار والجارية زمرد واحدة من أغني حكايات الليالي بالإثارة البوليسية (من الليلة 308 إلى الليلة 327- طبعة القاهرة). نتعرف في بدايتها على حياة الشاب المليح الذي بدد ميراثه، حتى أوشك على الهلاك من الجوع فخرج إلى السوق بحثًا عن مخرج. وهناك رأى حشدًا من الناس اتجه إليه لينظر ما يجري؛ فوجد مزادًا منصوبًا لبيع جارية كالبدر أطارت ألباب المشترين، وأوصلوا سعرها إلى ألف دينار ثم توقفوا محبطين، لأنها كانت قد اشترطت على التاجر ألا يبيعها إلا لمَن تختاره هي.
هذا التقييد للبيع لازم للحبكة، وهو مقنع، استنادًا إلى حكايات حقيقة عن جوار واقعيات؛ فالجمال سلطة تجعل الجارية قادرة على فرض سطوتها. وهكذا يُعلمنا مبدعو ألف ليلة العظماء أن الخيال ليس تهويمًا في الفراغ، ولكي يكون مقنعًا لابد أن يمد جذرًا في الواقع.
رفضت زمرد أن تباع لمن تحمسوا لشرائها من بِيض اللحى؛ فهي لا تحب أن يكون القطن حشو فمها من قبل الموت، وانتقت الشاب المتفرج علي شار وجعلت الدلاَّل يعرضها عليه بمئة دينار، فأجابه بأنه لا يملك شيئًا حتى إنه لم يفطر حتى تلك الساعة، فما كان من زمرد إلا أن انتحت به جانبًا، وأعطته الألف دينار التي توقف عندها المزاد.
عاشا في هناءة دامت عامًا، وبسبب غفلة علي شار تتبعه محتال حتى عرف البيت وخدَّره واختطفها لصالح شقيقه التاجر الثري المسن الذي كانت قد رفضته وسخرت من شيبته. وتظهر في القصة جارة تتعاطف مع حزن علي شار. تتجول في صفة بائعة جوالة وتتوصل للقصر الذي أُخفيت فيه زمرد، وترتب معها خطة هروب تبلغها لعلي شار. في ساعة محددة من الليل، تتدلى زمرد من شباك القصر فيتلقفها، لكنه ينعس وقت انتظارها ويتلقفها بدلًا منه لص، يحملها إلى مغارة في الخلاء ويتركها تحت حراسة أمه، فتتمكن من مغافلة المرأة والهرب مستعينة بملابس وسيف وحصان جندي كان اللص قد قتله واستولى على عتاده.
تجنبت المدن ومضت في البراري عشرة أيام حتى وصلت إلى مدينة يقف أمامها الجند هتفوا بها سلطانًا للمدينة. استغربت الأمر؛ فأعلمها الجند أن هذه المدينة إذا مات سلطانها ولم يكن له ولد، يقفون ببابها ثلاثة أيام يترقبون أول عابر فيولونه سلطانًا.
وبعد عام من حكم المدينة في هيئة رجل أحبت الرعية سلطانها الوافد؛ لكن زمرد اشتاقت لعناق حبيبها والانتقام من خاطفيها. ولأنها سلطانة فلن تخرج للبحث، بل يجب أن يأتيها الحبيب والعدو إلى مجلسها.
أمرت بإغلاق كل البيوت والحوانيت يومًا في الشهر، ومد سماط سلطاني ضخم يأكل فيه كل سكان المدينة وضيوفها، بينما تراقب من مكان خفي لتكتشف الغريب الذي يجهل تقليدًا للمائدة في المدينة يجعل طبق الأرز باللبن حكرًا على الأمراء.
بهذه الحيلة أوقعت بأعدائها واحدًا وراء الآخر ونكلت بهم شر تنكيل ثم تعرفت على حبيبها وقضى الليل في مخدعها. وقبل أن يذاع سر السلطان المزيف جمع أرباب الدولة وطلب منهم أن يختاروا رجلًا ليحل مكانه، ريثما يزور بلد هذا الرجل ويعود إليهم؛ فأجابوا سلطانهم بالسمع والطاعة. وهكذا هربت مع حبيبها إلى بغداد، في أسهل واقعة تنحٍ عن السلطة.
الطريف أن الليالي لا تهتم بذكر الاسم الذي حكمت به زمرد هذه المدينة. ولا يبدو أن في الأمر خطأ أو هفوة في السرد، ويمكننا أن نفسر الأمر على أن الرعية التي دانت بالطاعة لأول عابر سبيل، لا تستحق أن توليها شهرزاد عناء تدبير اسم لذلك الغريب.
وهذا ما كان من أمر زمرد التي عاشت مع حبيب أقرب إلى الأبله، أضاع ثروته ثم أضاع حبيبته مرة بعد أخرى.
وأما الزوجة المخلصة والطاهية الأمهر في ألف ليلة كلها فنجدها في الليلة 980 (طبعة برسلاو).
أول ما تنبهنا إليه القصة هو لغة ومضمون الخطاب الشهرزادي، الذي تصاعد لفظًا من التبجيل الشديد إلى التبسط مع شهريار، ومن موافقته بقصص تحكي عن خيانات النساء لكسب وده ثم طرح خيانات الرجال وفي هذه القصة فإن من شرع بالخيانة ملك.
اقتربت من الليلة الألف وصار بوسعها أن تخاطبه "اعلم أهيا الملك العظيم أنه كان ملك من الملوك وكان عظيم الشأن مغرمًا بحب النسوان والولوع بهن". أي أنكم يا معشر الملوك بشر، تعشقون وتخونون كما تتعرضون للخيانة.
في القصة امرأة كانت تقف فوق سطح بيتها فلمحها الملك العظيم المحب للنسوان واشتاقت إليها نفسُه ولما سأل عنها قيل له إنها زوجة وزيره؛ فكلَّف الوزير بمهمة سفر، واحتال للدخول إليها؛ فلما رأت الملك في بيتها قبَّلت الأرض بين يديه ورحبت به.
بثها أشواقه فحاولت صده بالتقليل من شأن نفسها كما تفعل امرأة عفيفة خائفة "إنني لا أصلح خادمة لأقل جواري الملك، وإن لي والله الحظ العظيم حيث وقعت في خاطر الملك بهذه المنزلة" ولما رأته يتمادى، قالت له "فلينعم الملك على جاريته ويقيم عندها اليوم حتى أصنع له شيئًا يأكله ويشربه".
وأتت له بكتاب فيه مواعظ، ريثما أعدت له مائدة من تسعين لونًا قدَّمتها إليه في تسعين صحنًا مصحَّفًا بالذهب؛ فجعل يأكل من كل صحن لقمة فوجد الطعم واحدًا. تعجَّب من ذلك، فقالت له هذا مثلٌ ضربته لك؛ لأن في قصرك تسعين جارية مختلفات الألوان وطعمهن واحد، فخجل الملك منها وانصرف دون أن يتعرض لها بسوء، لكنه نسي خاتمه تحت الوسادة.
وعندما عاد الوزير وجد الخاتم وعرف صاحبه؛ فأصابه الغم، ولكنه لا يستطيع أن يفعل شيئًا، وحمَّل امرأته المسؤولية. لم يقتلها بالطبع كما فعل الخيَّاط بزوجته في قصة التفاحات الثلاث، فالهجر في الفراش أقصى ما يستطيعه زوج في مثل تلك القصة.
تحملت امرأة الوزير عامًا من الهجر، (العام هو النصاب المعتمد في الليالي للصبر على ظلم أو شوق أو جهل بحقيقة)، شكت زوجها إلى أبيها، فصعد يشكو زوج ابنته عند الملك فوجده قائمًا بين يديه. ولابد من المجاز عند الحديث مع أصحاب المقام. قال الوالد "أصلح الله الملك، إنه كانت لي روضة حسنة غرستها بيدي وأنفقت عليها من مالي حتى أثمرت ووجب اجتنايها فأهديتها لوزيرك هذا فأكل منها ما طاب له ثم رفضها وزهد فيها فتيبست وذهب رونقها وجفت زهرتها وتغيرت حالتها".
ودافع الوزير عن نفسه ملتزمًا بالمجاز ذاته، فاعترف بهجر روضته بعد أن دخلها فوجد فيها أثر الأسد، ما جعله يخاف على نفسه منه ويعتزلها. فقال له الملك "ارجع إلى روضتك وأنت آمن مطمئن فإن الأسد ما بقي بقربها، وقد بلغني أنه دخل إليها، ولكنه لم يتعرض لها بسوء ولا حصل مكروه".
تنبهنا القصة إلى أن الشرف والأخلاق قضايا نسبية تعتمد على موازين القوة بين الجارح والمجروح؛ فلو جرت الأمور بالعكس، لانتهت الحكاية كنهاية قصة شهريار ذاته. ولنا كذلك أن ننتبه إلى رقم الليلة، وهذا شيء بالغ الحساسية في بنية الليالي؛ إذ تبدأ في الليالي الأولى بمجاراة شهريار الغاضب، وتمنحه ما يوافق هواه من قصص تدين النساء، ومع تصاعد السرد يبدأ التوازن إلى أن تحكي له هذه القصة قرب النهاية، لتقول له إن كل البشر يخطئون، حتى أنتم يا معشر الملوك.
انتهت القصة بعودة الوزير إلى روضته، ولم نعرف كيف جعلت هذه المرأة التسعين لونًا من الطعام بطعم واحد، لكي تصنع أمثولتها. أية توابل استخدمت وبأية كمية؟ أية طريقة للطهي؟ هل حوت الأطباق صنفًا واحدًا أضافت إليه مكسبات الألوان؟
أيًا ما كان الأمر؛ فليس هناك ما يغري بالتعب من أجل اكتساب مهارة إعداد تسعين طبخة تنتهي إلى طعم واحد. لكن مهارة السرد واضحة في القصة المُنكَّهة بأفضل توابل الكتابة.