في شتاء 2020، جلس الكاتب الصحفي المخضرم مكرم محمد أحمد في ضيافة الإعلامي أحمد موسى، ليتحدث عن غياب حرية التعبير وتزايد التضييق على الإعلاميين، داعيًا الصحفيين إلى تحمل المخاطر الناجمة عن محاولاتهم توسيع هامش الحرية الذي يعملون في إطاره، لأن أحدًا لن يمنحهم شيئًا ما لم يبادروا هم إلى تحسين أوضاعهم المهنية.
المخاطر التي تحدث عنها أحمد تضمنت، خلال السنوات الخمس الأخيرة، القبض على صحفيين وحبسهم احتياطيًا لأشهر على ذمة قضايا لا تحال عادةً إلى المحاكم. ولكن في حالات أخرى اقتصر الأمر على حجب المواقع، أو توقيع عقوبات مالية على صحفيين ومؤسسات صحفية دون الإشارة إلى مخالفات محددة، بمعرفة المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الذي كان يترأسه في ذلك الوقت مكرم محمد أحمد نفسه.
قبل 11 شهرًا من حديث أحمد عن غياب حرية التعبير ودعوته الصحفيين إلى التمرد على هامش الحرية المتاح، أصدر المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام لائحة جزاءات وتدابير منح نفسه فيها صلاحيات واسعة لتوقيع جزاءات على الصحف والمواقع الصحفية إذا ارتكبت "مخالفات" قالت نقابة الصحفيين إن صياغاتها جاءت "مطاطة" بما يسمح بـ "معاقبة المخالفات الاحتمالية"، في خطاب أرسلته إلى المجلس تضمّن تسع ملاحظات على اللائحة التي واجهت الكثير من الانتقادات.
يطرح ذلك تساؤلات كثير حول الانحيازات المتضاربة لواحد من أكثر الصحفيين المصريين تأثيرًا، سواء بإدارته لمؤسسة الهلال ورئاسته تحرير المصور التي كانت في عهدته خلال عقد الثمانينيات إحدى أكثر المجلات تأثيرًا ورواجًا، أو دوره النقابي الذي باشره من على كرسي النقيب لثمان سنوات متفرقة؛ من 1989 إلى 1993 ثم من 2007 وحتى 2011.
المجلس الأعلى: بوابة العودة
فتح تعيين مكرم محمد أحمد كأول رئيس للمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام عام 2017، بوابة عودة الرجل إلى العمل العام لأول مرة منذ اندلاع ثورة 25 يناير، بعد أن طُرد خلال هذه السنوات الستة من مقر النقابة مرتين؛ كانت الأولى قبل يومين من الإطاحة بمبارك على وقع هتافات منددة بفلول نظامه، والثانية عام 2016 بعد هجومه على النقيب حينها، يحيى قلاش، بسبب موقفه من اقتحام الشرطة مقر النقابة.
وفور تعيين، أعلن أن مجهوده وزملائه في المجلس سينصبّ على "وضع خريطة لإصلاح وضع الاعلام في مصر، والذي أصبح يحتاج إلى علاج جذرى وجراحات شديدة". ومن موقعه الجديد، واصل أحمد دعمه للنظام وأجهزته، مثل ترحيبه بالتعديلات الدستورية التي أجريت عام 2019 ومنحت الرئيس عبد الفتاح السيسي ثمان سنوات إضافية في قصر الرئاسة، وقبلها وقف صفًا واحدًا مع القائلين بسعودية جزيرتي تيران وصنافير، واصفًا تنازل الحكومة والبرلمان عنهما بأنه "شجاعة أدبية".
العلاج الجذري والجراحات الشديدة التي كان يحتاج إليها الإعلام جاءا، بحسب رؤية رئيس المجلس الأعلى لتنظيمه، على شكل صلاحيات واسعة لا تتغول فقط على مساحة حرية الصحفيين في العمل بل كذلك على صلاحيات مؤسسات أخلى كنقابتي الصحفيين والإعلاميين، والرقابة على المصنفات الفنية، كما تضمنت الكثير من المصطلحات المطاطة، وفقًا لدراسة أعدتها مؤسسة حرية الفكر والتعبير.
وحتى حين وجه الصحفي انتقادات للسلطات الشرطية التي اقتحمت نقابته عام 2016، وألقت القبض على اثنين من زملائه الصحفيين أثناء اعتصامهما في مقر النقابة، كان حديثه واضحًا وانتقاداته محددة، بل وسأل إذا ما كان هناك إساءة تم توجيهها خلال ذلك الاعتصام لقائد البلاد، والذي كان دائمًا يرد له الفضل في تخليص البلاد من "الجماعة الانتهازية" على حد وصفه لجماعة الإخوان المسلمين.
الثمانينيات: قلم الدولة الوفيّ
شكّل مكرم محمد أحمد أثناء رئاسته تحرير مجلس المصور في سنوات الثمانينيات أداة هامة في مواجهة الدولة مع تيارات الإسلام السياسي، قدم ملخصها في كتاب صدر عام 2002 بعنوان مؤامرة أم مراجعة، ويتناول "حوارات مع قادة الإرهاب والتطرف في سجن العقرب" أجراها على مدار أكثر من أربع أسابيع.
عمله في تلك الفترة كاد يودي بحياته في محاولة اغتيال عام 1987، وثق تفاصيلها في مقال.
وصل مكرم إلى رئاسة مجلس إدارة دار هلال عام 1980، قبلها، عمل في دار أخبار اليوم ثم الأهرام؛ مديرًا لمكتبها في دمشق ثم مراسلًا عسكريًا في اليمن عام 1967، ليعيّن بعد عودته رئيسًا لقسم التحقيقات وواصل الترقي ليتولى منصب مدير تحرير أعرق الصحف المصرية.
وكانت واحدة من أبرز العلامات في مشوار مكرم هي أنه، وبحسب الهيئة الوطنية للإعلام "كان أول من يدخل سيناء بتصريح من الأمم المتحدة قبل جلاء القوات الإسرائيلية بشهرين"، ليظهر للنور بعد ذلك كتابه "أحاديث مع الإسرائيليين"، مُلخصّا لما لعبه من دور مهني آنذاك.
حين رحل أحمد عن الأهرام بتعيينه رئيس مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال ورئيس تحرير مجلة المصور، أصبح واحدًا من الإعلاميين المقربين من الرئيس الجديد حسني مبارك، حد حديث بعض معاصريه عنه باعتباره واحدًا من كُتّاب خُطبه. لاحقًا لخصّ مكرم مشواره مع مبارك في كتاب حوار مع الرئيس.
لم يسخر مكرم قلمه في معركة الدولة مع الإسلاميين فقط، فقد شن الرجل أيضًا هجومًا على "اليسار العقائدي" واتهمه بركوب انتفاضة الخبز عام 1977، كما انتقد موقف مجلس نقابة المحامين الرافض لتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل. وفقط بعد اغتيال السادات، أدرك مكرم حجم الفساد وتزوير الانتخابات في عهده، حسبما ترصد قراءة في مقالاته في المصور.
ولكن عقد الثمانينيات انتهى بانتخاب مكرم محمد أحمد نقيبًا للصحفيين للمرة الأولى، وهنا، بدأت مناوشات النقيب والسلطة.
في نقد "العصر المملوكي"
في ذلك العام 1989، كان مدحت الزاهد، الصحفي والقيادي اليساري بين المتضامنين مع عمال مصنع الحديد والصلب الذين اقتحمت الشرطة اعتصامهم وفضته بالسلاح في مواجهات انتهت بمقتل عامل.
حينها، ألقت السلطات القبض على الزاهد، الذي يسترجع في حديثه مع المنصّة موقف النقيب مكرم محمد أحمد، من القبض عليه ورفاقه مصطفى السعيد والدكتور محمد السيد سعيد الذي كان يتعرض للإغماء بسبب ضربه، لدرجة جعلت مسؤولي السجن يعزلوه في زنزانة بمفرده.
يقول الصحفي "بعد اللي اتعرضنا له من ضرب وترويع وكنا على وشك بدء إضراب تصاعدي، وصل للسجن وفد من الأهرام ونقابة الصحفيين برئاسة مكرم، ومعه كل من أسامة سرايا والسيد ياسين وجهاد عودة وعبد المنعم سعيد وأسامة الغزالي حرب. واخدونا من الزنزانة للقائهم وكان فيه تهديد ضمني إننا مانجيبش سيرة محمد السيد سعيد. وده زود شكوكنا في إنه حصل له حاجة هددت حياته".
يتابع الزاهد "سألنا مكرم عن الإضراب اللي عايزين نعمله، فقولت له مفيش فرش ولا غطا ننام عليهم، ولا نور في الزنزانة، وخلعت هدومي ووريته آثار التعذيب، وحكيت له عن اللي حصل لمحمد السيد سعيد، وقولت له بحملكم مسؤولية سلامته. وفعلاً وقتها مكرم طلب يشوفه، ولما مالقاش استجابة عمل نفسه نايم وإنه مش هيمشي. وبعدها كرر طلبه تاني وقال للمأمور اللي بيحصل ده ولا العصر المملوكي".
يومها تمكّن مكرم باستغلال علاقاته مع رئاسة الجمهورية من الضغط على السلطات للاطمئنان على حالة محمد السيد سعيد، الذي وجدوه فاقد الوعي في زنزانة.. ليخرج بعدها مكرم من السجن إلى حملة إعلامية كبيرة سخرها لإطلاق سراح زملائه، بل ونظّم لهم حفلة في النقابة بعد خروجهم من السجن.
في ذلك الوقت ظهر لأحمد وجهين متناقضين، مقاتل ومهادن، رآهما الزاهد، فهو وفقًا لشهادته مَن ضغط من أجل حرية زملائه في المهنة وبلغ الأمر حد إقالة زكي بدر، وهو أيضًا مَن ضغط عليهم حتى لا يتحدثوا في حفل النقابة عمّا تعرضوا له، إلاّ أن المحاولات باءت بالفشل، وكشف الصحفيون ما وقع لهم داخل الزنزانة.
"يعيش الإنسان في اختبار دائم، ولا يشفع له موقف واحد جيد أمام مواقف أخرى غير جيدة"، يقول مدحت الزاهد وهو يستكمل شهادته عن مكرم محمد أحمد، رئيس المجلس الأعلى للإعلام الذي "وقت أن ظهر أصوات مُعارضة لنقل تبعية جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وتم منعها من الظهور في الإعلام الرسمي، لم يُحرّك ساكنًا. وظل ثابتًا على هذا الموقف حين بدأ تصويرنا كمعارضين باعتبارنا خطرًا على الأمن القومي".
ظل مكرم محمد أحمد على الدوام يرفض وصفه بـ"كاتب السلطة" أو "رجل الحكومة في النقابة"، ويشدد على أن "مَن يخوض الانتخابات الصحفية هو مرشح عن الصحفيين". في حملته الانتخابية عام 2007 قال "ليس عندي ما يجعلني في هذا السن (70 عامًا) أصمُـت أو أخاف أو أنافق"، بل إنه أيضًا كانت له انتقادات وجهها للنظام، وقال إنه يجب أن يعلم أنه "المستفيد الأول من حرية الصحافة"، واستنكر حبس الصحفيين في قضايا النشر.
ولكن في الوقت نفسه أكد مكرم أنه "لا يوجد ما يمنع أن يكون النقيب ذو توجه سياسي، معارض أو مقرب من الحكومة ودوائر صنع القرار". لكن في النهاية كان قول الكاتب أن "الانتماء الوحيد للصحفي هو المهنة فقط دون انتماءات سياسية أو حزبية". حينها، كان لأحمد مواقف دللّ من خلالها على أنه رجل الجماعة الصحفية وليس النظام، كما بدا في إعلانه رفض قانون تداول المعلومات الذي كانت تُعده الحكومة في ذلك الوقت، حدّ أنه وصفه بـ"الفاسد".
ترك مكرم محمد أحمد برحيله إرثًا صحفيًا يستحق الجدل؛ صحفي يسخّر قلمه للدفاع عن السلطة القائمة في مواجهة معارضيها، ونقيب يواجه هذه السلطة لضمان بعض حقوق زملائه. رئيس لمجلس إعلامي يصدر لوائح العقوبات ويطبقها بقسوة لحماية السلطة من تداول المعلومات عنها، ثم يدعو الصحفيين للتمرد والنشر وحساب المخاطر المترتبة، ولكنه ترك أيضًا تأثيرًا لا يمكن تجاهله، في دوائر السلطة والصحافة على حد سواء.