سمعتهم يتهامسون عن آخر ضحايا العائلة: إنها عمتي الأصغر سنًا التي اكتشفت إصابتها بسرطان الثدي في الأربعينات من عمرها. لا أتذكر عمري وقتها، لكني أتذكر هذا الصيف الذي ذهبوا فيه لزيارتها في المستشفى وتركوني أنا وإخوتي في البيت مع أطفالها. أعتقد ولست متأكدة أنها كانت الواقعة التي أدركت بسببها أني لا يجب أن أعلم شيئًا عن مرضٍ قد يكون هو مصيري.
لم يتحدث أهلي معي عن السرطان الذي يربط العائلة ببعضها، لكننا أصبحنا في سن أكبر نتحدث عن الأمر باعتباره الواقع الذي من البديهي أن نعرفه جميعًا. لا أتذكر متى جاءت هذه القناعة، لكن الحال لم يكن دومًا هكذا.
كنت أظن لفترة طويلة أن عمتي الأصغر هي الوحيدة التي أصيبت بسرطان الثدي لكني قررت خلال كتابتي هذا النص أن أسأل أمي لأول مرة. ترددت بسبب قلقها من هذا الموضوع الذي يمنعها من الكلام بأريحية. لكنها أجابتني أخيرًا وقالت إن لي عمة أخرى أصيبت بسرطان الثدي، وإن الثالثة أصيبت بسرطان الرحم. كانت هذه واحدة من محاولات خافتة للحديث المقتضب عن الموضوع مع أمي. عشت عمري مع افتراضات عن المرض العائلي ولم أجرؤ على التحقق منها قبل هذا اليوم.
فقط نحن نعلم أن بالعائلة سرطان.
مرضت جدتي من أبي بعدما عاشت حياة فقيرة: أصيبت بسرطان المبيضين. حكت أمي لي بشكل عابر في إحدى المرات كيف أن "حماتها" فقدت معظم وزنها في آواخر عمرها وأنهم اكتشفوا أنه بسبب السرطان في وقت متأخر للغاية، عندها قرر الطبيب أن يصف لها مسكنات تعينها على آلام ما قبل الموت المحتّم.
صرت أعرف الآن أيضًا أن 4 من بنات أخيها، أي بنات خال أبي، أصبن بسرطان الثدي. قد يكون السرطان موروثًا من الجدة الأكبر أي جدة أبي، لكني لا أعلم ذلك على وجه اليقين.
في منتصف عشريناتي شجعتني أمي أن أذهب لطبيب في معهد ناصر لأفحص نفسي. كان مهذبًا وطمأنني أني مازلت صغيرة وأنه لا شيء يدعو للقلق. لكني كنت مذعورة لدرجة أنه لم يتمكن من إتمام الفحص لأني كنت أرتجف. قد يكون تصوّر وقتها أني خائفة من الانكشاف عليه كفتاة صغيرة.
الآن أعتقد أني وقتها كنت أخاف من اكتشاف أني مريضة بشرطان الثدي، طبعًا بجانب الخوف من اللمس والحديث مع طبيب أو طبيبة نساء كفتاة غير متزوجة. كنت أخاف من الأحكام ومن الكلام عن علاقتي بجسدي. مازلت أشعر برهبة في التعامل مع أي طبيب أو طبيبة نساء في مصر، رهبة مرتبطة بكوني الآن إمرأة ثلاثينية غير متزوجة لا أخضع تمامًا لتقاليد المجتمع والمسار المرسوم للمرأة التي تتزوج وتنجب وبالتالي يكون مُرحبًا بها داخل "المنظومة".
لي تجارب أخرى تعرضت من خلالها لعنف نفسي من مقدمي "الخدمة الطبية للنساء" رجالًا وسيدات. أصبحت أتجنبهم رغم حاجتي للمتابعة الدورية. نعم أعرف أن هذه مساحة تحمل تناقضات مردّها عنف المجتمع الذي يجعل قلقي من الذهاب إلى مقدم خدمة طبية للنساء قلق مركب: جسمي الذي أخافه وليس ملكي لكنه ملك للمجتمع، وحاجتي لتسكين الخوف من السرطان. لا أضطر فقط لمراعاة الجينات في حياتي لكن أيضًا أتحسب علاقتي بمنظومة أعرف أنها ليست آمنة.
ولا تزال رحلة البحث عن "طبيبة آمنة" مستمرة.
شبح المصير
عندما اقترب عيد ميلادي الثلاثين بدأت أدرك أني أفكر في الأمر كثيرًا وأن الخوف يتمكّن مني في أوقاتٍ عديدة، لكني لست متأكدة الآن أن ذلك لم يكن دومًا صحيحًا. كنت أعتقد في بعض سنوات العشرينات أني لا أكترث وأتعامل على أنه ليس هناك ما يُقلق، فأنا أصغر من أن أصاب بسرطان الثدي. لكني أعتقد الآن أني طالما كنت أخاف من لحظة إكتشاف الإصابة، فقط لم أكن مستعدة لمواجهة الأسئلة.
عندما بدأت عقدي الرابع شعرت أني لا أملك رفاهية الاستعداد الطويل، وأنه يجب علي بدء رحلة الكشف والمتابعة. لكنه شعور يحكمه الخوف، ليس فقط رهبة من السرطان، لكن أيضًا من كابوس أن أصبح مريضة سرطان في مصر.
في الأسابيع اللاحقة لعيد ميلادي؛ بدأت ألاحظ أني أفتح موضوع إمكانية إصابتي بالسرطان في محادثات كثيرة أغلبها لا يتحمل هذا الثقل أو لا يتعلق به. لكنها الفكرة التي سيطرت عليّ. أصبحت أشعر أنه يجب أن أجد عملًا يمنحني تأمينًا صحيًا جيدًا وبشكل ملحّ، لأني لا أرغب في اكتشاف مرضي وليس لدي مكان للعلاج، أو أن أجد هذا المكان لكن لا أتمكن من تغطية التكاليف التي تقدر بمئات الآلاف.
أنا لا أنتمي لأية نقابة مهنيّة على عكس عمتي التي أصيبت بسرطان الرحم وتحملت نقابتها تكاليف علاجها، وكذلك عماتي اللاتي أصبن بسرطان الثدي وقت عملهن كموظفات في الحكومة التي تحمّل تأمينها الصحي تكاليف العلاج، رغم ضعف إمكانات الخدمة التأمينية الحكومية. أما أنا، فلا أملك عضوية في نقابة أو تأمين صحي حكومي ضعيف كي ينفق على علاجي. وبسبب انهيار منظومة الدعم الاجتماعي وتدهور الخدمات الصحية العامة؛ أصبحت النقابات والجمعيات الأهلية رفاهية للأعضاء. هذه رفاهية لا أملكها. قد يكون هناك طرق ما لأمثالي مثل مبادرات المستشفيات التي تتيح العلاج بالمجان أو بأسعار مقبولة، لكني لم أتحقق. فقط أفكر في الموضوع بضغط الخوف، ولا آخذ خطوات لأعرف إمكانية ذلك من عدمه.
هل تلاحظين أيتها القارئة كيف تحولت الحكاية إلى كيفية التعامل والتأقلم عندما أكتشف إصابتي بالسرطان مستقبلًا؟
رغم أن الأمر ليس حتميًا، لكن القلق والخوف هو الحاكم. أتساءل الآن إن كانت رهبتي سببها تلك الحالة التي كبرت عليها وكان يمكن تجنبها إذا تحدث أهلي معي وشرحوا لي ماذا يحدث في العائلة؟ وما تعنيه هذه الإصابات المتوالية؟ وكيف أتعامل مع الأمر بدلًا من بذل هذا المجهود المضني للتعتيم على الحقيقة، وهو الأمر الذي لم ينجح، وفي النهاية عرفت سرّ العائلة. هذا وضع مرعب في كل الأحوال.
بنسبة 70%
يجب أن تكون هناك نقطة بداية ما. بداية للتحقق من الاختيارات المتاحة لي في مصر، اختيارات الكشف الدوري والعلاج إن اكتشفت المرض. فقررت أن أبدأ بالقراءة عن الأمر.
وجدت أن الجين المشترك بين سرطان المبيضين الذي أصاب جدتي وسرطان الثدي الذي أصاب اثنتين من عماتي يدعى BCRA ولكنه ينقسم لنوعين BCRA1 و BCRA2. يمكن أن أورّث أيًا من تلك الجينات عبر أبي، وإن كنت ورثت هذا الجين ستكون فرصة إصابتي بسرطان الثدي حوالي 70%. طبعًا أنا لا أعرف إن كنت ورثت تلك الجينات أم لا.
وجود تلك الجينات يزيد كذلك من فرص الإصابة بسرطان المبيضين أو أنواع أخرى من السرطان. توجد بالفعل تحاليل للكشف عن وجود جينات السرطان في الجسم لكن النتيجة تعالج القلق فقط إن جاءت سلبية، بمعنى أني أفلتّ من وراثة هذا الجين، لكن إن كنت حاملة للجين؛ فسوف أعيش حياتي كلها في ترقب لظهور السرطان في جسدي.
ما آمله الآن هو أن أجد في روتين الفحص الدوري الذي أقوم به؛ قدرًا ما من التحكم يسكّن آلام الخوف الذي تربيت عليه. وقد يكسر البحث والفحص إحساس العجز من مصير أكون فيه مفعولًا به. نعم، لا يمكن الهرب من الجينات أو التحكم بها، لكن قد يكون بمقدوري التحايل على القلق أو علاجه.
لم أكتف بالبحث، لكني قررت أن تكون كتابة هذا النص بداية التحايل على القلق ومواجهته: أرسلته لأمي، فوجدتها تشجعني على نشره وقالت إنها لم تحاول إخفاء المرض عني وإنما أخفت خوفها من المرض نفسه، وكأن تجنب الحديث عنه هو العلاج.
عمومًا فلتكن إذًا هذه رحلة مشتركة نتخطاها بدعم متبادل.