عند الشكوى للطبيب من مرض فإنه يقوم بالتشخيص بناء على خطوات، متعارف عليها، تتمثل في الكشف اليدوي أو الاختبارات المعملية، وبعدها تأتي مرحلة وصف الدواء للمريض.
لا يضع الطبيب اعتبارًا للاختلافات الجينية بين البشر، والتي قد تؤثر في مدى استجابة الجسد للدواء واختلاف الآثار الجانبية الناتجة عنه، والثابت أن نفس جرعة العلاج تختلف تأثيرها من شخص إلى آخر، بخلاف ظروف وجودة إنتاج الدواء.
كانت الطريقة المتعارف عليها لمعرفة نجاح الدواء من عدمه هي التجربة والخطأ، تغيرت تلك الطريقة مع ظهور علم الصيدلة الجينية الـ Pharmacogenomics (علم دراسة تأثير الجينات في تعامل الجسم مع الدواء) الذي يسعى لفهم تأثير الاختلافات الجينية على الاستجابة للدواء.
من أمثلة ذلك دواء أزاثيوبرين Azathioprine المستخدم في علاج بعض أمراض المناعة الذاتية وحالات نقل الأعضاء، حيث لوحظ أن بعض الأشخاص استجابوا للدواء بعكس آخرين، وبمزيد من البحث عن السبب لوحظ اختفاء الإنزيم المسؤول عن تنشيطه داخل الجسم أو عدم وجوده بالقدر الكافي في جينات بعض الأشخاص.
لماذا يكح المصريون عند تناول دواء الضغط؟
ويمكن ملاحظة ذلك بشكل أوضح من حولنا؛ حيث أن كثير من المصريين مصابون بمرض ارتفاع ضغط الدم، وغالبًا ما تستخدم الأدوية التي تحتوي على مادة تثبط تحويل الأنجيوتنسين الذي يسبب انقباض الأوعية الدموية مسببًا ارتفاع ضغط الدم. وتنتهي أسماء هذه المواد بمقطع prilــ.
عند تناول هذه الأدوية تظهر بعض الأعراض الجانبية مثل الكحة الجافة عند حوالي 25% ممن يتناولون هذا العلاج، والسبب في ذلك وجود اختلافات جينية بين الناس وبعضها أدى لظهور أعراض جانبية عند البعض وعدم ظهورها عند آخرين، بحسب دراسة للجمعية الأمريكية لأطباء الصدر.
دعت تلك المسألة المتكررة للبحث عن حل جديد لتصميم أدوية متوافقة مع الجينات المختلفة للبشر.
من لون العين إلى الأمراض
تعرّف الجينات على أنها المادة الوراثية التي تحمل كافة صفات وعيوب الإنسان مثل لون العين أو ملمس الشعر مثلًا، وتنتقل إلينا من الأبوين وكذلك نورثها لأبنائنا.
ومع ظهور علم الـ Pharmacogenomics أي علم دراسة تأثير الجينات في تعامل الجسم مع الدواء، اتضح أن جيناتنا تحمل بداخلها شفرة تحتوي تكوين ووظائف كل عضو من أعضاء الجسم وكذلك المواد التي ينتجها الجسم، ومنها الإنزيمات التي تلعب دورًا هامًا في امتصاص الأدوية وتحويلها من شكلها الطبيعي إلى صورة أبسط يستطيع الجسم الاستجابة لها ومن ثم إخراجها.
في تلك الحالة فإن عدم تواجد بعض الإنزيمات في جينات بعض الأشخاص ربما يزيد من مدة بقاء الدواء في الجسم، وبالتالي، تزيد استجابة الدواء عند هؤلاء الأشخاص.
نفس الأمر بالنسبة للبروتينات، فكل جين لديه شفرة لإنتاج بروتين له دور في تعامل الجسم مع الدواء، إذ تلعب البروتينات دورًا في امتصاص الدواء ونقله إلى مكان وظيفته في الجسم، أو دورًا في تفكيك الدواء والتخلص منه خارج الجسم. هذا البروتين نفسه هو الهدف الذي يعمل عليه الدواء.
الأدوية الآمنة
كل تلك العوامل يمكن الاستفادة منها والعمل على تطويع معرفة المعلومات الجينية بالكامل لكي يتم إنتاج دواء آمن.
يقول أبو الطب الإغريقي أبُقراط "من المهم معرفة ماهية الشخص المصاب بمرض أكثر من معرفة حقيقة المرض الذي يعاني منه". وهو ماحدث بالفعل في عام 2003 تحديدًا مع مشروع الجينوم البشري، إذ قاد فريق دولي من الباحثين رحلة داخلية لاكتشاف ما بداخل الإنسان ورسم خرائط لجميع الجينات الموجودة في الجنس البشري، وبعدها أصبحت لدينا القدرة، لأول مرة، على قراءة المخطط الوراثي الكامل للإنسان.
دواء مختلف لنفس المرض
يعتبر علم الـ Pharmacogenetics هو حجر الأساس القائم عليه الطب الشخصي (personalized medicine) ويعني تصميم دواء مناسب للشخص، بحيث يؤدي الدواء وظيفته بشكل مثالي مع الحصول على أقل الأعراض الجانبية.
ظهر هذا المصطلح لأول مرة في بعض الأعمال المنشورة في عام 1999، لكن بعض المفاهيم الأساسية لهذا المجال كانت موجودة منذ أوائل ستينيات القرن الماضي.
حرب السرطان الأخيرة
تستخدم فكرة الطب الشخصي، حاليًا، في علاج الأورام حيث تدرس الخريطة الجينية للخلايا الطبيعية لمرضى الأورام وكذلك الخلايا السرطانية، وباستخدام هذه المعلومات يأمل الأطباء في إيجاد استراتيجيات أكثر فاعلية للوقاية والفحص والعلاج من كافة الأورام.
فمثلًا؛ تساعد الاختبارات الجينية للخلايا السرطانية والخلايا الطبيعية الأطباء على تخصيص العلاج بناءً على الاحتياجات الفردية للمريض مع الحصول على فاعلية أكبر، وآثار جانبية أقل مقارنًة مع الخيارات العلاجية الأخرى.
في مرحلة ما قبل الطب الشخصي، كان معظم المصابين بنوع معين من السرطان يتلقون نفس العلاج ومع ذلك كانت تؤدي هذه الأدوية دورها في بعض الحالات بشكل أفضل من الآخرين، دفع ذلك العلماء لدراسة الفروقات الجينية بين الأشخاص وتوصلوا لتفسير سبب اختلاف الاستجابة بين شخص وآخر.
.. والإيدز أيضًا
من الأمثلة على تطبيقات علم الطب الشخصي مادة الـ Abacavir المستخدمة في علاج المرضى المصابين بفيروس نقص المناعة- إيدز، وُجد أن المادة تسبب ردة فعل تحسسية عند بعض المرضى بعد بداية العلاج، وأجريت دراسات سريرية توصلت إلى رابط جيني بين المرضى الذين يعانون من ردة الفعل التحسسية من المادة، وبعدها تم إعطاء دواء الـ Abacavir للمرضى الآخرين بعدما تم إقصاء المرضى الحاملين لهذا الجين فلم تظهر أي ردود فعل تحسسية، وهذه التجربة تشرح أهمية الطب الشخصي.
.. وكذلك الاكتئاب
مؤخرًا، تم الوصول إلى الاكتشاف أن بعض الجينات التي يحتمل أن تؤثر على استجابة بعض أدوية الاكتئاب وترتبط هذه الجينات بوظائف الجسم في هضم الدواء وتحويله للشكل الذي يعمل به وكذلك استجابة الجسم للدواء.
الخطوة التالية في ذلك كانت ترجمة هذه الملاحظات للوصول إلى نتيجة مفادها أن إنتاج علاج مضاد للاكتئاب يختلف من مريض إلى آخر بحسب خريطته الجينية؛ سيخفض ميزانية العلاج بمقدار 1036 دولار، وذلك بحسب دراسة أجراها باحثون في جامعة يوتا الأمريكية عام 2015.
التنبؤ بالأمراض وليس علاجها فقط
يمكن الاعتماد على علم الطب الشخصي في التنبؤ باحتمالية الإصابة بمرض معين، قبل ظهور أي أعراض سريرية على المريض، وذلك عن طريق البحث عن دلالات على المرض في الجينات مثل نقص بروتين أو غياب جين معين، ما يسمح باتخاذ الإجراءات الوقائية تجاهه أو العلاج المبكر.
بنفس المبدأ يمكن القيام بالتشخيص بناءً على الخصائص الوراثية لكل مريض بدلًا من المعلومات التي يتم جمعها من مجموعة سكانية لديها اختلافات جينية.
على الناحية الاقتصادية، يشهد الطب الشخصي نموًا سريعًا، إذ كشف تقرير لمجموعة آلايد ماركت ريسيرش صدر عام 2017، إلى أن حجم سوق الطب الشخصي بلغ 3.5 تريليون دولار في عام 2016، مع توقعات بأن يصل إلى 7.7 تريليون دولار بحلول عام 2023 بمعدل زيادة سنوي مركّب نسبته 11.9% في الفترة من 2017-2023.
هذه القيمة السوقية العالية ما هي إلا شهادة على التقدم السريع لهذا المجال والذي يأمل في توفير علاج مخصص ليس فقط لعلاج الأمراض ولكن أيضًا لمنعها في المستقبل.