في عام 1896 توفي ألفريد نوبل، مخلفا وصيته بتسخير 94% من ثروته لتمويل جائزة تُمنَح في خمس مجالات، هي الفيزياء والكيمياء والطب والأدب والسلام، عاكسة شغفه وتأملاته وهواجسه.
احتاج العالم لخمس سنوات حتى يرضخ لإرادة نوبل، خلال هذه السنوات الخمس، بذل اثنان من تابعي نوبل المخلصين كل جهد من أجل إنفاذ رغباته هما راجنر سوهلمان وليلجيست؛ وبدأ تسليم الجوائز في عام 1901، ومنذ ذلك الحين لم يتوقف الجدل سواء عن الجائزة أو عن صاحبها.
لكن جدل هذا العام فاق ما سبقه منذ بدأ تقليد الجائزة قبل أكثر من 115 عامًا، وتخطَّى المعتاد من انتقاد الجوائز والتشكيك في جدارة الحائزين عليها؛ لتدور شبهات حول نزاهة الجوائز نفسها. واللافت أن الجدل المتصل بالنساء لم يمنع من سيطرتهن على جوائز نوبل هذا العام.
نوبل في الأدب وMeToo
جدل هذا العام بدأت شرارته بعيدة عن الأكاديمية العريقة، لكن النيران اشتعلت سريعا وامتد لهبها إلى الأكاديمية لتحرق أصابع أعضائها، وكادت تودي بتاريخ طويل من مجد وفخار، وسلطة منبعها التقدير للأكاديمية وأعضائها الذين يتم انتقاؤهم بعناية.
بدأ كل شيء مع بروز حركة me too (أنا أيضا)، التي أحياها هاشتاج انتشر بالاسم نفسه على مواقع التواصل الاجتماعي، كاشفًا عن الدنس المتواري تحت الثوب الحريري الجميل، انفجر صمت نساء ورجال العالم ممن تعرضوا للانتهاك الجنسي في لحظة، فترددت أصداء الانفجارات في كل مكان.
بدأت الصرخة من نساء تعرضن للتحرش من قبل المنتج الأمريكي هارفي وينشتين، ليطلقن الهاشتاج الذي أصبح ملاذًا لمن تعرضن للاستغلال من رجال كفلت لهم مواقعهم ونفوذهم حماية من الملاحقة، وظنوا أنهم ملكوا القدرة على المنح والمنع، مقابل الخضوع والصمت على الانتهاك.
الانفجار اجتاح هوليود كلها. لكن انتشار الهاشتاج شجع النساء على المزيد من الكشف، وسرعان ما خرج نطاق البوح عن حدود هوليوود وعالم الفن وصناعة الإعلام ليطول السياسة، قبل أن تمسك النيران بثوب الأكاديمية الملكية السويدية في ستوكهولم المانحة لجوائز نوبل.
اتهمت 18 سيدة المصور الفرنسي جون كلود أرنو بالتحرش بهن جنسيًا في أروقة الأكاديمية الملكية، وأرنو هو زوج الشاعرة كاترينا فروستينسون، العضوة باللجنة المانحة لجائزة نوبل في الأدب. استغل أرنو نفوذه الذي حازه من زوجته عضوة الأكاديمية. وبلغ به الإحساس بالاطمئنان والنجاة من الملاحقة، أن تحرش بالأميرة فكتوريا ابنة ملك السويد، إذ تعرض لها خلال حفل الأكاديمية لاختيار الفائز بجائزة نوبل.
أنكر أرنو كل تلك الاتهامات، لكن الفضيحة حاصرته، ورافقتها ضغوط على زوجته لإعلان استقالتها. رضخت فروستينسون للضغوط وأعلنت استقالتها، وكذلك فعلت رئيسة الأكاديمية بروفيسور سارا دانيوس وأربعة آخرين بعد مناقشات حامية واتهامات أدت إلى خلخلة بناء الأكاديمية.
فجرت فضيحة التحرش اتهامات بتضارب المصالح وتسريب النتائج، ما كاد يطيح بكل سمعة طيبة ومجد شيدته الجائزة على مدى أعوام طويلة، تعدت قرنا من الزمن.
ترك ذلك الوضع الأكاديمية أمام سابقة مزلزلة، ليس الوضع مترديا على المستوى المعنوي فقط، بل هناك أزمة قانونية فادحة كذلك، فالأعضاء بحسب قوانين الأكاديمية لا تجوز لهم الاستقالة لأن عضويتهم مدى الحياة، قد يعتزلون المناقشات لكن لا تحق لهم الاستقالة.
ذلك كله حدا بالأكاديمية للامتناع عن تتويج أحد بجائزة نوبل في الأدب لهذا العام، على أن تعين فائزين اثنين في عام 2019، أحدهما عن نفس العام 2019، والآخر عن 2018 الذي لم تمنح فيه الجائزة، حسبما تنص قواعد الجائزة.
وتنعقد الآمال على أن تتعافى الأكاديمية مما حاق بها بحلول ذلك الوقت. كذلك أعلن العاهل السويدي الملك كارل السادس عشر أنه سيغير من قوانين الأكاديمية، بحيث تسمح للأعضاء الانسحاب من عضويتها متى شاءوا.
امرأة تفوز بجائزة السلام
ربما ألقت حوادث التحرش تلك بظلالها على معظم فروع الجائزة الأخرى، حتى أن جائزة السلام قد تم تخصيصها هذا العام للتنويه عن العنف ضد المرأة ومحاربته فقد ذهبت الجائزة إلى الكونغولي دينيس موكويجي وهو متخصص في أمراض النساء، كرس حياته لعلاج النساء اللائي يتعرضن للعنف الجنسي، أغلب تلك النسوة وقعن ضحايا لاغتصاب العصابات المسلحة في مناطق حروب وتوترات.
حصل موكويجي على نصف الجائزة بينما حصلت العراقية نادية مراد على النصف الآخر . ونادية هي فتاة أيزيدية تعرضت للأسر والاعتداء والاستغلال الجنسي على يد تنظيم داعش، مع آلاف الفتيات الأخريات في مدينة الموصل عام 2014، وعندما استطاعت الفرار توجهت إلى وسائل الإعلام لتكشف عن معاناتها ومعاناة آلاف النسوة اللائي يتم استغلالهن جنسيا والاعتداء عليهن في مناطق التوترات.
مؤخرا لم تعد جائزة السلام تمنح فقط لمنجزات معينة في مجالات السلام أو نزع السلاح أو الإخاء بين الدول أو حقوق الإنسان، لكنها قد تمنح كذلك كحافز لقضية معينة، ويبدو أن هذا هو الحال مع جائزة هذا العام التي تحاول أن تنبه الإنسانية إلى واجباتها تجاه حماية المرأة والدفاع عنها خاصة في مناطق التوترات.
الكيمياء الخامسة
شهدت جائزة الكيمياء هذا العام حصول فرانسيس أرنولد على الجائزة، كخامس امرأة تحوز جائزة الكيمياء.
بدأت أبحاث أرنولد في التسعينيات وقد حققت نتائج باهرة منذ ذلك الحين، صحيح أنها على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود حسَّنت من تقنياتها؛ إلا أننا عندما نستعرض عملها الأصلي والباهر سنتساءل كثيرا كيف لم تنتبه لها الجائزة طوال السنوات السابقة، ولم تتذكرها إلا في العام الذي تم فيه تفعيل هاشتاج me too؟
هل يمكن تسخير أبسط قواعد الطبيعة وقوانينها في القيام بمعجزات؟ يبدو أن الحياة في حد ذاتها بتنوعاتها الكثيرة هي معجزة كبرى. روح هذا الإعجاز توصل إليه دارون ووالاس في القرن التاسع عشر عندما اكتشفا آلية عمل الانتخاب الطبيعي والتطور، ذلك الاكتشاف الذي زاد من وضوحه ومصداقيته تطور علوم الوراثة والاحصاء.
إن الكائنات الحية في تفاعل دائم مع بيئاتها كما ان هذه البيئات كذلك في حالة من التغير الدائم. تعاني الكائنات الحية من الحين للآخر من طفرات، هذه الطفرات قد تكون ضارة وتودي بحياة الكائن الحي، لكنها في حالات أخرى تجعل منه أكثر تكيفا مع بيئته، ساعتها يمتلك ذلك "المتطفر" Mutant ميزة ينقلها لذريته، وهكذا تتفوق هذه الذرية ويتم انتخابها للبقاء. ومع تكرار هذه العملية على مدار مليارات السنين شهدت الأرض كل هذا التنوع في مخلوقاتها.
قامت أرنولد بتسخير قوانين التطور في أنابيب الاختبار لتقوم بتوجيهه فيما يعرف بالتطور الموجَّه، استطاعت من خلال ذلك تخليق إنزيمات أكثر فعالية وكفاءة يمكن استخدامها لتصنيع المستحضرات الطبية وكذلك في تصنيع الوقود الحيوي.
تقاسم جورج سميث وجريجوري وينتر مع أرنولد جائزة الكيمياء حيث استطاع الأول التوصل إلى تقنية تعرف بعرض الفاج phage display وهي التقنية التي استطاع بها استخدام البكتريوفاج (فيروس يصيب البكتيريا) في تطوير بروتينات معينة. استخدم وينتر فيما بعد هذه التقنية لإنتاج وتطوير أجسام مضادة فعالة تستخدم في علاج الأمراض المناعية، وهناك اعتقاد كذلك في إمكانية استخدامها كعلاج للسرطان.
الفيزياء للنساء للمرة الثالثة
شهدت الجائزة هذا العام حصول دونا ستريكلاند عليها لتكون ثالث امرأة تحظى بها على مدار تاريخ الجائزة وهو ما دفع البعض للسخرية أن الجائزة تذهب لامرأة كل خمسين عامًا تقريبًا.
لكن الجائزة ذهبت كذلك إلى آرثر أشكين، ليكون أكبر من يحصل على كل جوائز نوبل عمرا، فقد حصل عليها في عمر يناهز 96 عامًا.
حصل أشكين على نصف قيمة الجائزة بينما تقاسم النصف الآخر كل من جيرارد مورو ودونا ستريكلاند.
إن ما قام به آرثر أشكين أقرب لمشاهد أفلام الخيال العلمي، لقد شاهدنا جميعا شعاع الضوء الذي يخرج من الأطباق الطائرة ليحيط بجسم ما ثم يسحبه إليه. إن ما قام به أشكين قريب الشبه من ذلك حيث ابتكر ما عرف بالملقاط الضوئي.
استغل أشكين ظاهرة تعرف باسم الضغط الإشعاعي، حيث أن أقوى منطقة في شعاع الليزر هي منتصفه وهو بذلك يعمل على دفع الجسيمات إلى هذا المنتصف وتثبيتها هناك. لقد استخدم أشكين هذه الظاهرة في تثبيت جسيمات صغيرة وخلايا حية وبكتيريا، مستخدما شعاعا من الليزر وبدون أن يسبب أي ضرر لها، استطاع أشكين بذلك أن يسهل دراسة أي من هذه الجسيمات أو الخلايا.
أما جيرارد مورو ودونا ستريكلاند فقد تمكنا معًا من إنتاج أقوى دفقات الليزر وأقصرها زمنا، بدون أن يدمر ذلك الإشعاع الناتج الجهاز الذي يصدره ويقويه. لقد استغلا ظاهرة تداخل الضوء (تداخل موجات الضوء الذي يتولد عنه شعاع الليزر)، لإنتاج هذه الدفقات التي تستخدم الآن بشكل موسع في جراحات العيون، ولا تزال مجالات استخدامها تتسع يوما بعد الآخر.
الطب بلا نساء
ربما كانت نوبل في الطب هذا العام هي الجائزة الوحيدة في مجالات العلوم التي لم تضم بين فائزيها امرأة، وإن كانت جائزة الطب على مر السنوات السابقة كانت أكثر الجوائز في مجالات العلوم تمثيلا للمرأة كباحثة. فقد آلت الجائزة 12 مرة إلى سيدات، وإن لم يزل هذا رقما هزيلا، وهو ما يطرح الكثير من التساؤلات عن تجاهل دور المرأة كباحثة علمية.
ذهبت جائزة نوبل في الطب إلى بحث يمثِّل فتحًا في علاج السرطان، أحد أكثر الأمراض فتكا بالبشر، ورغم تطوير الكثير من وسائل العلاج المختلفة كالجراحات والعلاج الكيماوي والإشعاعي؛ إلا أنه ما يزال قاتلا بارد القلب لا يرتدع.
الخلية السرطانية هي خلية تنتمي للجسد وليست غريبة عنه، لكنها أصيبت بالجنون فاندفعت في انقسام لا يتوقف، يؤثر على الأنسجة المحيطة. وقد تنتشر مع تيار الدم إلى أماكن متفرقة في الجسد مستشرية فيه.
في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين رأى البعض أن قتل تلك الخلايا السرطانية قد يكون ممكنا لو تم تحفيز الجهاز المناعي لينشط ضدها؛ وهو ما اعتُقِد وقتها في كونه ممكنا عن طريق إصابة الجسم بعدوى بكتيرية تدفع جهاز المناعة للنشاط لحماية الجسم مهاجمًا الخلايا السرطانية. هناك بعض الأوراق البحثية التي أشارت إلى بعض النجاحات التي تحققت عبر انتهاج هذا السبيل، لكنها لم تكن أبدا مُرضية تماما.
ربما كانت هذه هي ذات الفكرة التي انطلق منها جيمس أليسون الحائز على نوبل في الطب هذا العام، لقد بدأ من عند خلايا المناعة.
من المعروف أن هناك بروتينات معينة تنشط الخلايا المناعية عند التعرض لها؛ لكن أليسون توصل إلى بروتين آخر يكبح عمل خلايا المناعة. توصل أليسون إلى أن تثبيط عمل هذا البروتين، يوقف قدرته على تثبيط جهاز المناعة، وهو ما فتح مجالا جديدا لعلاج السرطان على نحو مختلف.
وتقاسم الباحث تاسوكو هونجو الجائزة مع أليسون. توصل هونجو بشكل مواز إلى بروتين آخر يعمل كذلك ككابح للخلايا المناعية، ووجد أن تثبيطه يحفز تلك الخلايا لتنشط.
هكذا كانت جوائز العلوم هذا العام تحاول أن تصالح المرأة، لكنها ما تزال تحمل ذات بواعث الجدل ذاتها حول تأخرها كثيرا في تكريم منجزات هامة، كما حدث مع الفائزة بجائزة نوبل في الفيزياء. لكن إحقاقا للحق فالمنجزات البشرية كثيرة جدا ومتنوعة كثيرا ومن المستحيل تكريمها جميعا.