هذه ترجمة لمقال"درية شفيق التي قادت حركة تحرير النساء في مصر"، لديفيد كيركباتريك، عن نيويورك تايمز.
يأتي المقال ضمن سلسلة "الذين غفلنا عنهم". وهي عن الشخصيات التاريخية البارزة التي لم تكتب الجريدة نعيًا لها، لأن تركيزها في الماضي كان منصبًّا على الرجل الأبيض، بحسب تعبير محرري نيويورك تايمز.
عندما بلغت درية شفيق عمر الثانية والثلاثين، كانت قد حصلت على الدكتوراه في الفلسفة من جامعة السوربون، وشاركت في مسابقة ملكة جمال مصر، ونشرت مقالات وقصائد بالعربية والفرنسية، وأسست منظمة نسائية مصرية، وتولت تحرير مجلتين نسائيتين.
ولكن ما كان له التأثير الأكبر على التاريخ المصري هو ما فعلته في 19 فبراير عام 1951.
جمعت حشدًا مكونًا من 1500 امرأة في إحدى قاعات المحاضرات بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وزعمت أنها تُجري "اجتماعًا نسائيًا"، ولكنها كانت مجرد حيلة لتضليل الشرطة، كان لدرية شفيق خطة أخرى.
أعلنت قائلة "إن لقاءنا اليوم ليس اجتماعًا، بل برلمان، برلمان حقيقي، برلمان يخص النساء".
بعد عدة لحظات، قادت جيش النساء واقتحمت البوابات الرخامية ودخلت البرلمان المصري الذي يسيطر عليه الذكور "برلمان نصف المجتمع الآخر"، كما أطلقت عليه ساعتها.
قالت شفيق لرئيس البرلمان الذي حاول إيقافها دون أن ينجح "قوة الحق هي التي أدخلتنا هنا".
أغلقت المتظاهرات المجلس التشريعي لأكثر من أربع ساعات، حتى تعهد لها رئيس مجلس الشيوخ بدراسة مطالبها الرئيسية: وهي حق النساء في التصويت والترشح. (لم يناقش المطالب الأخرى، المتعلقة بالمساواة في الأجر وإصلاح قوانين الزواج والطلاق).
بسبب المظاهرة حظت شفيق بمكانة بين النساء المؤثرات في تاريخ العالم العربي، إلا أن الكثيرين في مصر اليوم لم يسمعوا باسمها.
بعد ست سنوات، وفي عام 1957، نددت بـ "ديكتاتورية" جمال عبد الناصر، الذي قرر بعدها تحديد إقامتها بمنزلها، وأغلق مجلتها وحلَّ حركتها، ومحى أي ذكر لها من كتب التاريخ والصحف.
بعد إقصائها عن المسرح العام، توفيت درية شفيق في ظروف غامضة في 20 سبتمبر عام 1975، ألقت بنفسها من شرفة الطابق السادس. مَن حَفَظ ذكراها في الأساس هن عدة نسويات مصريات سعين لإعادة بناء الحركة النسوية المستقلة، وتباين حظهن من النجاح.
ولدت شفيق في 14 ديسمبر عام 1908. كان أبوها، أحمد شفيق، موظفًا حكوميًا، وأجبرته وظيفته على التنقل بين مدن الدلتا: طنطا، المنصورة، الإسكندرية، بينما كانت أمها، رتيبة ناصف، ربة منزل.
بعد التخرج من المدرسة الابتدائية التي كانت تديرها الإرساليات في الإسكندرية، اكتشفت شفيق أن استكمال التعليم مقتصر على الأولاد. قررت أت تدرس وحدها وأنهت امتحانات المنهج الفرنسي في وقت يسبق المواعيد المقررة. أُجبِر المعلمون الذين وقفوا في طريقها من قبل أن يعترفوا أنها ضمن مَن حصلوا على أعلى الدرجات في مصر.
من منطلق جسارتها في استكمال تعليمها، سعت لتلقي المساعدة من هدى شعراوي، الأرستقراطية التي نظَّمت نساء النخبة وأنشأت الاتحاد النسائي المصري، الذي طالب بالحصول على الحريات الاجتماعية للنساء، وناصر الاستقلال عن الاحتلال البريطاني. على خلاف شفيق، لم تطالب شعراوي بالحقوق السياسية للمرأة، ومع ذلك تظل من الشخصيات المحتفى بها في مصر باعتبارها بطلة قومية.
في ذلك الوقت، استعانت شعراوي بعلاقاتها الاجتماعية لتحصل درية شفيق على منحة حكومية لدراسة الفلسفة بجامعة السوربون بباريس.
حين عادت إلى الإسكندرية في صيف عام 1935، عرفت درية شفيق أن هناك مسابقة ستجري لتحديد ملكة جمال مصر. يبجل شيوخ الإسلام فضيلة الحياء، التي تشمل تغطية كاملة لجسد المرأة وشعرها، ولم يكن يشارك في هذا النوع من المسابقات سوى النساء الأوروبيات أو المسيحيات المصريات، ولا تشارك المسلمات كدرية شفيق. ولكن شفيق اعتبرتها فرصة مناسبة.
"في باريس أثبتُّ نفسي في المجال الفكري، والآن أردت إثبات نفسي في المجال النسائي"، هكذا قالت وفقًا لكتاب "درية شفيق: نسوية مصرية: امرأة مختلفة" (1996) والذي كتبته سينثيا نلسون، كاتبة سيرة شفيق باللغة الإنجليزية.
تتحدث شفيق عن جمالها قائلة "كأن الطبيعة التي لم تجعلني من الطبقة العليا وجردتني من الوضع الاجتماعي والثراء، عوضتني بتلك الميزة العظيمة، وكأنها تمارس عدالتها الأصيلة".
شاركت في المسابقة دون أن تخبر أهلها، وحصلت على المركز الثاني. ولكن الصحافة المصرية حولت الأمر إلى فضيحة، تتذكر قائلة "كنت الفتاة المسلمة التي مارست فعلًا يخالف الإسلام".
بينما كانت تدرس في باريس، قابلت نور الدين رجائي وتزوجته، كان رجائي يدرس للحصول على الدكتوراه في القانون التجاري. أنجبا طفلتين، عزيزة وجيهان. حصلت درية على الدكتوراه عام 1940، ولكن الجامعة المصرية الوطنية رفضت أن تُعَيِّنها في هيئة التدريس، ومن الواضح أن منطلق هذا الرفض هو أن جمالها وممارساتها المتحررة يمكن بشكل ما أن يدمرا سمعة الجامعة الأكاديمية. ثم أقصتها راعيتها السابقة، هدى شعراوي، وأخرجتها من الاتحاد النسائي النخبوي بسبب خلفيتها التي تعود إلى الطبقة المتوسطة.
ولكن شفيق اتجهت لإنشاء حركتها، اتحاد بنات النيل، المخصص لتعليم النساء العاملات من كل الطبقات وتنظيمهن.
نظم اتحاد "بنات النيل" فصول محو أمية، ومكتبًا للتوظيف، وبرامج مساعدة تشاركية، وكافيتريا مخفضة وفاعليات ثقافية اشتملت على عروض مسرحية للنساء. ولكن الأهم من كل ذلك طالب بالحقوق السياسية للنساء.
كتبت بعد ذلك "لن يهب أحد الحرية للمرأة سوى المرأة نفسها.. قررت أن أحارب حتى آخر قطرة من دمي لأحطم الأغلال التي تقيد النساء في بلدي".
عندما كان المصريون يسعون للحصول على الاستقلال من بريطانيا، أنشأت شفيق وحدة شبه عسكرية ذات زي موحد بداخل اتحاد بنات النيل. في يناير عام 1952، قادت فرقة من أعضائها لحصار فرع بنك باركليز وإغلاقه، باعتباره رمزًا للحكم الاستعماري البريطاني. (عندما بدأ الجمع بالخارج في الشغب أبعدتها قوات الأمن وفرقت الحشد).
كانت تعتقد أنه بالإطاحة بالملكية المدعومة من البريطانيين عام 1952، سوف ترى مصر "بداية النهضة النسائية"، ولكن شيئًا لم يتغير، ظل غير مسموح للنساء بالتصويت أو المشاركة في الجمعية الدستورية.
في عام 1954، جربت شفيق تكتيكًا جديدًا؛ تعهدت بالدخول في إضراب عن الطعام "حتى ألفظ أنفاسي الأخيرة"، وانضمت إليها عدة نساء أخريات، ووصلت أنباء الإضراب إلى مانشيتات الصحف العالمية.
"نحن نؤمن أن النساء اللواتي يشكلن أكثر من نصف الأمة المصرية لا ينبغي بأي ثمن أن يحكمهن دستور لم يشاركن في صياغته"، كتبت ذلك في رسائل للسلطة الجديدة، وفقًا لتقرير بنيويورك تايمز.
بعد مرور عشرة أيام من الإضراب على الطعام، وحين كان يجري تمريضها بسبب تدهور صحتها، بدا أنها حققت النجاح؛ وعدها الرئيس المؤقت بأن النساء سيحصلن على "حقوقهن السياسية كاملة".
ولكن بدا أن لا أحد سيحصل على تلك الحقوق. عزز عبد الناصر من سلطته وصار الرجل القوي الجديد في مصر، ولم يتح للرجال ولا النساء ممارسة حق الانتخاب بجدية.
في عام 1957 حاولت دخول إضراب آخر عن الطعام، وهذه المرة لستة أيام. هاجمتها الصحف الناصرية واعتبرتها خائنة، وانقلبت عليها حليفاتها من النساء، وطُردت من اتحادها "بنات النيل". وبعدما لم يعد هناك أحد بجانبها، أجبرت على قضاء الـ 18 عامًا المتبقية من عمرها في عزلة تامة.
بعد مرور عِقد، سَجَن ناصر زوج درية شفيق لعدة أشهر، بسبب تهمة تخريب غير مرتبطة بها، ووُضع على القائمة السوداء في مصر، وأُجبر على السفر خارجًا لاستكمال عمله. الانفصال ثم طلاقهما النهائي عام 1967؛ زاد من عزلتها.
انتحرت درية شفيق عام 1975، وبعدها كتبت النسوية المصرية فاطمة عبد الخالق بجريدة الأهرام الحكومية "في تلك الأيام كانت درية شفيق الرجل الوحيد في مصر". كان جمال عبد الناصر قد توفى عام 1970، ولم يعد هناك خطر من قول هذا.
تضيف فاطمة عبد الخالق "ظهرت درية شفيق عام 1957 لتقول لنا أننا نسير في طريق الدكتاتورية، ولكن ألسنتنا كانت ملجومة".