حاول زكي منذ شهرين الحصول على قرار من حي منشية ناصر بإعفائه من إيجار تراكم عليه للشقة التي أعطتها له الحكومة في حي الأسمرات. قدّم الرجل الذي تجاوز الخمسين عامًا شهادة تثبت إصابته بشلل الأطفال، وإعالته لزوجة وثلاثة أطفال أكبرهم في الصف السادس الإبتدائي، ولا يتعدى دخله 450 جنيهًا مصريًا يتقاضاهم كمعاش من وزارة التضامن الاجتماعي.
منذ يومين تلقى زكي ردًا على طلبه من الحي، خطاب ينذره بالطرد من شقّته لتراكم إيجار 24 شهرًا عليه دون دفع، بحسب الخطاب فهو مطالب بسداد 7200 جنيهًا مصريًا، مقابل تخلفة عن دفع الإيجار لعامين "قالولي بعد ما جيت إني لازم أدفع 300 جنيه لمدة أربعين سنة عشان تكون الشقّة ملكي".
يقول زكي في حديثه الهاتفي مع المنصّة إنه لن يترك شقّته التي أعطتها له الحكومة مهما حدث، "أنا كنت ساكن في بيت ملك وهما اللي جابوني هنا، وأغلب السكّان هنا غير قادرين على دفع الإيجار المطلوب"، لم يختلف حال زكي عن حال نحو 500 أسرة مهددة بالطرد.
بالأمس، استلمنا رسالة بالصور عبر تطبيق واتس-آب لسكان حي الأسمرات، الذي افتتحه الرئيس عبد الفتاح السيسي في 2015، متبوعة برسالة نصية تقول "قوّات من الجيش والشرطة تطرد بعض سكّان الأسمرات غير القادرين على دفع الإيجار".
طلبنا من المرسل الحديث إلى أحد المتضررين، ليرد برسالة بها ثلاثة أرقام، أحدها كان لرجل استبق اسمه بـ"الحاج"، واسمه "عبدالحميد زكي".
بالأمس أيضًا نشرت الصحف المصرية تصريح رئيس مجلس النوّاب، علي عبدالعال بأن سكّان الأسمرات يرفضون دفع الإيجار بسبب تحريض النائبة منى جاب الله لهم على عدم الدّفع، وهو ما نفته الأخيرة قائلة إنها تدخّلت بعد تظاهرات للأهالي غير القادرين، وقدّمت طلبًا لعبد العال في صيغة بيان عاجل للحكومة يطالب بتخفيض القيم الإيجارية للمواطنين، وتحرير عقود لهم.
في 2011، أطلقت منظمّة العفو الدولية دراسة "نحن لسنا مهملات" عن عمليات الإخلاء القسري، بحسب وصف التقرير، الممارسة تحت حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بحق سكّان المناطق العشوائية، وكان حي منشية ناصر هو النموذج الأوضح في الدراسة.
تقول الدراسة إن "فشل سياسات الحكومات المصرية في التعامل مع سكّان المناطق الخطرة أدى بانتهاء كثير منهم إلى العيش في الشارع بلا بيوت". وقصّة زكي، الآن، تقول إن سياسات الدولة وتوجّهاتها تجاه سكّان المناطق العشوائية لم تتغير على الرغم من اختلاف الدولة والحاكم.
في مقدمة التقرير، ذكرت المنظمة أن الدولة المصرية، ومنذ كارثة الدويقة 2008، تعاملت مع سكّان هذه المنطقة "بازدراء، وعرضتهم لعمليات إخلاء قسري وغير مشروع، فقد كثيرون خلالها مصادر أرزاقهم وممتلكاتهم حيث كانت المنطقة إحدى تجمعات الصناعات الصغير المتخصصة في صناعة مواد البناء".
عندما عملنا في المنصّة على قصّة "أم حمادة"، واحدة ممّن تبقّوا بعد هدم مساكنهم في منطقة الدويقة دون سكن بديل في منشية ناصر، كانت السيدة تكثر من ذكر حي الأسمرات مؤكدة أن حلمها يتلخص في استلام شقّة فيها نجاة لها من الشارع الذي سكنته لما يقارب العامين. خلال معايشتنا لتفاصيل يومها في خيمة تسكن بها في الشارع، كانت تحكي عن جيرانها الساكنين حي الأسمرات ونالهم حظ الحصول على شقّة هناك. بالأمس، يصلنا نبأ بتهديد عدد من الأسر الساكنة في الحي بالطرد، أغلبهم، إذا طردوا بالفعل، لن يملكون إلا نفس الاختيار الذي لا تملك أم حمادة سواه؛ البقاء في الشارع.
اقرأ أيضًا: "الأصليين".. أو كيف هدمت الدولة عشوائيات الدويقة ثم أعادت إنتاجها؟
من هم السكان الأصليين؟
انتقل زكي صبيًا يبلغ من العمر 11 سنة إلى القاهرة. أتى من الصّعيد إلى حي الموسكي ليعمل بالتجارة "ماكانش ينفع أزرع الأرض وأنا عندي شلل في رجلي، فسافرت على القاهرة أجرّب حظّي بيّاع باليومية". كان الصبي واحدًا من آلاف زحفوا من الصعيد إلى مناطق متفرقة في القاهرة كونها مأوىً رخيصًا لهم، "ليسمح جمال عبد الناصر، الرئيس الأسبق، شفاهة، للسكّان بالبناء على أرض الدولة بالمقطّم"، تلك القصة لا يزال سكّان المنطقة يتناقلونها، ومنهم زكي.
اختار زكي أن يستمع لنداء عبد النّاصر "رحتها أيام ماكانت لسّة جبل ومحدش بيسكن فيها، ماكانش فيها صرّيخ ابن يومين"، يضيف "كنّا بنحرس بعض من الديابة".
يسرد تقرير لمبادرة تضامن الهادفة إلى تطوير المنطقة قصص الأهالي عن ظروف العيش في المكان في هذا الوقت "كان السكان يحصلون على الماء من حنفيات المساجد على طريق مدافن قايتباي القريبة. ثم وفرت لهم الحكومة خلال بضعة أشهر ثلاث حنفيات على الشارع الرئيسي للمنشأة. أما الإضاءة، فكانت في البداية تعتمد على لمبات الجاز".
تحمّل زكي مشقّة العيش في مكان غير مؤمّن في مقابل أن يحقق ما يحلم به، بيت في ما سيسمّى بعد ذلك بحي منشيّة ناصر، وورشة سيعمل فيها إسكافيًا منذ إقامته لبيته والانتهاء منه كاملاً في العام 1986 وحتى العام 1992، حينما تسببت مشاجرة أمام منزله بفقدانه أصابع يده اليسرى وبالتالي عمله، "كان باب البيت الحديد مفتوح والناس بتتخانق، في وسط الخناقة اترزع الباب جامد جه على صوابع إيدي كسّرهم كلهم".
منذ تلك الحادثة، اعتمد زكي وأسرته التي كان تتكون وقتها من زوجة وابنين صغيرين أحدهما رضيع، على معاش يتقاضاه بسبب العجز، اعتقد أن هذا الدخل سيؤمن الأساسيات التي يحتاجونها مع أقل استهلاك ممكن للماء والكهرباء.
فوجئ زكي بقرار هدم لمنزله الذي بناه بنفسه صادر من الحكومة ونقله لشقّة بحي الأسمرات، يقول "خدونا من المنشية للحي بالقوة الجبرية اللي هدّت بيتي قدام عيني"، يقول زكي إن مسؤولي الحي أبلغوهم بإخلائهم إلى حي الأسمرات وأنهم (السكّان) مطالبون بدفع أربعة آلاف جنيهًا مصريًا ليحصلوا على شققهم هناك، الاختيارات أمام زكي لم تكن كثيرة "مكانش بمزاجنا، بعت دولابي وغسّالتي وهدومي عشان أجيب الفلوس اللي توديني الأسمرات، مكانش عندي حل تاني"، حال زكي لم يختلف عن حال بقيّة السكّان الذين تعاونوا، قدر استطاعتهم المادية، لإعانة بعضهم البعض على دفع مقدّم الشقق. كما حكى على الهاتف.
بقيّة القصّة تقول، على لسان صاحبها، أنه وبعد إمضائه وصلاً بالمقدّم الذي دفعه وورقة أخرى "لايعلم ماهيّتها ولم يخبره أحد من موظفي حي منشية ناصر بمحتواها"، فوجئ إنه مطالب بدفع إيجار قدرة 300 جنية مقابل شقته في حي الأسمرات "أجيب منين؟ أنا معاشي 450 جنيه، أدفع إيجاري ولا أجيب أكل وشرب للعيال"، كانت الصعوبات زادت بالفعل بقدوم الصغيرة عائشة أثناء انتقاله إلى الأسمرات.
"أغلبنا مش قادر يدفع الإيجار، فتراكم علينا"، مقابل بقيّة الخدمات من مياه وكهرباء لم يكن زكي قادرًا على توفيره أيضًا "المية ساعات بتجيلنا 100 وساعات 50 وأهو بنحاول نسددها، الكهرباء بالشحن، بس بنخاف نروح نشحن من الحي يطالبونا بالإيجار اللي مش عارفين ندفعه"، يقول الرجل أنه حاول المضي في إجراءات معاش تكافل وكرامة ليجد أنهم سيقرّون له 50 جنيهًا "عشان أروح أقبضه محتاج أدفع مواصلات بـ20 جنيه، هدفع 20 جنيه عشان آخد 50 جنيه؟".
لا بدائل أمام زكي سوى أدوات المقاومة التي نعتاد، نحن الصحفيين، ورودها لنا كأخبار من مظاهرات ولجوء لمنظّمات حقوقية قد تهتم بقضيّتهم فتوفّر لهم التغطية الصحفية الملائمة من خلال تنظيم لمؤتمرات صحفية، أو تجعلهم جزءًا من تقاريرهم البحثيّة وبياناتهم التي طالما صدرت بخصوص مشاكل المنطقة التي تعتبر أكبر تجمّع للسكن غير الرسمي في القاهرة.
سوى هذه الأدوات، يتبقّى لزكي حصيرة وبطانية، هي الأثاث الذي يمتلكه في شقته بالأسمرات، وساحات خالية تحت جبل المقطّم سيأوي لها إذا تم طرده منضمًا لأم حمادة و150 أسرة يسكنون هناك بالفعل. "ماعندناش حاجة غير الشارع".