مسلسل "سابع جار"، عمل يعرض حاليًا، استطاع جذب شرائح مختلفة من المشاهدين. يدور المسلسل حول أختين: دلال عبد العزيز، وشيرين وأبنائهما، يعيشون جميعًا في عمارة سكنية واحدة، وخلف باب كل شقة قصة. المسلسل خلق حالة نوستالجيا للجمهور الأربعيني والخمسيني، الذي تابع مسلسلات "أهلا بالسكان"، و"عائلة شلش"، وغيرها من مسلسلات اتخذت من البناية السكنية وعلاقات الجيران منطلقًا لاستعراض المجتمع وقضاياه.
فوجئت مؤخرًا بموجة هجوم شرس على المسلسل ومخرجاته الثلاث: أيتن أمين، وهبة يسري، ونادين خان. بعض الهجوم جاء هادئًا متعقلًا كإعلان موقف أو رأي. وهو أمر مقبول كحق أصيل في الاختلاف والنقد. وبعضه أخذ الطابع الهيستيري، المعتاد من مجتمعنا في الآونة الأخيرة، وهو ما استوقفني للحظة تأمل واستبطان لعقلنا الجمعي.
المخرجات الثلاث قمن باستدراج الجمهور الوسطي إلى منطقة يتعمد إنكارها والتعامي النفسي عنها، أقصد بالوسطي ذلك المواطن المطنطن بوسطيته واعتداله وقبوله للآخر، وهو في الحقيقة يخفي عقلية لا تختلف عن أي داعشي؛ فهو يؤمن بنفس القناعات الداعشية، ولكنه فقط يتباهى علينا بمعايدته لجاره المسيحي، وأنه يذهب للكافيه. يتمتع هذا الوسطي بأن يعيش جاهلًا، يفضل إنكار المشكلة، جهازه النفسي يجيد التجاهل، وخلق عوالم وهمية تمنحه الأمان وسلامًا نفسيًا يهنأ فيه ولو احترق العالم من حوله وبسببه.
وبذكاء مهني استطاعت المخرجات خلق حالة توحُّد بين هذا الجمهور الوسطي (الكيوت)، وبين شخصيات العمل، جعلوه يرون نفسه في الأختين المحجبتين المترابطتين، في الأم المتفرغة لبيتها، وفي الأم الموظفة التي تترقب الترقية بلهفة، في تجمع العائلة في نزهة جميلة أو حول أكلة شهية، في اللهفة على الابن وهو يجري عمليته الجراحية، أعطوه صورة لعالمه الجميل كما يتمثله في الواقع وكما يتصوره.
الغريب أن غدة الفضيلة لم تتحرك عند هذا الجمهور والابن المراهق يتلاعب بقلب زميلته في الدرس الخصوصي، ولم يثره انغماسه في علاقة غير سوية ولا أخلاقية مع زميلة أخرى. لم يلتفت لنموذج الأب اللاهي عن أسرته في عمليات مشبوهة وعلاقات غير أخلاقية؛ فغدة الفضيلة مختصة عنده بالإناث فقط، أما الرجل فلا شيء يعيبه طبعا. واستمر يتابع المسلسل في سرور.
وبعد استدراج الجمهور الوسطي لهذا التوحد المريح لأعصابه تفاجئه المخرجات بعملية تعرية قاسية للحقيقة، "بناتك يدخن ويحششن ويذهبن إلى شقق شباب"، "بناتي أنا؟"، "نعم بناتك أنت. بنات الأمهات المحجبات الوسطيات."
لطمة مفاجئة بقسوة شديدة لطبقة الوسطيين، تقول بصوت زاعق وواضح: إن كل مظاهر التدين السطحي الذي تحرصون عليه لا تحميكم من الواقع. لطمة لا تهتم بكل الحيل الدفاعية التي يمارسونها ليخفوا عن أنفسهم الحقيقة.
المفارقة أنهم لم يسألوا أنفسهم عن الابن المراهق الذي يخدع فتاة وينحل مع أخرى من أين أتى بالفتيات؟ أمن كوكب آخر مثلا؟ وتسامحوا بغرابة شديدة مع الأب الشاذ المريض بأنانيته وأحلامه غير المشروعة. وتوقفوا بحزم أخلاقي مزعوم مع الابنة ضحية الأب، أمسكت الأيدي الأحجار وأخذت وضع الرجم فورًا.
مخرجات المسلسل استدرجنهم، وفجأة عروهم، ثم وضعنهم أمام المرآة، في استفزاز مقصود أعتقده واعيا.
هناك بعض النقد الموضوعي للعمل حتى ولو مجرد نقد أخلاقي أتقبله، لكن الحالة الهيستيرية التي وصلت لطلب وقف المسلسل ومحاسبة القائمين عليه، وهلاوس المؤامرة الأخلاقية هي مظهر آخر من مظاهر حالة الإنكار وعدم النضج والرومانسية الساذجة لجمهور تم استدراجه بذكاء ليشاهد مالا يرغب في مشاهدته، وليرى ما يرفض أن يعترف بوجوده. كأن الفتيات في الكافيهات قادمات من كوكب آخر يشيشن عندنا، ويصاحبن ذكورنا، ثم يرجعن لكوكبهن، وتظل بناتنا بخير رائعات في لباس الفضيلة والتقوى الذي يتوهمونه.
أزعم أن هذا الجمهور الممثل لعقلنا الجمعي هو نتاج تعليمنا ومناهجنا ومقرراتنا الدراسية، عقليات أحادية تربت على التلقي، تم إعدادها كي تكون قابلة للاستهواء، فاشيته الأخلاقية لا تقبل غير شخصيات مسطحة أحادية تناسب رومانسيتهم، شخصيات لا تعري الواقع، لا تصدم المشاهد بالحقيقة، يريدون أعمالًا تدغدغ تصوراتهم الساذجة عن الفضيلة، تراعي تمثيلياتهم الأخلاقية التي يزعمونها لأنفسهم.
أحيي المخرجات الثلاث، هن يضعن المجتمع أمام مسئوليته الثقافية، نحن في حاجة إلى منظومة أخلاقية جادة تحكمنا وتقنن حيواتنا وعلاقاتنا، حالة تمثيل أننا ملتزمون بأخلاق وهمية استدعيناها من الماضي ونتظاهر بتقديسها في العلن ونخترقها في كل لحظة جعلتنا مشوهين بلا فضيلة حقيقية، نخشى العيب العلني، ونعيش الحرام سرًا. ترهبنا ألسنة الناس ولا تشغلنا تقوى الله، نعرف العيب ولا نعرف الفضيلة.