ورقة صفراء اللون طبعت عليها بالآلة الكاتبة أسماء 61 امرأة و11 رجلاً، وفوقهم كُتب "اعرف عدّوك" كعنوان لقائمة تُحذّر السعوديين ممن سمّاهم مَن كتبها ونشرها "الساقطات الداعيات إلى الرزيلة والفساد في اﻷرض".
في ذلك الوقت الذي يعود إلى ربع قرن مضى، كما أشار معاصرون للحدث حازوا وقتها نسخة من المنشور، لم يفعل 47 من المذكورة أسمائهم في قائمة الوصم سوى تنظيم مسيرة في العاصمة السعودية، الرياض، للمطالبة بالسماح للمرأة بقيادة السيارة، والباقين كانت تهمتهم تقديم الدعم لهم.
ومنذ يوم 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1990، تاريخ تنظيم المسيرة، لاحق الوصم منظميها على مدار 27 عامًا، لكن هذا الوصم لم يمنع سعوديات أخريات من محاولاتهن لقيادة سياراتهن في شوارع المملكة، وإن كانت محاولاتهن تُقابل بإجراءات عقابية.
لكن كل هذا ربما انتهى الآن، بعد أن أصدر الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز أمرًا ملكيًا مساء أمس 26 سبتمبر/ أيلول 2017، سيغير وجه شوارع المملكة، وصارت به قائمة الموصومات في ليلة وضحاها قائمة من البطلات الرائدات، وصارت مظاهرتهن من أجل حقهن في حرية التنقل مثار فخر، بعد أن كانت مصدر عار.
مساء أمس، أمر الملك السعودي بتنظيم لائحة المرور في المملكة، على أن تتضمن استصدار رخص قيادة المركبات للرجال والنساء على حد سواء، وذلك وفقّ "الضوابط الشرعية والنظامية المعتمدة".
ليست لاس فيجاس
الحفاوة والتمجيد في بن عبد العزيز، شكلت معظم ردود الأفعال على مرسومه، سواء من مواطنيه على فيسبوك وتويتر باعتباره "انتصر للمرأة"، أو من وسائل إعلام سعودية.
ولكن هذا المرسوم، الذي قد يُخفف خناق الانتقادات الحقوقية الدولية المستمرة منذ عقود تجاه المملكة، ليس هو التغيير الوحيد اللافت للنظر في المملكة، فالأسبوع نفسه الصادر فيه المرسوم، حمل قبل أيام من صدوره، مشهدًا جديدًا.
"نعم يا قوم إنها الرياض وليست لا س فيجاس.. كل عام وأنتم بخير"، عبارة كتبها مواطن سعودي قبل مرسوم القيادة بيوم واحد، تعليقًا على فيديوهات مُسجّلة للاحتفال بالذكرى السابعة والثمانين لتأسيس المملكة.
في الفيديوهات التي حدد صاحبها مكانه باستخدام خاصية فيسبوك بأنه في الرياض، بدت المدينة وقد تغيّر وجهها عن وقت مظاهرة التسعينات، فاللقطات القصيرة تُظهر سيدات يتمايلن ويهللن على أنغام موسيقي، وذلك في حشد كبير كان الرجال بين حضوره بالطبع.
https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2FSULTAN3SSS%2Fvideos%2F10212341110175154%2F&show_text=0&width=273حفلة تلهو فيها فتيات وشباب ليست بمشهد غريب على أي بلد سوى السعودية التي عُرفت على مدار عقود كمجتمع مُنغلق يحظر الاختلاط بين الجنسين، ويمنح سلطات واسعة لهيئة دينية تحمل اسم "الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر" للتدخل في حياة مواطنيه، قبل أن تقرر العام الماضي وبصورة مفاجأة تجريدها من بعض الصلاحيات. إذن، ما الذي يحدث في المملكة؟
سعودية 2030
في مايو/ أيار 2016، أصدر العاهل السعودي قرارًا بإنشاء الهيئة العامة للترفيه، وبيّن في مرسومه أن مهامها ستشمل "كل ما يتعلق بنشاط الترفيه".
وقال رئيس الهيئة في مقابلة مع وكالة "رويترز"، إن هدفه هو تحقيق ترفيه "يشبه بنسبة 99% ما يحدث في لندن ونيويورك"؛ لتُقابل تصريحاته بهجوم من المحافظين، ما اضُطر معه الرجل إلى القول إنه قد أُسيء تفسير مقصده، ولكنه بالرغم من ذلك؛ لم ينس أن يقول لمهاجميه "المحافظون عليهم المكوث في منازلهم إذا لم تلق برامج وأنشطة الترفيه المختلفة اهتمامهم".
في وقت سابق على هذه التصريحات، قال مُفتي السعودية عن الحفلات الموسيقية والسينما إنها "فساد ومدمّرة للقيم، وتدعو للاختلاط بين الجنسين"، داعيًا القائمين على الهيئة إلى "ألاّ يفتحوا للشرّ أبوابا".
يذكر الموقع الرسمي للهيئة الجديدة على المُجتمع السعودي، أنها تأسست "تماشيًا مع رؤية المملكة 2030"، والحديث عن تلك الخُطة السعودية لا يقترن إلا باسم واحد: الأمير مُحمد بن سلمان، الذي صار منذ يونيو/ حزيران 2017 ولي عهد للمملكة، بعد أحاديث دارت عن الصعود المفاجئ له.
وبالتوازي مع بروز دور الأمير الشاب على الساحة السياسية، كانت بلاده تتخذ بعض الخطوات المجتمعية في مسار لطالما كان بعيدًا عنها، فعلى سبيل المثال تقرر وللمرة الأولى في تاريخ المملكة تعيين سيدة في منصب مساعد رئيس بلدية، وذلك في محافظة الخبر، وهو ما علّقت عليه وسائل الإعلام السعودية باعتباره تماشيًا مع رؤية 2030.
جاء ذلك بعد قرارات "تقدُّمية" أخرى، كان منها في تموز/ يوليو الماضي ما سمح للفتيات بممارسة الرياضة في المدارس الحكومية، وهو القرار الذي يعود لأعوام سابقة وأوقف محافظو المملكة تنفيذه، لكن هذه المرة لم يتمكنوا من الالتفاف على القرار أو على قرار آخر سمح للسيدات ولأول مرّة بدخول الاستادات الرياضية.
الوصاية ما زالت هنا
قيادة سيارة وممارسة الرياضة وربما أمور أخرى قد تتمتع بها السعوديات قريبًا، ولكن "بما يتناسب مع أحكام الشريعة الإسلامية"، وتلك هي العبارة التي أن يبدو أن المراسيم الملكية لن تخل منها، ولو في الوقت الراهن على أقل تقدير. هذه المحاذير التي يُنَص عليها في كل مرسوم أو قرار يمنح بعض الحقوق الأساسية للنساء؛ تُبيّن أن المحافظين سيبقوا مُراقبين بل وواضعين لشروط وأحكام ممارسة النساء لتلك الحقوق، ما قد يهدد بجعلها إصلاحات بحُرّيات شكلية.
في الأمس القريب كادت لاعبة الجودو السعودية الوحيدة التي وصلت للمنافسات الأوليمبية وجدان شهرخاني أن تُحرم من المشاركة، بسبب تمسّك والدها بالحجاب أمام رفض رئيس الاتحاد الدولي لهذا الأمر لدواعي الأمان، إلى أن وصل الطرفين لنقطة اتفاق بحجاب توافقي يلبي رغبيتهما.
إذن، رجال الدين ما يزالوا هنا، وكذلك بعض الممارسات بحق السعوديات، والتي يأتي على رأسها نظام الولاية، الذي يمنح للذكور سلطة على الإناث، فبموجبه تحتاج المرأة إلى موافقة ولي الأمر قبل أن "تُصدر جواز سفر، تسافر إلى الخارج، تدرس في الخارج بمنحة حكومية، تتزوج، أو تخرج من السجن"، وهي أمور تعني أن طريق إصلاح وجه المجتمع السعودي لا يزال طويلاً.