منذ شهر تقريبًا، ثارت على الشبكات الاجتماعية عاصفة من الغضب قابلها إعصار من السخرية من ذلك الغضب، بسبب إعلان ضخم ظهر فوق كباري ومحاور العاصمة الرئيسة. كان الإعلان الذي تصحبه صورة فتاة يبدو عليها الحزن يسأل: إنتي عانس؟
لكن الغضب انتصر على السخرية، وبعد حملة رافضة قوية - وإن لم تكن مُنظمة- تم رفع الإعلان بقرار من جهاز حماية المستهلك، مع اعتذار الشركة المعلنة، المنتجة لأحد أنواع زيوت الطعام عنه، واستبداله بلافتة إعلانية أخرى تحتفي بقوة النساء. رُفع الإعلان قبل أن يعرف أحد الغرض من مخاطبة غير المتزوجات، اللائي يطلق عليهن لقب "عانس"، ولِم سعت الشركة للتوجه إليهن.
تستند الشركات في إعلاناتها عادة إلى دراسات وأبحاث سوقية، تقوم بها شركات متخصصة أو وكالات الإعلانات الكبرى التي تضم أقسامًا لبحوث التسويق. تقوم هذه الوكالات برصد الفئات السكانية، وتحديد فئات بعينها لديها القدرة الشرائية المناسبة للسلعة أو الخدمة المُعلن عنها، وتخاطب تلك الفئات من خلال التركيز على أوضاعها الاجتماعية واحتياجاتها، كي تخلق لديهم إحساسًا بالاحتياج إلى هذا المنتج، باعتباره قادر على إشباع هذا الاحتياج لديهم، أو قادر على تحسين وضعهم الإجتماعي.
لا ريب أن هذا هو ما فعلته شركة زيت الطعام عندما استجابت لاقتراح الوكالة الإعلانية بالتوجه لـ"العوانس"، فقد رأت أن هناك فئة ما لديها قدرة على الشراء، ويجمعها عامل مشترك هو تأخر الزواج. ربما لدى تلك الوكالة الإعلانية من الإحصاءات ما يُطمئن منتج زيت الطعام بأن "العوانس" كثيرات، ويمكن دفعهن لشراء المنتج.
بحسب معايير المجتمع التي تحدد من هي العانس، أُحسب وزميلات دفعتي ممن بلغن أو تخطين السابعة والعشرين دون زواج من ضمن تلك الفئة التي يخاطبها الإعلان. ربما أكون أكثرهن حظًا لتخرجي في سن أصغر نسبيًا، حيث لم أتخطى السادسة والعشرين بعد. ولكن يجمعني بزميلات دفعتي اللائي لم يتزوجن مثلي – إلى جانب الدراسة والعمل واللقب- أن أينا لا تشعر بأن هناك شيئًا ينقص حياتها بتأخر الزواج. وبخلاف تحمل نظرات الشفقة الحقيقية أو المدعاة من الأسرة والأقارب والصديقات، والرد على العبارة السخيفة "مش هنفرح بيكي بقى؟"، لا توجد منغصات حقيقية في كوننا لم نتزوج بعد.
بحسب الإحصاءات الرسمية، يشكل عدد الشباب والفتيات المصريين بين عمري 15 و45 عامًا حوالي نصف تعداد السكان 49.1% من السكان، بينما تبلغ نسبة من هم بين 25- 45 سنة، حوالي 29.1% أي ثلث السكان تقريبا، نسبة الإناث منهم 11.9%.
لا يتيح الموقع الرسمي للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء -الجهة الرسمية المخولة بإجراء الدراسات الإحصائية الديموجرافية في مصر- نشرته الخاصة بنسب الزواج والطلاق بالكامل. لكن البيان الصحفي الصادر عن الجهاز بخصوص النشرة، والذي نشرته العديد من الصحف؛ يقدم مؤشرات عامة مهمة: منها أن أعلى نسب زواج تكون للفتيات بين 20- 25 عامًا، وتقل معدلات الزواج بتقدم السن، وفي المقابل سجلت نسب الطلاق بين سن 25 إلى 35 عامًا من العمر أعلى المعدلات.
الأرقام والدولة يشهدان إذن، أن النسبة الغالبة من الزيجات الحديثة تقع كلما قل عمر الأنثى، وكلما تقدمت في السن تزيد معدلات الطلاق ويقل معدل المتزوجات حديثًا. والعكس بالنسبة للذكور، تزيد نسب المتزوجين مع تقدم سن الرجال، ما يخلق صورة إحصائية تشهد بما نراه في حياتنا من كون صعوبات الزواج المادية تدفع الرجال للزواج متأخرًا، ولكن -غالبا- من نساء أصغر سنًا.
هذه الصورة في ظاهرها مقبضة ومخيفة، ولكن بالإمعان فيها سنجدها طبيعية جدا في هذا الوقت الراهن، فليست المغالاة في طلبات الأباء، أو رفض راغبي الزواج ممن هم أقل اجتماعيًا أو علميًا من الفتيات هما السببان الوحيدان لتاخر زواج الكثير من الفتيات حد حصولهن على هذا اللقب المُقبض "عانس"؛ بل هناك أسباب أخرى صارت حاضرة بقوة في السنوات الأخيرة، ترتبط بالفتيات أنفسهن، جعلت كثيرات منهن يفضلن هذا اللقب المقبض على الزواج.
مؤخرًا عرضت دور العرض السينمائي فيلما كوميديًا بعنوان "باشتري راجل"، في هذا الفيلم قدمت نيللي كريم نموذجًا لكثير من النساء العاملات الناجحات في المجتمع المصري، اللائي ترفضن القيود الاجتماعية والمشاكل التي صارت مرتبطة بالزواج، والتي جعلت من ارتفاع نسب الطلاق حقيقة أقلقت حتى أكبر مسؤول تنفيذي بالدولة.
النموذج الذي قدمه الفيلم ليس هو النموذج الوحيد، وأسباب بطلته في رفض الزواج وتأخرها فيه ليست الأسباب الوحيدة، فهناك عوامل أخرى منها أن كثير من الفتيات يرين أن لديهن أهداف أكثر أهميه من "هدف الزواج"، بمعنى آخر: كثير من الفتيات كسرن قاعدة المجتمع الروتينية باعتبار الزواج هو أهم هدف للفتاة في حياتها، أهم حتى من "الشهادة" أو إتمام التعليم، أو الوظيفة أو الترقي في المناصب، أو تعلم وإتقان أي شيء تحبه، أو السفر والترحال في بلدان العالم أو أي شيء آخر تريده.
وبالعودة إلى إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، يتبين كيف دأبت الأجيال الأكبر من النساء على الاهتمام بأمور أخرى بخلاف العمل والترقي الوظيفي والعلمي. فإحصاءات العمل تثبت أن نسبة البطالة بين النساء هي الأعلى، حيث تبلغ البطالة بين النساء أربعة أضعاف الرجال. بينما بلغت نسبة النساء في وظائف الإدارة العليا بالقطاع الحكومي 31.2% فقط، وفقًا لإحصاء (2010-2011). ولا تتخطى نسبة النساء على درجة نائب وزير في الإدارة الحكومية 0.6%، أي أقل من 1%، في الوقت الذي يبلغ فيه تعداد النساء في مصر حوالي 49% من السكان.
مفهوم جديد للزواج؟
تشير هذه الأرقام إلى أسباب أخرى تضاف لعزوف كثير من الفتيات عن الزواج في سن مبكر. فقد تغير مفهوم العديدات نحو الزواج عن المفهوم المجتمعي السائد، الذي يفرض عليهن أدوارًا ومسؤوليات معينة كزوجات، لم تعد مناسبة لتغير شكل علاقة الزواج نفسها. فالمسؤوليات المرسومة اجتماعيًا للزوجة يمكن شرحها بالدور الذي كانت تقوم به شخصية أمينة في المرحلة المبكرة من ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة. فالمرأة تضطلع بمهام منزلية محددة مقابل قيام الزوج بإعالتها والإنفاق عليها، وفي المقابل تفقد كل حق لها في الاستقلال والقرار لكونها تابعة اقتصاديًا للزوج "سي السيد".
العوامل التي أنتجت هذه العلاقة لم تعد قائمة، فأغلب الفتيات المتبنيات لقرار رفض الزوج المبكر يتولين الإنفاق على أنفسهن. وتقول الإحصاءات الرسمية أن نسبة النساء المعيلات لأسرهن 34%، منهن نساء لا تزلن على ذمة أزواجهن، غير مطلقات أو أرامل، لكنهن يتحملن الإنفاق على الأسرة بما فيها الزوج، وتبلغ نسبة هؤلاء وفقًا لدراسة أجراها المركز القومي للمرأة -بمناسبة عام المرأة-، 14% من نساء الحضر، و30.6% من سيدات الريف.
إذن فالميزة الاجتماعية بالتبعية الاقتصادية للرجل – إن عددناها كذلك- التي كانت النساء يتحملن في مقابلها أعباء دور الزوجة في المجتمع المصري لم تعد قائمة، ورغم ذلك لم تتغير النظرة الاجتماعية لما هو متوقع من الزوجة. اليوم؛ صارت الفتيات يبحثن عن صيغة أخرى يمكن أن نسميها "الزوج المُشارِك" الذي يتفهم ضرورة وجود صيغة جديدة لتقسيم الأعباء، ويساندها في تحقيق أحلامها وتقدمها العلمي والوظيفي.
مثلا، زميلتي "أ.م" 30 عامًا، متزوجة ولديها طفلتان. تقول إن أهدافها في فترة الدراسة بالجامعة كانت كثيرة، وأنها انضمت إلى اتحاد طلاب الكلية حينما كانت في الفرقة الدراسية الثالثة، ولكن حينما تقدم لها زوجها الحالي تخلت عن كل ذلك وتزوجت عند وصولها للسنة النهائية في الدراسة. هي الآن نادمة على أنها "لم تعش فترة الدراسة بالجامعة كما كانت تريد"، وتتعهد لنفسها بمحاولة السعي في تحقيق أحلامها القديمة عندما تكبر ابنتاها.
الطلاق وتجارب الآخرين
"ن.ي" تراقب التقارير الإخبارية حول نسب الطلاق في مصر. بلغت "ن.ي" 27 عام، ولم تتزوج بعد، وتعمل في وظيفة مرموقة. التقارير الإخبارية التي تقرأها "ن"، تدعم مشاهداتها اليومية في العمل: "معايا ستات كتير متجوزين، لكن في نسبة منهم اتطلقوا، وبيحكوا عن تجاربهم؛ اللي جوزها كان بيضربها واللي جوزها كان بيخونها". صارت "ن" تخشى الزواج "كلهم كانوا يبانوا ناس كويسين قبل الجواز. مضمنش إنه حظي يوقعني في واحد من دول".
بحسب النشرة السنوية لإحصاءات الزواج والطلاق السابق ذكرها، بلغ عدد إشهادات الطلاق في مصر عام 2015، 199867 (حوالي 200 ألف واقعة طلاق نهائي) بزيادة 10.8% عن العام السابق 2014. وتزيد نسبة إشهادات الطلاق في الحضر عنها في الريف. وتشهد محاكم الأسرة يوميًا نظر 1500 قضية، تتصل بطلبات الزواج وحضانة الأطفال والنفقة والخلع. وبلغ عدد قضايا الخلع في 2015 ربع مليون قضية مقابل 89 ألف فقط في العام السابق 2014، ما يشهد بوضع زواجي مؤسف.
وأوضح مركز التعبئة والإحصاء، أن هناك 240 حالة طلاق يوميًا، أي بمعدل حالة طلاق كل 6 دقائق، والمطلقات وصلن لـ2.5 مليون، وقال بيان الجهاز إن معدلات الطلاق في مصر تتزايد بنحو 5 آلاف حالة سنويًا، منها 86 ألفًا في مناطق الحضر، ونصيب الريف نحو 75 ألف حالة.
ورغم كل الإحصاءات والوقائع والدراسات والشهادات التي تدعم قرار من يرفضن الزواج قبل الوصول لمرحلة "العنوسة" لا تتفهم الأسر قرارات بناتهن، ولا يقبلن جملة "لم يئن الأوان بعد"، ردًا على سؤال "إمتى هنفرح بيكي؟" وتضطر كثيرات للخلاص من الضغوط والتضييقات الأسرية بقبول "أي عريس والسلام"، والنتيجة: طلاق أو خلع أو سنوات من تحمل الإساءة أو الحياة دون رضا او سعادة خوفًا من لقب آخر مقبض: "مُطلقة".