نشر هذا التحليل في مجلة "فورين بوليسي"
في 20 يناير/ كانون ثان 1921، أقر مجلس الترك الأعلى البرلمان التركي وقتها "تشكيلات أساسة قانوني" الذي يمكن ترجمته ببساطة إلى قانون التنظيم الأساسي. ستمر ثلاث سنوات أخرى قبل أن يعلن مصطفى كمال – المعروف بـ"أتاتورك" أو أبي الترك- الجمهورية التركية. لكن هذا التشريع كان نقطة تحول فارقة لنظام جديد يتشكل في هضبة الأناضول.
الدولة الجديدة صار اسمها "تركيا"، وفي انفصال تام عن الامبراطورية العثمانية، صُممت تلك الدولة على نهج الخطوط الرئيسة للدولة الحديثة. تُدار تلك الدولة من خلال أجنحة تنفيذية وتشريعية، بالإضافة لمجلس وزراء مُختار من بين الممثلين المنتخبين للشعب في البرلمان. ما كان يومًا سلطة "السلطان" الذي حكم منفردًا بشرعية سياسية ودينية، حل في يد مُشرعين يمثلون سيادة الشعب.
وبشكل يفوق أي عملية تحول إصلاحية أخرى، مثّل قانون التنظيم الأساسي طريقًا للانتقال من حكم العائلة إلى العصر الحديث. وكان هذا التغيير عينه على المحك في الاستفتاء الذي أُعلنت نتائجه مساء الأحد.
أغلب الاهتمام بالتصويت يوم الأحد انصب على حقيقة أن هذا التعديل الدستوري المُستفتى عليه، إنما هو استفتاء على سلطة الرئاسة التركية والسياسي المثير للاستقطاب الجالس على مقعد الرئيس: رجب طيب إردوجان. لكن الحقيقة أن الأمر أكبر من ذلك.
سواء كانوا يدركون ذلك أم لا، فإن الأتراك عندما صوتوا بـ"نعم" كانوا يسجلون معارضتهم لقانون التنظيم الأساسي، ونسخة الحداثة التي تخيلها ومثّلها أتاتورك. ورغم أن المعارضة لا زالت ترفض النائج النهائية للتصويت؛ فإن عامة الأتراك يبدو أنهم منحوا إردوجان وحزب العدالة والتنمية رخصة لإعادة تنظيم الدولة التركية، ونسف القيم التي تأسست عليها تلك الدولة.
حتى إن كانوا قد تلقوا هزيمة مزلزلة، فإن إردوجان لن يتمكن من محو من قالوا "لا"، بل ستنهض بينهم حركة مقاومة كبيرة. النتيجة المتوقعة؛ هي مواصلة الرئيس التركي لحملة الانتقام التي يشنها منذ أشهر سبقت محاولة الإنقلاب الفاشلة في يوليو/ تموز 2016، فمن المتوقع أن تزيد الاعتقالات في الوقت الذي يحاول فيه إردوجان نزع الشرعية عن معارضته في البرلمان. كل هذا سينزع المزيد من عناصر الاستقرار عن السياسة التركية في الداخل.
الإسلاميون الأتراك يحنون دومًا للفترة العثمانية، وهم في هذا يُكِنُّون احتقارًا دفينًا للجمهورية التركية. فنجم الدين أرباكان الذي قاد الحركة [الإسلامية] التركية من نهاية الستينات وحتى سطوع نجم حزب العدالة والتنمية في أغسطس /آب 2001، تمثل الجمهورية التركيةبالنسبة له ثقافة رافضة، وعلمانية قمعية تخدم -ما يراه أؤلئك الإسلاميون- أفكارًا خاطئة تبناها أتاتورك، وظن أنها كفيلة بجعل البلد غربية، وأنها ستدفع الغرب لقبول تركيا كجزء منه.
لكن نجم الدين كان يرى تركيا جزءًا من "المحيط المسلم" وأن مكانها الطبيعي ليس الناتو ومقره في بروكسل، بل كبلد قائدة للعالم الإسلامي، وأن شركائها يجب أن يكونوا باكستان وماليزيا ومصر وإيران وإندونيسيا.
وعندما انفصل عنه حواريوه "تلاميذه المقربين" ومنهم إردوجان والرئيس التركي السابق عبد الله جول، ليؤسسوا حزب العدالة والتنمية، هجروا أفكار أستاذهم المعادية للغرب، وكرسوا أنفسهم لإحراز تقدم في محادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، واصطنعوا لأنفسهم صورة تُقدمهم باعتبارهم المعادل الإسلامي للديموقراطية الأوروبية المسيحية. لكنهم حتى في هذا، حافظوا على الأفكار التقليدية للإسلاميين حول دور محوري لتركيا في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي الأوسع.
المفكرون داخل حزب العدالة والتنمية وأبرزهم رئيس الوزراء السابق أحمت داوود-أوغلو، احتفظوا بأفكارهم المتحفظة تجاه صلاحية المؤسسات السياسية والاجتماعية الغربية للتطبيق في مجتمعهم، الذي تسيطر عليه منظومة الأفكار الإسلامية بالفعل. لكن قيادة الحزب لم تتصرف أبدًا بما يعكس هذه الأفكار، واختارت في المقابل أن تقلل من شأن ميراث أتاتورك داخل إطار العمل الجمهوري. لكن هذاالوضع تغير الآن كليًا.
مناصرو العدالة التنمية الذين صوتوا بنعم، يرون أن النقد الموجه للتعديلات الدستورية غير عادل. يشيرون إلى أن التغييرات لا تقلل من البرلمان والرئيس المنتخبين، ولا تقلل من القضاء المستقل "رسميًا على الأقل". هذا كله صحيح، لكنه أيضًا تفسير مفرط في التبسيط للنموذج السياسي الذي ترسيه رؤى إردوجان. فالحقيقة أن السلطات التي ستمنحها تلك التعديلات للرئيس التنفيذي واسعة للغاية، وتتضمن القدرة على تعيين القضاة دون أخذ رأي البرلمان، وإصدار قرارات لها قوة القانون، وكذلك له أن يحل البرلمان. الرئيس كذلك – بموجب التعديلات- هو صاحب الحق الوحيد في تعيين كافة المسؤولين التنفيذيين في المناصب العليا في الدولة، ويمارس إدارة الجيش حصريًا. هذه التعديلات تلغي الحاجة إلى منصب رئيس الوزارء، والذي سيتم إلغاؤه من الأساس.
المجلس القومي الأعلى لا تزال له بعض الصلاحيات التشريعية إلى جانب بعض القدرة على الإشراف والمراقبة، ولكن لو كان الرئيس ومعه الأغلبية من نفس الحزب، فإن سلطات الرئاسة ستكون غير خاضعة لأي قيود أو مراقبة بشكل فعلي.
مع كل هذا الخلل في التوازن وغياب أية مراجعة لرأس الدولة -الذي سيكون كذلك رئيسًا للحكومة-، فإن هذه التعديلات الدستورية تنسف قانون التنظيم الأساسي، وكل الجهود اللاحقة عليه التي حاولت ترسيخ مفاهيم وممارسات الدولة الحديثة. ويتبيّن من هذا أن إردوجان الذي سيحوز سلطات واسعة لم يحُزها أي زعيم تركي قبله منذ عهد السلاطين، هو في الحقيقة خليفة عثماني جديد.
طموح إردوجان هو ما قاد تركيا إلى هذه النقطة. ولكن عوضًا عن الصورة الكاريكاتورية للرجل الساعي للقوة بغرض القوة وحدها؛ فإن الزعيم التركي لديه فعلا رؤية لتحويل تركيا إلى دولة أكثر رفاهة وقوة، وأكثر إسلامًا كذلك، ما يعني تحولاً أكبر باتجاه القيم الدينية المحافظة التي ستشكل سلوك وتوقعات الأتراك وهم يخوضون حياتهم اليومية.
المشكلة هنا، أن إردوجان مقتنع أنه الشخص الوحيد الذي يملك المهارات السياسية والبوصلة الاخلاقية والقامة والكاريزما اللازمة لتحقيق تلك الرؤية. وبالتبعية؛ فهو بحاجة لحكم الدولة والساحة السياسية بطرق لا يتسنى للرؤساء الأتراك أن يمارسوها. فوفقًا للتقليد التركي؛ فإن الحاكم هو رئيس الوزراء، أما الرؤساء، فيتعين عليهم أن يكونوا في مكانة أعلى من التنازُع السياسي، ويمارسون سلطاتهم المحدودة جدًا بطريقة رجال الدولة.
ومع كل النجاحات السياسية التي حققها إردوجان، فإن صناعة "الرئاسة التنفيذية" التي يطمح إليها؛ ظلت جهدًا صعبًا حتى لحظة تمرير تلك التعديلات. في أكتوبر/ تشرين أول 2011، أعلن إردوجان أن تركيا سيكون لها دستور جديد خلال سنة. وبحلول 2013، وصلت اللجنة البرلمانية المُكَلَّفَة بكتابة الوثيقة الدستورية الجديدة إلى طريق مسدود، فوضع إردوجان نصب عينيه تكليف حزبه هو نفسه "العدالة والتنمية" بكتابة دستور جديد.
وليضمن تمرير هذا الدستور الجديد، كان عليه أن يحوز أغلبية برلمانية كبيرة. ولكن عُقدت بالفعل انتخابات لدورتين برلمانتين، لم يتمكن فيهما الحزب من الاستحواذ على 367 مقعد من أصل 550، وهي المقاعد التي يحتاجها لكتابة وتمرير الدستور دون الحاجة للجوء للاستفتاء الشعبي، لذا اضطر الرئيس التركي للاكتفاء بالتعديلات على الدستور القائم بالفعل من خلال الاستفتاء الذي جرى أمس الأحد.
وحتى يعزز دعم الرئاسة التنفيذية، زاد إردوجان من قلق الناس من عودة عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي الذي سيطر على تركيا خلال عقد التسعينات وبداية الألفية، عندما تولى حكم البلاد حكومات ائتلافية فاسدة وغير جديرة بإدارة التحديات التي تواجه تركيا. كثر من الأتراك ينظرون لتلك الحقبة بالفعل باعتبارها "فرصة ضائعة" يفضلون عدم تكرارها. موجة الهجمات الإرهابية التي نُسبت لانفصاليين أكراد والتي قتلت أعداد كبيرة من الاتراك في الفترة بين عامي 2015 و2016، زادت من قوة رسالة إردوجان حول "حكمة التحول إلى نظام رئاسي خالص".
الرئيس التركي السلطوي سعى كذلك لإخلاء الساحة من أي معارضين حقيقيين يمكنهم جذب انتباه الشعب، وعمل على توسعة وتعميق الحالة السلطوية التركية. تعرضت البيروقراطية التركية للمطاردة والانتقام، وهي عملية بدأت حتى قبل انقلاب يوليو/ تموز الفاشل: حركة "جولن" تم تفكيكها، الصحفيون أُسكِتوا من خلال السجن وتهديدات أخرى طالت حيواتهم، أما الداعين للتصويت بـ"لا" على تعديلاته الدستورية؛ فتعرضوا لمطاردة شرسة.
وكي يبنى تأييدًا للتصويت بـ"نعم" لعب إردوجان جيدًا على المشاعر القومية من خلال اصطناع أزمات مع الحكومتين الألمانية والهولندية، بإطلاق تظاهرات لمؤيدي حزبه في هاتين الدولتين.
ليس من قبيل المفاجأة أن إردوجان لم يدخر أي خدعة في جعبته لدفع تلك التعديلات الدستورية. ففي النهاية؛ هي تعديلات تُقوِّض أسس الجمهورية التركية، وتقضي تمامًا على أية ضوابط أو توازنات في نظام الحكم. القيود على السلطات التنفيذية لم تكن أصلا قوية قبل التعديلات، وقد قضى عليها إردوجان فعلا بالممارسة دون أن يقرها الدستور. والآن، هو يسعى لإكساب تلك التغييرات التي أحدثها شرعية دستورية، لماذا؟
بجانب حقيقة أن السلطويين يسعون دومًا لتقوية ممارساتهم غير الديموقراطية وإكسابها وضع قانوني حتى يدعوا أن ما يفعلونه هو "حكم القانون"، فإن إردوجان بحاجة إلى غطاء قانوني ليواصل تطبيق أجندته الواسعة للتغيير. والطريق الوحيد الذي يبدو قادرًا على تحقيق مسعاه؛ هو أن يتحول إردوجان نفسه إلى سلطان.
إردوجان سلطوي مُستبد، كغيره من الحكام القمعيين المتناثرين في أرجاء العالم. لكنه أيضًا لديه إلهام من التاريخ العثماني الطويل، وهناك عناصر في عهده تردد صدى ذلك العهد البعيد. فكرئيس لتركيا، يميل إردوجان للاعتماد على دائرة أخذة في الضيق من المستشارين، ومنهم أفراد من أسرته هو شخصيًا. "قصره الأبيض" أو القصر الرئاسي في أنقرة بناه بنفسه على أرض كانت مملوكة لأتاتورك، وصار هذا القصر رمزًا مكافئًا – ليس فقط في ضخامته- لقصور السلاطين العثمانيين. ولكن جهوده لضمان الرئاسة التنفيذية تمضي أعمق من هذا.
إردوجان يريد أن يهدم الجمهورية لأنه هو – ومن يمثلهم من الإسلاميين- عانوا كثيرًا على يد من قادوا تلك الجمهورية ودافعوا عنها. سيكون من غير العملي، وغير الواقعي أيضًا، أن يحاول استعادة بنية الحكم العثمانية؛ ولكن في المخيلة التركية الإسلامية، فإن العهد العثماني لا يمثل فقط النموذج الأعلى للثقافة والقوة التركية، لكنه يمثل كذلك حقبة من التقدم والتسامح. وفي الدائرة التي تنتخب إردوجان وحزبه، فإن العدالة والتنمية يمثل صورة معاصرة لهذا الماضي العظيم.
هذا المجتمع الانتخابي الذي يشكله المتدينون من أبناء الطبقة الوسطى التركية، يتمتعون الآن بحريات سياسية وشخصية كانت محرمة عليهم سابقًا. كما صاروا يتمتعون بقفزة اقتصادية واجتماعية كبيرة. وبمنحهم لإردوجان السلطة التي يحلم بها، فهم يتطلعون إلى إنجازات أكبر في حيواتهم الشخصية.
بالطبع هناك ملايين الأتراك الذين رفضوا تعديلات إردوجان، ويخشون من ترسيخ الاستبداد، ويُعِدُّون الجمهورية والأفكار الكمالية "نسبة إلى كمال الدين أتاتورك" التي تمثلها تلك الجمهورية، أشياء مقدسة.
الجمهورية التركية لها تاريخ لا يمكن إنكار تعقيده، بل ويمثل هذا التاريخ إنجازًا كبيرًا. ففي خلال حوالي قرن من الزمن، تحول المجتمع الزراعي الذي مزقته الحروب إلى قوة تتمتع بالرفاه، وله نفوذ يتخطى منطقته الجغرافية المهمة "الشرق الأوسط".
وفي الوقت عينه، فإن تاريخ تركيا المعاصرة له نصيب وافر من القمع وتراجع الديموقراطية وأحيانًا: من العنف. ما يجعل تحرك إردوجان الساعي لترسيخ سلطاته الرئاسية -التي وسعها بالممارسة فعلا- بمثابة سعي لإنهاء أية فرصة مستقبلية لقمع أمثاله من الإسلاميين وتحويلهم إلى "ضحايا الجمهورية".
في النهاية، فإن إردوجان لا يفعل سوى استبدال صيغة استبدادية بأخرى. قانون التنظيم الأساسي والجمهورية التي بنيت على أساسه؛ كانا تعبيرًا عن الحداثة. لكن في الحقيقة فإن هذه الجمهورية التركية مليئة بالعيوب، لكنها كانت رغم تلك العيوب -فيها وفي الدساتير التي تبنتها- تحمل وعدًا بالديموقراطية. تركيا الجديدة التي صاغها إردوجان أغلقت نافذة الامل هذه نهائيًا.