باتريك كوبيرن
ترجمة عن الإندبندنت
أثناء زيارة بوريس يلتسن الرئاسية إلى واشنطن عام 1995، وُجد في إحدى الليالي خارج البيت الأبيض وهو لا يرتدي سوى ملابسه الداخلية. بصوت مبهم شَرَح للعملاء السريين أنه كان يحاول أن يستدعي تاكسي حتى يشتري بيتزا. في الليلة التالية وجده أحد الحراس، الذي ظن أنه متطفل، يتجول ثملًا في بدروم مقر إقامته الرسمي.
سواء كان ثملًا أم لا، فيلتسن والطائشون الذين معه صاروا رمزًا حيًا أمام العالم، ليس فقط لانهيار الاتحاد السوفييتي، إنما للإدارة المختلة في الكرملين وانهيار روسيا كقوة عظمى. من المستحيل أن تتعامل بجدية مع دولة تبدو على زعيمها أعراض الثمالة معظم الوقت، وسياسته تتحدد عن طريق جماعة من أفراد العائلة والمسؤولين الفاسدين الذين يحققون نزوات يلتسين.
عادة ما يُقارِن الإعلام دونالد ترامب بفلاديمير بوتين، يضع الإعلام يده على التشابهات الملعونة بين الرجلين باعتبارهما زعيمين قوميين شعبويين. الرسالة التي تصل هي أن ترامب بهجماته الحادة على الإعلام ينافس سلطوية بوتين. هناك شيء من الحقيقة في هذا، ولكن إذا تحدثنا عن تأثيرات ترامب على وضع الولايات المتحدة وقوتها العالمية، فالتشابهات بين ترامب ويلتسن أكبر من التشابهات بين ترامب وبوتين.
ترامب لا يشرب الكحوليات، ولكن انتقاداته غير المتماسكة لأستراليا والمكسيك والسويد منذ صار رئيسًا تذكّرنا بأسلوب يلتسن المثير للحرج. كلا الرجلين توليا السلطة كزعيمين ديماجوجيين معادين للنظام، فازوا بالانتخابات بعدما وعدوا بإصلاحات وبأن يواجهوا فساد النظام القائم. كانت نتيجة ذلك انهيار روسيا الكارثي والأمر نفسه يمكن أن يحدث لأمريكا.
سيكون من الصعب على الولايات المتحدة أن تظل قوة عظمى تحت حكم زعيم يُعتَبَر رمزًا دوليًا للطرافة وعاد ما يُنظر إليه على أنه منفصل على الواقع. معركته التي يصيح فيها "أخبار مزيفة" تعني ببساطة عدم قدرته على التعامل مع النقد أو قبول الحقائق أو الرؤى التي تناقض حقائقه ورؤاه. زعماء العالم الذين التقوا به يقولون إنهم مندهشون من جهله بأمور جَرَت في الوطن وفي خارجه.
لا يمكن أن يستمر ذلك بدون تراجع كبير للتأثير الأمريكي على العالم، لأن أفعال أمريكا وأحكامها على الأمور ستصير غير متوقعة. على مدار الخمسة وسبعين عامًا الماضية، أرادت كل الدول من مختلف الأطياف السياسية – الديكتاتوريات والديمقراطيات، والجمهوريات والملكيات – أن تكون حليفة للولايات المتحدة لأنها كانت أقوى لاعب في الشؤون الدولية.
ستظل الولايات المتحدة كذلك، ولكن مستوى ريادتها وطبيعته سيتغير بشكل ملحوظ لعدة أسباب. أولًا، لدى الولايات المتحدة زعيم يبدو عليه أنه غير متزن إلى مدى لا ينطبق على أي من سابقيه، ثانيًا، المعركة السياسية في الولايات المتحدة وصلت إلى ضراوة شاملة لم تحدث منذ الخمسينيات من القرن التاسع عشر. هذا لا يعني أن ينتج عن هذه الأزمة حرب أهلية، ولكن المجتمع الأمريكي لم يبلغ هذا القدر من الانقسام المتحقق منذ الصراع بين الشمال والجنوب. منذ اللحظة التي تولى فيها ترامب السلطة لم يُظهر أي ميل نحو التسويات، والانقسام الذي يتسبب فيه يجعل أمريكا حتمًا أقل قوة مما كانت عليه.
الولايات المتحدة في موقع أكثر قوة اليوم مما كان عليه الاتحاد السوفييتي عام 1991، ولكن أبعاد الموقفين متشابهة. كان الاتحاد السوفييتي تجاوز لحظة ذروته عندما تعرض للتفكك، ولكن الولايات المتحدة أضعف مما كانت عليه منذ 15 عامًا. على الرغم من قواتها المسلحة الهائلة، فشلت الولايات المتحدة في الانتصار في حربيها في أفغانستان والعراق وفشلت في تغيير النظام في سوريا. في الحروب الثلاث، ارتكبت أمريكا أخطاء كبيرة وعانت من إخفاقات حاسمة. كان لباراك أوباما حس عال متعلق بكيف يمكن أن يحوّل القوة العسكرية الأمريكية إلى مكاسب سياسية بدون التعثر في حروب لا يمكن الانتصار فيها في الشرق الأوسط وما وراءه. وعلى العكس من انتقادات ترامب لأوباما الذي أجرى صفقات كارثية مع إيران ودول أخرى، فالرئيس السابق ظل بعيدًا عن الحرب الأهلية السورية، التي كان يمكن أن تكون منهكة مثل الحرب في أفغانستان والعراق، وكانت الأولوية لديه هي التخلص من تنظيم الدولة الإسلامية.
ترامب والفيل
قَدَّم المرشح الرئاسي ترامب نفسه على أنه انعزالي، وزَعَم أنه عارض حربي العراق وليبيا، وكان يضع في اعتباره أن الرأي العام الأمريكي لا يريد أن يخوض حربًا مباشرة أخرى في الشرق الأوسط، في حين أن هيلاري كلينتون لم تعد بذلك. ولكن تعيين ترامب لجنرالين كبيرين اثنين، وهما جيمس ماتيس كوزير للدفاع، وهـ. ر مكماستر كمستشار للأمن القومي، يشير إلى سردية مختلفة وأكثر عدائية. وبالفعل هناك خطوات اُتخذت لخلق تحالف سني عربي تقوده المملكة العربية السعودية ومَلَكيات الخليج، وبالتعاون مع إسرائيل، وذلك في مواجهة إيران.
إدارة ترامب ليس لديها سياسة خارجية متماسكة، وعلى الأغلب ستتحرك في البداية بدون تغيير السياسات الخارجية القائمة. ولكن الخطورة ستأتي لاحقًا حينما يكون عليها أن أن تبتكر ردود فعلها الخاصة على الأحداث الجديدة، مثل الهجمات الإرهابية التي يقوم بها تنظيم الدولة الإسلامية، وهنا ستتضح قدرات الإدارة الواقعية. يبدو أنه على الأرجح أن الرئيس الذي يملك هذه الصورة الملتوية الحمقاء عن السويد سيفشل في التعامل بنجاح مع الأزمات المعقدة في اليمن وسوريا والعراق.
انتخاب ترامب يجلب معه ناتجًا سلبيًا آخر، هو ناتج أقل وضوحًا ولكنه يقلّص بالفعل من ريادة أمريكا. لن تكون الولايات المتحدة منقسمة فحسب، ولكنها لن تكون قادرة في المستقبل القريب على شيء آخر سوى التركيز على عواقب سياسة ترامب. عندما ينظر السياسيون والمسؤولون والإعلاميون في الولايات المتحدة إلى روسيا والصين وأوكرانيا وإيران وإسرائيل أو أي مكان آخر في العالم من السويد إلى أستراليا، سينظرون إلى هذه الدول من منظور مشوه بالخيالات والأفكار المسبقة.
ليست الولايات المتحدة وحيدة في ذلك. مسألة العامل الوحيد الذي يُهمّش القضايا الهامة الأخرى ويؤدي إلى إضعاف الدولة يتضح في بريطانيا منذ التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست). توني بلير قال في خطابه الأخير إن "هذه الحكومة موجودة من أجل البريكست وللبريكست ويسيطر عليها البريكست، إنها كيان سياسي ذو غرض وحيد". بخلاف هذا التركيز الوحيد، لا يوجد شيء يهم حقًا، لا الخدمات الصحية ولا الاقتصاد ولا التعليم ولا الاستثمار ولا الجريمة. يشرح بلير: "أولويات الحكومة لا تحددها حقًا التقارير الرسمية ولا الكلمات، ولكن بالتركيز المكثف. الحكومة لا تركز سوى في نطاق واحد وهو البريكست. هم يفكرون به في صحوهم وفي عملهم اليومي، ويتأملون فيه قبل النوم، ويسيطر على أحلامهم أو كوابيسهم".
في الولايات المتحدة، ترامب يمثل همًا مشابهًا يصيب الناس بالهوس. في الماضي كانت الدول الأوروبية الأصغر مثل أيرلندا وبولندا هي التي تتهكم من الانشغال المفرط وغير الصحي بمشاكلها الخاصة. هناك نكتة بولندية تعود إلى العشرينيات من القرن العشرين، تتساءل كيف يتصرف رجل إنجليزي وفرنسي وبولندي يتنافسون على كتابة مقال عن فيل. يكتب الإنجليزي: "الفيل يصطاد في الهند"، ويكتب الفرنسي: "الفيل عاشقًا"، في حين يكتب البولندي ورقة طويلة عن "الفيل والقضية البولندية". في هذه الأيام سيكتب الإنجليزي بلا شك عن "الفيل والبركست" والأمريكي، إذ سُمِح له بالمشاركة في المسابقة، سيكتب مقالًا مطولًا عن "الفيل ودونالد ترامب".