نُشر المقال بالإنجليزية في صحيفة ميدل إيست آي
أنهى رصاص الحكومة أكثر من 800 حياة كريمة خلال ثورة 2011 التي تحل ذكراها السادسة هذا الأسبوع. لقد كان الشهداء محظوظين.
أما بالنسبة للـ 90 مليون مصري الذين سحقهم الحكم القمعي للثورة المضادة الذي أغرق مصر إلى أعماق غير مسبوقة، فهؤلاء هم غير المحظوظين.
ولكن ربما يكون هناك تغيير، وللمفارقة الكبيرة، فالرئيس عبد الفتاح السيسي الذي قاد الثورة المضادة، من الممكن جدًا أن يكون هو المحفز على مواجهة جديدة.
الثوار.. قلوب شجاعة بلا دهاء سياسي
بينما دفنت المئات من العائلات المصرية قتلاها واعتنت الألاف بمصابيها، لا يمكن لوم أحد على سوء فهم الطبيعة الحقيقية للكفاح القائم.
يعتقد معظم الناس أنه كفاح من أجل الكرامة والحرية والخبز، ولكن الجيش كان يحارب دفاعًا عن إمبراطوريته الاقتصادية الهائلة.
"اتبع مسار الأموال" هذه جملة شهيرة من فيلم "كل رجال الرئيس" الذي أُنتج عام 1976، والذي سرد قصة ما قام به الصحفيون لكشف فضيحة ووتر جيت، ويمكن للجملة أن تكون مفيدة هنا.
مع نهاية عام 2011، ووفقًا لمعظم التقديرات، تحكم الجيش على نسبة تتراوح بين 25 إلى 40 في المائة من الاقتصاد المصري. وأسلوب الحكومة في التعامل مع ذلك كان وما زال يتسم بالسرية التامة.
ولكن الأمر الذي يحرصون على سريته ليس طبيعة أسلحة الجيش ولا مواقعه، وإنما هو حجم مبيعات المكرونة والمياه والخدمات والسلع التي يبيعها الجيش، تلك التي تمثل القوة الاقتصادية الحقيقية في الإمبراطورية.
بينما حارب "الثوار" وركزوا على طبيعة النموذج السياسي الجديد،الذي جاء به الإخوان المسلمون، سعت الثورة المضادة – التي جسدها السيسي وموالوه – لحماية مصالحها السياسية على حساب أي شيء آخر. وكما بدا تمتَّع الثوار بروح شجاعة وليس دهاءً سياسيًا.
انظر للمشهد بعد عدة سنوات وأجب على السؤال التالي: إذا تحكم بضعة رجال كبار السن، كما يحدث الآن، في النسبة الأكبر من الاقتصاد، وهؤلاء الرجل "يفتقدون الخبرات والتدريب والمؤهلات المناسبة لتولي هذه المهمة"، لِم يفاجئنأ أن يواجه المصريون الآن سرطان اقتصادي؟
المراقبون لمعسكر السيسي يفهمون أن الأصابع المرتبكة الخطّاءة تضغط على أزرار القطاعات غير الاقتصادية أيضًا.
انظر إلى القنبلة السياسية المتمثلة في قضية جزيرتي البحر الأحمر، إذ تعرض النظام لهزيمة مذلة عندما حكم القضاء الإداري بأن تيران وصنافير مصريتان.
كان الحكم بمثابة صفعة في وجه نظام السيسي، توقف الحكم على بعد سنتمترات من إعلان أن بيع الجزيرتين خيانة عظمى. ولكن المحكمة ذكرت أن تسليم الجزيرتين "خطأ تاريخي كبير"، ويعتبر "تهديدًا دائمًا للأمن القومى المصرى، وإضرارًا بمصالحها الاقتصادية في مياهها الداخلية الإقليمية" .
كان افتقاد الدبلوماسية في الحكم، وسط بيئة تشريعية موالية للحكومة بشكل كامل تقريبًا، رسالة لا تخطئها العين للنظام الذي يعتقد أن القوة أهم من الحق.
من أين ستأتي الأزمة القادمة؟
بعد يوم واحد، وربما سعيًا لإبعاد نَظَر الرأي العام عن كارثة قضية جزيرتي البحر الأحمر، قررت مجموعة السيسي، بذكاء منقطع النظير، أن تشوّه بطلًا قوميًا.
محمد أبو تريكة، نجم كرة القدم المعتزل، والذي يعتبره العديد من الناس أفضل لاعب مصري في العشرين سنة الماضية، أُعلن رسميًا أنه إرهابي، لدعمه للإخوان المسلمين، على الرغم من حكم محكمة سابق أبطل قرار التحفظ على أمواله.
في خلال ساعتين تصدر هاشتاج بعنوان "أبو تريكة مش إرهابي" قائمة تويتر. ولكن سوء الحسابات المضحك هذا لا يعتبر استثناء لدى النظام.
يصرّ النظام الحالي على تحويل المشهد المصري الهاديْ المعتاد إلى بحر هادر من الغضب. وبدلًا من أن يحقق الأمن، فالسيسي مفتون باستعراض عضلات الدولة البوليسية التي تقرّب الدولة من حالة المواجهة.
هذه ليست سوى أحداث الأسبوع الماضي، ولكن إذا كان الحكام الحاليون سيدفعون ثمن انتهاكاتهم المتعددة، إذا استخدمنا مصطلحات معتدلة، فالأغلب أن سوء الإدارة الاقتصادية هي التي ستؤدي إلى ذلك.
يقع معظم المصريين في قبضة تضخم حاد، تضاعفت نسبته تقريبًا في الأسابيع التسعة الماضية، ليصل إلى أكثر من 24.3 في المائة، وزاد تأثيره بسبب الارتفاع الكبير في سعر مواد الغذاء بنسبة 29.3 في المائة. ويمثل ذلك ضغطًا كبيرًا على الحكومة المتعثرة.
مع انعدام الاستقرار الموجود في كل مكان، من أين ستأتي الأزمة القادمة التي ستواجه السيسي؟
لم يصمد التحالف الهام مع السعودية، وهي المانح الاقتصادي الأول للرئيس، وعلى السيسي أن يعرف أن المصريين تعبوا من عدم الاستقرار في السنوات الست الماضية.
وبشكل ساذج، خاصة بالنسبة لرجل مخابرات سابق، ربما توقع السيسي أن تأثير البندقية الموجهة إلى الشعب أعاد الخوف الذي تلاشى أثناء الثورة. ولكن من السهل إثبات أن هذا حساب خاطيء ومميت.
منذ عام 1952، لم تعرف مصر سوى الحكم العسكري، الذي لم يقطعه سوى عام واحد حكم فيه محمد مرسي، وسعى النظام العسكري إلى إقصاء المعارضة والنشاط السياسي عن المشهد العام في مصر. ونتيجة ذلك ظلت الحلول السياسية بعيدة المنال.
أوجز الإعلامي إبراهيم عيسى، من أقوي مؤيدي النظام والذي رغم ذلك تم إيقاف برنامجه التلفزيوني مؤخرًا، الموقف بجملة مناسبة: "النظام المصري ضاق صدره وأصبح لا يسع سوى نفسه".
موت العملية السياسية وحرية التعبير لم تعد سرًا في هذه الدولة السياسية. عندما يتم تشويه الحوار وعندما يتم اعتبار النقد "يبتعد عن المهنية والموضوعية" كما قال السيسي مؤخرًا، لن يقود ذلك سوى إلى المواجهة، وعلى مستوى واسع لا يقتصر على المستوى السياسي.
إذا لم ينصت طرف ما السمع إلى مستوى الأصوات العادية، سيكون البديل المنطقي الوحيد هو الصراخ. إذا استمر الجوع لفترة طويلة، سيسقط الخوف لصالح الغضب المتزايد.
الإجابة ليست في الزعماء المدنيين
إحدى نقاط الانطلاق للتغيير السياسي هي فكرة "بالشعب للشعب". في معظم جوانبها كانت ثورة 25 يناير تعبيرًا سلميًا عن الغضب العميق، ولكن أي مواجهة قادمة لن تكون كذلك.
هناك سببان لذلك: أولًا افتقاد الدولة لأي تنظيم سليم وثانيًا طبيعة السيسي نفسه. حين تحكُم الفوضى تكون نتيجة ذلك على الأرجح انتشار العنف. بوجود السيسي في أحد جانبي المعادلة، أظهرت لنا مذبحة رابعة في أغسطس/آب 2013 أن بين سفك الدماء المصرية وحماية السيادة المصرية والأمن القومي خط غير مرئي.
إذا اندلعت مواجهة أخرى شبيهة بما حدث عام 2011، يعتقد الكثيرون أن عدد الموتى سيكون أكبر كثيرًا من الذين ماتوا في الثورة.
دعونا نكون واضحين هنا، يعكس حكم السيسي، على المستويين الاقتصادي والسياسي، إطارًا شبيهًا باحتلال السلطات الأجنبية. ولتغيير ذلك، يحتاج الأمر على الأرجح إلى سفك دماء غزيرة.
ربما يتساءل البعض لم لا يستطيع زعماء سياسيين مثل محمد البرادعي الحاصل على جائزة نوبل وحمدين صباحي، المرشح السابق للرئاسة أن يقودوا الطريق.
ببساطة، تأثرت مصداقية الرجلين سلبًا إلى حد كبير. غادر البرادعي بعد ثورة عام 2013، وترك مصر، في الوقت الذي كان يشعر فيه العديد من الناس أن وجوده هام. وفقد صباحي الدعم بسبب أنه ترشح أمام السيسي عام 2014، هذا الذي أضفى الشرعية على الانتخابات. ومع عدم وجود زعامات أو مطالب واضحة أو خطة طريق، على الأرجح لن تتبقى سوى الفوضى العنيفة.
المَخرَج رقم 2
البديل والطريق الثاني للتحول السياسي – وهو الطريق الذي لا يريد المصريون الذين يعتنقون النموذج المدني أن يشهدوه بأي ثمن – هو الانقلاب العسكري.
الخيار يتمثل في الشبح المَنتظِر في الإمارات، والذي يتجسد في شخص أحمد شفيق، الذي ينتظر هناك منذ فوز مرسي في الانتخابات عام 2012.
بالنسبة لملايين المصريين شفيق خيار متاح، لأنه كاد أن يحصل على الرئاسة عام 2012، ومع اتجاه الدولة بشكل قوي إلى اليمين أثناء حكم السيسي، يمكن اعتبار شفيق وسطيًا وربما بشكل نسبي شخصية يتوحد الناس حولها اذا استمر السيسي في فقدان داعميه من داخل وخارج البلاد.
في الوقت نفسه، لا يمكن أن نتجاهل وزير الدفاع في بلد يميل إلى الحكم العسكري مثل مصر، لأننا تعلمنا ذلك مع السيسي، الذي صار رئيسًا بعد أشهر قليلة من شغله منصب وزير الدفاع.
بالتالي من المعقول أن يكون صدقي صبحي المتحفظ هو الرجل المهيأ من قبل المؤسسة العسكرية لاحتواء الغضب الشعبي، إلى جانب الحفاظ على مصالح الجيش واستمرار سيطرته على السلطة السياسية.
لا يعرف أحد ما الذي ستجلبه معها أيّ من هذه الخيارات، ولكن بالنسبة للمصريين الساعين إلى التغيير، ستكون هذه ضربة عسكرية لأي طموحات ديمقراطية. يحتاج المصريون إلى جيش ليحميهم من الجيش.
بعد ست سنوات من المحاولة الفاشلة للحصول على الحرية، يواجه المصريون الآن لحظمة مظلمة في مقابل لحظة 25 يناير المشرقة. منذ أيام قليلة اعترف كريس جارفيس رئيس بعثة صندوق النقد الدولي إلى مصر بأن "الجنيه المصري انهار بشكل تجاوز المتوقع، لقد أخطأنا في سياستنا وسوف يعاني الفقراء كثيرًا".
يعلم صندوق النقد أن النظام في خطر لدرجة أن "الحكومة يمكن أن ترضخ لتُبطيء التغييرات". الأمر الهام هو أن الناس العاديين صاروا يواجهون صعوبة أكبر في الحصول على لقمة عيشهم، هذا نسق نموذجي لحدوث مواجهة بين أغنياء الحكومة وطبقة رجال الأعمال الحاكمة من جهة، والذين لا يملكون الذين يصل عددهم إلى عشرات الملايين من جهة أخرى.
التظاهر بأن المعبد المصري تبدو عليه علامات التشقق يقلل من شأن ما يحدث، لأنه على الجبهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية هناك علامات على أن المعبد يسقط.
وأن تقف بلا حراك في مواجهة هذا يعني عدم احترام لذكرى ما يقرب من الألف شخص الذين وهبوا حياتهم أثناء الثورة منذ ست سنوات، في أكثر لحظة حملت الأمل في تاريخ مصر.