مُتَرجَم | شعبوي متهور في البيت الأبيض
جون كاسيدي
ترجمة عن النيويوركر
في مساء يوم الخميس، غرّد جيسون فورمان، رئيس مجلس الاستشاريين الاقتصاديين لباراك أوباما، بصورة له وهو يغادر مكتبه للمرة الأخيرة، وكتب: "نطفيء الأنوار". وسواء كان الأمر مقصودًا أم لا، رددت رسالة فورمان كلمات لورد إدوارد جراي، وزير الخارجية البريطاني في النصف الأول من القرن العشرين، لصديق له في أغسطس/آب عام 1914: "ستنطفيء المصابيح في كل أنحاء أوروبا، ولن نراها مضاءة مرة أخرى في حياتنا".
كلمات جراي، التي كتبها في عشية الحرب العالمية الأولى، يُنظر لها في بعض الأحيان كرثاء لحقبة الرخاء والسلام والازدهار العالمي. وعندما نستمع إلى خطاب ترامب الافتتاحي السوداوي الذي ألقاه وقت تنصيبه يوم الجمعة، يسهل علينا أن ندرك أننا نشهد نقطة تحول تاريخية أخرى.
ربما يتضح لنا مع الوقت أن الخوف والرعب من تولي ترامب للرئاسة أمر مبالغ فيه، ونحن نأمل ذلك، ولكن لا شك في أن هذه المشاعر موجودة بقوة، وليس فقط في الولايات المتحدة. في جميع أنحاء العالم يشعر الناس بالذهول من أن هذا الشخص المزعج وقليل الخبرة ومتقلب المزاج صار رئيسًا لأمريكا. في الحقيقة أثار صعود ترامب أسئلة جوهرية لا تتعلق فقط بمستقبل الديمقراطية في أمريكا، ولكن في مستقبل النظام العالمي كله الذي تقوده الولايات المتحدة، والتي حافظت على موقعها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
بعد الانتخابات، هناك من أشار إلى أن البيت الأبيض سيضبط من سلوك ترامب، وسيجعل سلوكه رئاسيًا بشكل أكبر. ولكن بعد متابعة الطريقة التي تصرف بها ترامب في الفترة الانتقالية الطويلة، يصعب أن تجد أي شخص اليوم يحمل هذا الأمل. ترامب سيظل ترامب، وليس لدينا خيار كبير في ذلك، وعلينا أن نعتاد على ذلك.
حتى بالنسبة للجمهوريين، الذين تحالفوا معه، لن يكون الأمر سهلًا. لم نر من قبل رئيسًا يتبنى شخصية المُصارع المحترف، الذي يكشّر عن أنيابه ويهاجم خصومه، ولا يتجاهل أي شخص يغضبه، حتى أعضاء حزبه. لم نر أبدًا رئيسًا ذا إمبراطوية أعمال موسعة رفض أن يتركها، هذا الذي يعتبره خبراء الأخلاقيات انتهاكًا للدستور. لم نر أبدًا رئيسًا يقضي جُلّ وقته يشاهد التليفزيون ويطلق قذائفه عن طريق المواقع الاجتماعية. لم نر رئيسًا يعبّر صراحة عن إعجابه بالزعيم الروسي السلطوي بينما يعبّر في الوقت نفسه عن ازدرائه لوكالات الاستخبارات الأمريكية.
في النهاية، من الصعب أن نذكر رئيسًا ليس لديه اهتمام كبير بتفاصيل الحكم أو خبرة بها. وين باريت الصحفي الأسطوري بجريدة فيلادج فويس، والذي توفى يوم الخميس عن عمر الحادية والسبعين، تابع ترامب أكثر من أي شخص آخر (نشر كتاب عنه عام 1992). قال باريت لجينيفر جونرمان بعد الانتخابات مباشرة: "دونالد ليس لديه اهتمام بالمعلومات، وليس لديه اهتمام كبير بالسياسة، هو يتصرف من منطلق اندفاعاته".
السلوك الاندفاعي هو أحد الأمور التي تحرك ترامب. ولكن الشيء المقلق هو أن هذه الاندفاعية ممتزجة بالغرائز السلطوية، ووفقًا لبعض التقارير، هي ممتزجة أيضًا بالاهتمام غير الصحي بالديكتاتوريين الشعبويين. وفقًا لمقال عن ترامب بمجلة فانيتي فير عام 1990، قالت زوجته السابقة إيفانا أنه يحتفظ بكتاب يحتوي على الخطابات الكاملة لهتلر بجانب سريره. في نهاية الأسبوع الماضي، عندما سأله صحفي من مجلة "بيلد" الألمانية عن إذا كانت هناك صفات ألمانية فيه، في إشارة إلى نسَبُه الأسكتلندي الألماني، لم يعترض ترامب على عبثية السؤال، وبدلًا من ذلك رد قائلًا: "أنا أحب النظام والقوة".
دبابات في الموكب
في يوم الخميس، نشرت هافنجتون بوست أن فريق الفترة الانتقالية الخاص بترامب طلب أن تكون الدبابات والصواريخ جزءًا من الموكب الذي ينتهي بحَلْف اليمين، ولكن البنتاجون رفض الفكرة. (قال أحد المصادر: "كانوا يفكرون في شيء أشبه بمواكب الميدان الأحمر وكوريا الشمالية"). لم تتأكد القصة، ولكن ترامب لم يُخف رغبته في إظهار بعض ماكينات أمريكا المميتة. صرح ترامب للواشنطن بوست في حوار نُشر يوم الأربعاء: "ربما يسير الجيش في شارع بنسلفانيا، ربما تحلق طائرات الجيش في نيويورك وواشنطن دي سي، بمصاحبة الموكب. أعني أننا سنظهر قوة جيشنا".
كما أشرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي فخطابة ترامب القبيحة وازدرائه للتقوى الليبرالية لا تعني بالضرورة أنه هتلر أو موسوليني، أو حتى فلاديمير بوتين. ولكن رئاسة ترامب تمثل تحديًا للديمقراطية الأمريكية، وللمؤسسات التي تعتمد عليها بشكل أساسي، مثل القضاء المستقل، والكونجرس المستعد لتقديم الإشراف ذي المعنى للفرع التنفيذي، والمٌواطنة الفعالة. وكما كتب ديفيد ريمنيك يوم الخميس، وجود الدستور في حد ذاته غير كافٍ لضمان الحفاظ على الحرية.
في هذه المرحلة المبكرة، هناك الكثير من الأسباب التي تدعو للقلق، ولكن هناك أيضًا بعد الأمل. في تساهل الجمهوريين الجبان مع تجاوز ترامب القواعد الأخلاقية للحكومة، أظهروا في الكونجرس أنه طالما سمح ترامب لهم بتنفيذ أجندتهم المحافظة، فهم مستعدون لقبول تنويعة أمريكية على البيرونية. على الرغم من أن بعض الجمهوريين عبروا عن رفضهم لفكرة أن تُبعِد الولايات المتحدة نفسها عن حلفائها الأوروبيين وأن تتقرب من الحكومة الروسية التي سعت للتدخل في الانتخابات. أيضًا تعهد الجمهوريون تحت قيادة السناتور جون مكين على أن يُجروا تحقيقًا شاملًا في التدخل الروسي في الانتخابات.
في هذه الأثناء، وعلى الجانب الآخر، وجد الديمقراطيون في مجلس الشيوخ أخيرًا صوتهم في مساءلة بعض اختيارات ترامب للحكومة وهي اختيارات مثيرة للشك. ومنها اختيار بتسي ديفوس، الناقدة المستمرة للمدارس العامة والتي اختيرت وزيرة للتعليم، وسكوت برويت المتشكك في التغير المناخي والذي اختير لقيادة وكالة الحماية البيئية، وستيفن منوتشين، المدير السابق لمحفظة وقائية والذي جمع الأموال لحملة ترامب وحصل في المقابل على ترشيح بتولي وزارة الخزانة. لا يسيطر الديمقراطيون في الكونجرس سوى على ثمانية وأربعين مقعدًا (من ضمنها مقاعد المستقلين)، بالتالي لا يمكنهم أن يوقفوا تعيينات ترامب بشكل مباشر، أو أن يمنعوا الجمهوريين من إبطال التشريعات التي وقّع عليها أوباما، من ضمن ذلك قانون الرعاية الصحية، ولكن بإمكان الديمقراطيين أن يعطلوا الأشياء أو أن يستخدموا عملية التصديق على التعيينات ليلقوا الضوء على بعض المناطق التي يمكن أن تبقيها إدارة ترامب غامضة.
ماذا عن الصحافة؟ من بعض الجهات، خاصة شبكات البث، سيكون هناك ميل للتعامل مع ترامب بالتغطية المحترمة نفسها التي تجري عادة مع المكتب الرئاسي (شهدنا بعض الصور الرقيقة للعائلة الأولى الجديدة التي ظهرت هذا الأسبوع). ولكن بخلاف فوكس نيوز، لن يتجاوز التعامل الرقيق هذا القدر. ترامب في حرب بالفعل مع إحدى الشبكات الإعلامية، سي إن إن، وهو يحرص على الهجوم على أي شخص يجرؤ على نَشْر قصة لا تعجبه. أما من جهة الأطراف الأخرى من الإعلام، صار تلقي الهجوم من ترامب نوط شرف، وفي الوقت الحالي، زاد عدد الاشتراكات في العديد من الصحف، من ضمنها النيويوركر ، منذ انتخاب الرئيس في الثامن من نوفمبر. من المؤكد أن هناك حالة شهية عامة للصحافة الجادة والنقدية.
هذا يعيدنا إلى نقطة مبكرة تتعلق بالحاجة إلى مواطنة فعالة ومُشارِكة. لا ينبغي أن ننسى أن ترامب خسر من جهة الأصوات الشعبية بنسبة تصل إلى ثلاثة ملايين. في يوم السبت، جرت مظاهرات واسعة النطاق في العشرات من المدن الأمريكية، وتتقدم إلى الغرب نحو شارع الاستقلال، ثم إلى اليمين في الشارع الرابع عشر، ثم إلى الشرق في شارع الدستور، جنوب البيت الأبيض.
أمريكا أولًا
في هذه الأثناء يترقب الناس ما يحدث في أمريكا بقلق وفزع. لأربعة وسبعين عامًا، قادت الولايات المتحدة النظام العالمي، اعتمادًا على المصالح المشتركة، وتعزيز التجارة، وأخيرًا دور أمريكا المهيمن على العالم (هيمنة مشتركة حتى عام 1989). وصول ترامب للسلطة يشكل قطيعة مع هذا النظام بشكل بلاغي على الأقل. إذ أنه يصف نفسه بأنه يضع أمريكا أولًا، وتحدث منتقدًا العديد من المؤسسات التي تقيّد "السلام الأمريكي" Pax Americana، ومن ضمنها الناتو، والاتحاد الأوروبي، ومنظمة التجارة العالمية. انتقد التدخلات العسكرية الأمريكية، وفي بعض الأحيان لا بد أن يقال إن حجته قوية في ذلك. تعهد أن يعيد التفاوض في الاتفاقات التجارية، وإذا اُعتبر ذلك ضروريًا أن يضع جمارك ثقيلة على البضائع المستوردة من المكسيك والصين والدول الأخرى.
بعد رصد انتصار ترامب وصعود الشعبوية التي تتسم برهاب الأجانب في العديد من الدول الغربية الأخرى، قال مارتين وولف، كبير المعلقين الاقتصاديين في فاينانشيال تايمز: "باختصار نحن في نهاية كلا من الحقبة الاقتصادية – المتعلقة بالعولمة التي يقودها الغرب – والحقبة الجيو سياسية التالي للحرب الباردة (لحظة القطب الواحد)، بقيادة أمريكا للنظام العالمي".
يمكن أن يكون هذا الحكم سابقًا لأوانه. فالاقتصاد العالمي متشابك جدًا في هذه الأيام، ويحتاج الأمر إلى صدمات هائلة أو تغييرات سياسية ليعود هذا الوضع إلى الوراء. والشركات الأمريكية متعددة الجنسيات مثل آبل وفيسبوك وجنرال موتورز تستفيد من العولمة وتدعمها. عيّن ترامب في حكومته ريكس تيليرسون، الرئيس السابق لإكسون موبيل، أكبر شركة نفط، وجاري كون، الرئيس السابق لـ "جولدمان ساكس"، بنك الاستثمار الرائد في العالم. ترامب نفسه يزعم أنه ينحاز إلى التجارة، ولكنه يقصد هنا ما يسميه "التجارة العادلة".
ولكن في خطابه الافتتاحي أوضح ترامب أنه على الأقل سيحاول أن يلوي عنق العولمة قليلًا لصالح عمال المصانع الأمريكان. عاد إلى البلاغة الشعبوية التي ساعدته في حملته وقال: "ثراء الطبقى الوسطى يُسرَق من بيوتهم ويُعاد توزيعه في أنحاء العالم"، وأضاف: "منذ هذا اليوم، لن يكون هناك سوى أمريكا أولًا، أمريكا أولًا، كل قرار سيُتخذ لحماية العمال الأمريكيين، والعائلات الأمريكية".
على الصعيد الجيوسياسي، لا يتضح ما الذي سيفعله ترامب، وهذا هو أعظم هم بالنسبة للعديد من الناس، هنا وفي أنحاء العالم. على الرغم من مزاعمه بأن القوات المسلحة الأمريكية تُستهلَك، تظل الولايات المتحدة حتى الأن الأقوى عسكريًا، والبلد الوحيد القادر على تحقيق إرادته في أي مكان في العالم. ولكن كيف سيتولى ترامب هذه المسؤولية؟ في خطابه تعهد ترامب "بتدعيم تحالفاته القديمة وأن يشكل تحالفات جديدة" وأن "يمحو" الإرهاب الإسلامي "تمامًا من على وجه الأرض". ولكنه أيضًا ردد بعضًا من الأفكار الانعزالية الجديدة التي تحدّث عنها خلال حملته، قائلًا إن أمريكا "تدعم جيوش البلاد الأخرى" و"تدافع عن حدود بلاد أخرى بينما ترفض أن تدافع عن بلدها". تشير لغته ولهجته إلى انتهاء الأيام التي كانت أمريكا تعتبر نفسها فيها زعيمة عالمية سخية، مستعدة للتضحية من أجل الفائدة المشتركة لكل الدول.
بالطبع هذه ليست سوى كلمات. في تلك المنطقة، مثلما في المناطق الأخرى، هناك العديد من الأشياء غير المؤكدة المتعلقة بما سيفعله ترامب وإدارته الجديدة. أقصى ما نأمله هو أن نكون دخلنا مسرح العبث فحسب، لأن أي شيء مختلف عن ذلك سيكون أكثر سوادًا.